الزيت والزيتون والتونسيون

المهدي مبروك

لوكان علم تونس يتّسع شجرةً لأضاف إليه التونسيون “الزيتونة”، فبها سمّي أعرق جوامعهم (الزيتونة)، وبها استظلّوا عند الحرّ وتدفّؤوا من خشبها عند القرّ، ولهم فيها منافع أخرى. تبدو تونس لزائرها غابةً فسيحةً من الزياتين، تقدّم العديدُ من المصادر الرسمية أرقاماً متقاربةً تفيد أن البلاد تملك ما يناهز مائة مليون شجرة، تمنحنا تقنيات التصوير من الجوّ، ومختلف التطبيقات التي تراكمت مختصّة في هذا الفنّ، مشاهدَ بديعةً. لا يعرف التونسيون سرّ تسمية بلدهم “تونس الخضراء”، لكنّ الأرجح أن الفاتحين انتبهوا إلى تلك الشجرة الخضراء، التي خفّفت من مناخ تونس شبه الجافّ لتمنحهم الخضرةُ حياةً وبهجة. حين تختفي تلك الشجرة من بعض المناطق يشعر الناس بالوحشة والخلاء. الفراغ يقابله في جغرافيّتهم الذهنية اختفاء شجرة الزيتون. هناك أشجار أخرى نافست الزيتونة خضرةً وسنّاً وانتشاراً، على غرار الرمّان والتّفاح والنخيل، ولكن تظلّ الزيتونة أكثرها حضوراً وبهاء. جلّ الرحالة الذين مرّوا بتونس خلال العصور الوسطى (بدءاً من ابن بطّوطة) لفتت انتباههم هذه الشجرة.
يدّعي التونسيون أن زيتونتهم هي الأصل، وأن ما نبت منها في بقيّة المتوسّط كان قد تناسل منها، وتذهب الحكايات والأساطير لتلوي عنق التاريخ والحقيقة. المُتخيَّل أقوى من الوثائق كلّها التي تبرهن أن الزيتون جاء إلى بلدهم من مناطقَ أخرى، سواء في بواخر الغزاة أو في قوارب التجّار. زيتونتهم هي الأصل والبقية فروع لها. عديد من قطع الفسيفساء ظلّت شاهدةً على هذه العراقة. ما زال كبار الفلاحين يشيرون إلى زيتون الرومان، وزيتون عزيزة عثمانة، أو بعض الأسماء الدالّة حقيقةً أو متخيّلاً عن قِدَم الزيتون الذي قاوم الجفاف. وعمليات التسمية الأولى تشير إلى بقايا زياتين شاخَ الزمن وظلّت عنيدةً كأنّها بقايا عظام الديناصورات أو ما شابه ذلك. الرومان أولعوا بالزياتين، وإن كانت البلاد تسمّى أيضاً مطمور روما، للدلالة على الأقماح ومختلف الحبوب التي كان الرومان يقتاتون بها حينما استولوا عليها، وضمّوها إلى إمبراطوريتهم، وهناك بعض أيضاً يضيفون إلى تلك الخيرات الزيتون. شهدت البلاد في العهد الروماني أفخم معاصر الزيتون في حوض المتوسّط، وما زالت عديد منها قائمةً تحفظها المواقع الأثرية العديدة.

يدّعي التونسيون أن زيتونتهم أصل، وما نبت منها في بقيّة المتوسّط تناسل منها

أمّا عزيزة عثمانة، فهي إحدى الأميرات العثمانيات عاشت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعرفت بأعمالها الخيرية العددية، ومنها بناء المشافي ودور الأيتام، وقد أولعت بزراعة الزيتون، وجعلها وقفاً تموّل به أعمالها الخيرية.
خلال القرن العشرين، عرفت البلاد مع مجيء الاستعمار واستحواذه على عديد من الأراضي الفلاحية زراعة الزيتون، وتواصل الأمر مع دولة الاستقلال، التي واصلت زراعة هذه الشجرة ضمن أشغال كبرى شغّلت فيها عشرات الآلاف من الفلاحين الفقراء. كثير من الزيتون يسمّى حالياً بأسماء بعض المسؤولين المحلّيين، الذين شغّلوا ما سمّي “الحضائر”. تمكّن العديد من صغار الفلاحين من تدريس أبنائه بفضل تلك الزياتين. لقد منحت تلك الأشجار شيئاً من القدرات الذاتية أو ما يسمّى حالياً بالتمكين الاقتصادي، أي شكل من الاقتصاد لصغار الفلاحين. تمكّن عديدون من جيل الاستقلال من التعليم وتحقيق الصعود في المصعد الاجتماعي بما كانت الزياتين القليلة تمنحه لأولئك الفلاحين. شهدت البلاد تحوّلاً كبيراً سمّاه عالم الاجتماع التونسي المولدي الأحمر التحوّل “من الشاة إلى الزيتونة”.

تُصاب ذاكرة التونسيين بأعطاب حين يرون زيتهم يباع بثمن بخسٍ لا يغطّي دموعهم التي بها سقوا زياتينهم خلال خمس سنوات من الجفاف

حدث تطوّر لافت في البنيات الاجتماعية والذهنية حينما تمت النقلة من الشاة (من رعي الغنم التي سادت البلاد مع قدوم الهلاليين، وهم قبائل عربية قدمت البلاد واستوطنت السهول وعممت فيها تربية الأغنام، ضمن نظام اقتصادي اجتماعي قائم على اقتصاد الرعي، وتواصل ذلك قروناً) إلى تعميم الزيتون نشاطاً اقتصادياً وطنياً، وقد بدأ ذلك قبل الاحتلال أيضاً. كانت الزيتونة أيضاً ذريعة لاستعمار هذه البلاد حينما استوطن القناصل الأجانب مدن الساحل التونسي وتحكّموا في تجارة الزيت. كما رُهِنت العديد من ضيعات الزياتين الكبيرة وبيعت لاحقاً إلى شركات استعمارية. تذكر كتب التاريخ أن حاكم تونس آنذاك أحمد باي عاقب من استوطنوا المنطقة التي تقع شمال الساحل التونسي في الجزء الشمالي من السباسب السفلى (أولاد سعيد)، واستولى على هنشير النفيضة، وحولهم عمّالاً به (خماسةً). لقد منحه للمصلح خير الدين التونسي الذي باعه لشركة استعمارية ستجعل منه مطيّةً للتدخّل الاستعماري، وقد عجزت البلاد عن تسديد ديونها لفرنسا.
زار الرئيس التونسي قيس سعيّد أخيراً هنشيرَين (ضيعتين كبيرتين من أملاك الدولة)، وهما الشعّال في محافظة صفاقس، والنفيضة، ضمن حملة يقودها ضدّ الفساد. تأتي الزيارتان في ذروة موسم جني الزيتون، وفي تصريحات مقتضبة أشار إلى التلاعب والفساد اللذان نخرا إدارة هاتين الضيعتَين، داعياً إلى جلاء زراعي جديد. يدغدغ بذلك ذاكرة التونسيين الذين استعادوا زياتينهم وأرضهم من المستعمر الفرنسي سنة 1964، غير أن هذه الذاكرة تصاب بأعطاب كثيرة حينما يرون الانهيار الكبير وغير المسبوق لأسعار الزيت، زيتهم هذا الذي فاز بأرقى الجوائز العالمية يباع بثمن بخسٍ لا يغطّي دموعهم التي بها سقوا زياتينهم خلال ما يزيد على خمس سنوات متتالية من الجفاف. “لو يذكرُ الزيتون غارسَهُ/ لصار الزيت دمعاً!/ يا حكمة الأجداد..”. ربّما كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش يقصد التونسيين أيضاً، وهو الذي أحبّ تونس، هذه البلاد وزيتونها الذي يشبه زيتون فلسطين، وقد يكون منها.

 

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى