“وأعُدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحثُ عن حدود أصابعي
فأرى العواصَم كلّها زَبَدَا…”.
كان محمود درويش يلجأ إلى الحلم عندما تنسدّ دروب الأمل، كذلك كان أحمد العربي وقت الحصار. فالحلم هو الملاذ الوحيد عند فقدان الأمل بالواقع. وهكذا ألجأ إلى شعر درويش عند أيّ كلام يحكي عن فلسطين.
يذكر الإصحاح 6 من السفر الذي يروي قصة يشوع بن نون في التوراة: “وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ. وَقَالَ يَشُوعُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَجَسَّسَا الأَرْضَ: ادْخُلاَ بَيْتَ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ وَأَخْرِجَا مِنْ هُنَاكَ الْمَرْأَةَ وَكُلَّ مَا لَهَا كَمَا حَلَفْتُمَا لَهَا. فَدَخَلَ الْغُلاَمَانِ الْجَاسُوسَانِ وَأَخْرَجَا رَاحَابَ وَأَبَاهَا وَأُمَّهَا وَإِخْوَتَهَا وَكُلَّ مَا لَهَا، وَأَخْرَجَا كُلَّ عَشَائِرِهَا وَتَرَكَاهُمْ خَارِجَ مَحَلَّةِ إِسْرَائِيلَ. وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا، إِنَّمَا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ”. حاصروا المدينة ومنعوا أهلها من الدخول والخروج، ثمّ أحرقوا كلّ من فيها وقتلوا أهلها بالسيف.
لا تهمّ في الكلام صحّة هذه الرواية من الناحية التاريخية، فحتى المراجع اليهودية الجادّة تتشكّك في كون هذه الرواية تتعلّق باليهود، وتعتبر أنّها من القصص الشعبية المتناقلة عبر التقليد الشفوي، وربّما تعود إلى قصص كارثة كبرى حلّت بالحضارات المعروفة في أواسط القرن الثالث عشر قبل الحقبة التاريخية الحالية، عند نهاية العصر البرونزي، كما أراد علماء التاريخ تسميتها لتحريرها من المغزى الديني.
ما يهمّ هو أنّ هذه الرواية يعتبرها المؤمنون بها حدثاً تاريخياً واقعياً عجائبياً يؤكّد في تداعياته أنّ بني إسرائيل هم شعب “يهوه” المختار، وأنّ حقهم على حياة “الغويم”، أي غير اليهود، يشرّع لهم القتل من دون رادع إنساني أو أخلاقي، لأنّ التشريع آتٍ من عالم فوق البشر.
يؤكّد التاريخ الموثّق أنّ الصهيونية اليهودية كانت، وما زالت، فكرة سياسية علمانية، أسّسها يهود على أساس سياسي منذ مؤتمر “بازل” 1897
الصّهيونيّة علمانيّة… بلباس الأساطير
يؤكّد التاريخ الموثّق أنّ الصهيونية اليهودية كانت، وما زالت، فكرة سياسية علمانية، أسّسها يهود على أساس سياسي منذ مؤتمر “بازل” 1897، ونمت وترعرعت على حوافي السعي الاستعماري الغربي، ونقلت تحالفاتها بشكل براغماتي على أساس المصالح. لكنّ هذه الفكرة العلمانية بالكامل لجأت إلى الأساطير التوراتية التي تشكّل الرابط الأهمّ لليهود عبر العالم، بغضّ النظر عن عمق إيمانهم بالتوراة، على أساس أنّها أساطير تأسيسية للروابط بينهم. في كلّ الأحوال، فلكلّ شعب أساطيره التأسيسية الجامعة التي لا تحتاج إلى الإثبات، ولا يجرؤ أيّ من المنتسبين على طرحها موضع المساءلة خوفاً من الإبعاد والإفراد خارج المعسكر الاجتماعي.
تعتبر قصّة يشوع بن نون من الروايات الأساسية التي يتربّى عليها أطفال اليهود في فلسطين، أكانوا في مدارس التلمود أو في النظام الوطني المدرسيّ غير المتديّن. ومن خلالها تدخل فكرة الحقّ على حياة الغويم في عمق أنفس هؤلاء الأطفال، وتصبح مسألة العنصرية الإجرامية غير قابلة للنقض أو الانتقاد، حتى من قبل المجتمعات غير المؤمنة بحقيقة التوراة التاريخية. شفي الكثيرون من اليهود، في إسرائيل وخارجها، من هذه اللوثة العنصرية، لكنّ معظم من شفي بقي يعتبرها مفيدة سياسياً، أكان ضمن اليهود لتسويغ القتل والتدمير من دون رادع أخلاقي، أو لجهة الصهاينة غير اليهود.
تعتبر قصّة يشوع بن نون من الروايات الأساسية التي يتربّى عليها أطفال اليهود في فلسطين
نابليون حين قسّم العالم الإسلاميّ
لم تكن إسرائيل صنيعة الولايات المتحدة الأميركية بالذات، ففكرة زرع كيان يهوديّ على مفرق الطرق بين إفريقيا وآسيا كانت من بنات أفكار نابوليون في حملته الشرق الأوسطية التي أجهضها الطاعون والقتال على أسوار عكا سنة 1799. لم تكن فكرة نابوليون نابعة أبداً من منطق ديني، وهو الذي كان يسخر من سلطة رجال الدين، بل من كونها أداة استعمارية تجعل من هذا الكيان مستوطنة تابعة له وتحت حمايته، تقسّم العالم الإسلامي في وسطه. كان ذلك في خضمّ الحرب المستمرّة بين إنكلترا وفرنسا على المستعمرات، وكان نابوليون يريد استعمال فلسطين اليهودية كمحطّة للانطلاق نحو قلب آسيا، والقارّة الهندية بالذات.
ذهب نابوليون وبقي المشروع، وظهرت فجأة دعوات أنغلوسكسونية، إنجيلية المنشأ، أصبحت تدعى “الصهيونية المسيحية”، إلى عودة اليهود إلى فلسطين، لكن ليس من أجل نصرة اليهود، بل لتعجيل عودة المسيح وفناء معظم اليهود، ما عدا فئة صغيرة تتبعه. لكنّ الواضح بشكل عامّ هو أنّ أساس تلك الدعوات له خلفيّة سياسية استعمارية. دخلت الولايات المتحدة الأميركية على خطّ وعد بلفور بعد الحرب العالمية الأولى بوجود رئيس أميركي مؤيّد للصهيونية، ومستشارين كبار يهود وصهاينة أقنعوا “وودرو ويلسن” بالمشاركة بالحرب العالمية الأولى لهزيمة ألمانيا. ثمّ تجاهل ويلسن توصيات لجنة “كينغ-كراين” الأميركية التي اعتبرت الاستيطان اليهودي في فلسطين أمراً سيثير نزاعات لا حصر لها، ويضرّ بمصالح أميركا.
لكنّ المملكة المتحدة بقيت الداعم الأوّل لسياسة الاستيطان اليهودي لأنّها الدولة المنتدبة على فلسطين. من جهة الولايات المتحدة، فقد بقيت مسألة معاداة السامية متأصّلة عند معظم العامّة، وبالأخصّ البيض الإنجيليين، وكانت تهمة العمالة للاتحاد السوفيتي جاهزة في وجه الناشطين اليهود في المسائل المتعلّقة بالحقوق المدنية. الجدير ذكره أنّ الزوجين اليهوديَّين روزنبرغ قد أُعدما سنة 1951 بتهمة التجسّس للشيوعيين، في سابقة لم تتكرّر في زمن السلم في أميركا.
لم تكن إسرائيل صنيعة الولايات المتحدة الأميركية بالذات، ففكرة زرع كيان يهوديّ على مفرق الطرق بين إفريقيا وآسيا كانت من بنات أفكار نابوليون في حملته الشرق الأوسطية
لماذا أوقفت أميركا “العدوان الثّلاثيّ”؟
بعد مجزرة قبية سنة 1953 التي قام بها أرييل شارون، بتوجيه من ديفيد بن غوريون، وبعد الإدانات العالمية بحقّ إسرائيل، تأسّست لجنة التأثير اليهودية في أميركا لدعم إسرائيل والتأثير على الرأي العامّ الأميركي بتوجيه من قادة الصهيونية. لكنّ هذه اللجنة لم تتمكّن من تحقيق الكثير من الدعم بدليل أنّ الولايات المتحدة وقفت بشكل حاسم ضدّ العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وأجبرت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على وقف العدوان، ثمّ انسحاب إسرائيل من كامل سيناء. لم يكن هذا الأمر لنصرة العرب ولا بادرة طيّبة تجاه جمال عبد الناصر الذي كان قد أمّم قناة السويس بعدما فشل في نيل قرض من البنك الدولي لبناء السدّ العالي. الغريب أنّ الولايات المتحدة كانت وراء عدم إعطاء القرض من خلال تأثيرها المباشر على البنك الدولي. هدف أميركا من ردّ العدوان الثلاثي كان إعلان أفول نجم الإمبراطوريات الغربية القديمة، وتسلّمها زمام الأمور كقائدة مطلقة للعالم الغربي.
ما الذي حصل إذاً بعد ذلك لتصبح إسرائيل جزءاً من أميركا؟ ما يجهله معظم الناس أنّ الولايات المتحدة الأميركية قامت على خلفية أصولية دينية يوم كان روّاد مستعمري أميركا الشمالية من البوريتان والبلغريم يسعون إلى إقامة مجتمع نقيّ دينياً مبنيّ بشكل حرفيّ على الكتب المقدّسة، وبالأخصّ النسخة المسيحية من التوراة. وقد أتت تسمية المستعمرات في العالم الجديد مستوحاة بالإجمال من مراجع توراتية.
مقلاع داود… وهزيمة العماليق
من هنا تدخل روايتان مرجعيّتان دائماً في عمق التربية للناشئة، وهما قصّة مقلاع داود وسقوط أسوار أريحا. الرمزية هي أنّ تكنولوجيا المقلاع تجعل من فئة صغيرة في الحجم والقوّة الجسدية والعدد تتغلّب على العماليق، كما أنّ التصفية العنصرية والتدمير ليسا فقط مسموحين ضدّ الغويم، بل هما تنفيذ لأوامر إلهيّة.
سنة 1967 كانت الولايات المتحدة الأميركية منشغلة بحرب فيتنام المكلفة بشرياً وسياسياً لأنّها تشارك فيها بشكل مباشر، من ضمن صراع الحرب الباردة. نجاح إسرائيل الأسطوري في حرب الأيام الستّة، التي حُسمت في الساعات الأولى من دون مساعدة أميركية، لفت أنظار الدولة العميقة في أميركا إلى احتضان داود ويشوع وجعلهما وكيلَيها في الشرق الأوسط. منذ ذلك التاريخ، لم يعد القرار في إسرائيل مستقلّاً، وإن بدا نتيجة مسار ديمقراطي محلّي، فقد بات نتاج تشابك المصالح مع الدولة الفعلية في أميركا، وأصبحت هذه العلاقة مستدامة بغضّ النظر عن الحزب الموجود في السلطة. من هنا، كان مسار التحالف العضوي بين إسرائيل وأميركا مستداماً بغضّ النظر عن اسم الرئيس أو الحزب في الدولتين، لكنّ وهم التداول الديمقراطي للسلطة يجعل من مسرحيّة الخلافات نوعاً من التقيّة. الحقيقة الثابتة هي أنّ أيّ رئيس أميركي سيعتبر داود ويشوع حليفَيه، وإن على حساب حياة الغويم!
المصدر: أساس ميديا