عقد اجتماعٌ، أواخر يونيو/ حزيران، بين السكرتير الأول للبعثة الروسية الدبلوماسية الدائمة إلى الأمم المتحدة في جنيف، سيرغي ميتوشين، ومجموعة من السياسيين السوريين المعارضين والمنتمين إلى الطائفة العلوية، بين أبرزهم عيسى إبراهيم، الذي نعرف عنه، قبل كلّ شيء، أنه حفيد الشيخ صالح العلي، أحد قادة الثورات السورية الأولى ضدّ الإنتداب الفرنسي. والرسالة التي أراد المشاركون إيصالها إلى الروس والعالم أنهم يرفضون وصف الثورة السورية بأنها “ثورة سنية على نظام علوي، ورسالتنا كانت أن هناك نظاما من طغمة متنوعة، وكذلك معارضة متنوعة، وكلاهما يستخدمان عصبيات فئوية مجتمعية لتحقيق أغراض سياسية”. وأصدر المشاركون بيانا رفضوا فيه ربط مستقبل الطائفة العلوية بمصير النظام الذي لا يمثلهم، كما يقولون، مضيفين أن العلويين السوريين لا يقبلون أن يكونوا رهينة بيد النظام.
عيسى إبراهيم مثال للمثقف السوري العلوي الذي يجد نفسه وسط جملة من المتناقضات، فمن جانب هو معارض أصيل لنظام الأسد، وهو بدون شك يبحث عن سورية لا مكان فيها للأسد وعائلته: سورية ديمقراطية، لا مركزية، ولا تقوم على فكرة المحاصصة الطائفية، تكون السلطة فيها للشعب، ويعبر عنها بنظام برلماني من غرفتين. وسورية المستقبلية هذه، كما يراها إبراهيم، لا تختلف كثيرا عن أفكارٍ كثيرة تطرحها حاليا مجموعات سياسية متنوعة، تعتبر أن سورية يجب أن تقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون وحقوق الإنسان وفصل السلطات.
عيسى إبراهيم من جانب آخر، كما يصف نفسه، علوي مؤمن، وهو حريص على مجتمعه العلوي السوري، من حيث حرصه على انتمائه المجتمعي من جهة، وعلى وحدة السوريين من جهة ثانية. ولكن مشكلته أنه ورفاقه لا يمثلون إلا قشرة رقيقة من المجتمع العلوي، القشرة المثقفة الواعية لمصلحة البلد ومصلحة الطائفة الحقيقية. يدرك إبراهيم أن آل الأسد قد اختطفوا الطائفة رهينة ومطية للوصول إلى مآربهم التي تتمثل في الثروة والسلطة. ويدرك ورفاقه أن الأسد قتل من العلويين في حربه على السوريين (بالمعنى النسبي) أكثر مما قتل من الطوائف الأخرى، وأنه أوجد في التركيبة السكانية للعلويين فجوتين كبيرتين، عمرية والأخرى جندرية، فالأعداد الكبيرة التي دفع بها الأسد إلى الموت هي من الذكور الشباب بين السادسة عشرة والخامسة والثلاثين عاما. وتتحدث الأرقام عما لا يقلّ عن مائة ألف قتيل من هذه الفئة العمرية من الرجال، ما سينعكس على خللٍ في عدد حالات الزواج وعدد المواليد وفي بنية الأسرة العلوية نفسها. ولكن كثيرين من أفراد المجتمع العلوي لا يشاركون عيسى إبراهيم في فهمه. بالنسبة لمعظم الطائفة، ثمّة خطر سلفي سنّي متطرّف ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم. إن لم يقضِ هذا الخطر عليهم قضاء مبرما، فهو على الأقل سيسلبهم “مزاياهم”. وقد وضعت مفردة مزايا بين حابستين عمدا، لأن ما يحسَبه العلوي العادي مزية ليس أكثر من فتاتٍ يرميه إليه من هم في قمة هرم النظام الذين يستخدمونهم كبيادق في معركتهم الوجودية.
ثمّة حقائق لا جدوى من الهرب من التفكير فيها. لقد عانى العلويون السوريون اضطهادا حقيقيا في فترات سابقة. وكانت معاناتهم مضاعفة ثلاث مرّات، فكانت أولا جزءا من معاناة الريف السوري عموما الذي كان متأخرا جدا عن المدينة، وطالما نظرت المدينة إلى الريف نظرة فيها دونية، وينقصها الاحترام اللائق. ولكن معاناتهم كانت أكبر لأسبابٍ طائفيةٍ بحتة، فكان العلوي يعاني من كونه ريفيا وعلويا، فيكون العبء مضاعفا. وأخيرا، كان جزءٌ مهم من معاناة الفلاح العلوي نتيجة اضطهاد الإقطاعي العلوي نفسه. ونحن نعرف أن ثمة بضع عائلات علوية كانت تتملك سوية مع أسر حموية ودمشقية قرى بأكملها في جبال العلويين والسهول المحاذية لها.
مع وصول حزب البعث (تأسس من تحالف بين مثقفي المدينة الذين درسوا في الغرب وعانوا من قلق فكري ووجودي وهم يتعلمون من أوغست كونت وسان سيمون وكارل ماركس من جانب، وممثلي الريف السوري المتطلعين إلى العدالة والحرية والانعتاق و… الثورة) كان من الممكن أن يحاول (البعث) إحداث تنمية حقيقية في الريف، من خلال بناء المدارس ومدّ الكهرباء وتبني أساليب حديثة في الزراعة وإقامة صناعات غذائية مناسبة وبناء مسارح ودور سينما ومناخ ثقافي متقدّم عموما في القرى والبلدات، غير أن ذلك لم يكن في مخطط حزب البعث ونظامه، وخصوصا حافظ الأسد بعد استيلائه على السلطة. كان الأخير يعرف أن العلويين سيشكلون قاعدته الاجتماعية الصلبة، ما داموا يعتمدون في حياتهم على الفتات الذي يقدّمه لهم. فبدلا من تنمية الريف زاد في إهماله، وحين غيّر في البنية المعمارية للقرية، قضى على جماليتها وهدوئها وطبيعتها، من دون أن يسمح بدخول التقنيات الحديثة والثقافة. كان هاجسه دفع العلويين عموما إلى دمشق والمدن الكبرى، ليكونوا الفزّاعة التي يستخدمها.
مأساة العلوي العادي تتلخص بقصة أو قصتين: أحمد، شاب حصل على البكالوريا بعلامات متدنية، وانتسب إلى الكلية العسكرية، أو سافر إلى دمشق، لينضم إلى واحدٍ من فروع الأمن السرطاني هناك. أخته سهام أيضا نالت البكالوريا وسافرت معه إلى دمشق، فعملت في التلفزيون، أو في صحيفة الثورة مدققة أو سكرتيرة. يعيش الأخوان في حي الرز أو دف الشوك، أو غيرهما من العشوائيات، وفي بيت مخالف، يستجران الكهرباء والماء من الشبكات العامة، ما يعني أن الكهرباء ستقطع دوما في الشتاء، وأن الماء لن يكون ثابتا. وقد يتزوج أحمد من صبية من ضيعته ستعمل معلمة مدرسة ابتدائية أو أمينة مكتبة أو محاسبة في شركة عامة، أما سهام فقد تتزوج من نقيب في الجيش أو موظف مدني في مؤسسة الإسكان العسكرية. أخوهما الثالث حسين، لن ينجح في الشهادة الثانوية، وسيلحق بهما، فيعيش في البيت، يشرب المتّة، ويجلس في الحارة أمام دكان جاره البقال، وقد يعمل في تصليح الموبايلات أو في بيع الممنوعات، وربما وقع في هوى ابنة جارتهم التلميذة في الثانوية.
حين يُسأل أحمد وسهام في القرية “أين يسكنان” سيجيبان “في دمشق”. ولكن الاثنين لا يعرفان من المدينة سوى طريق الميكرو باص إلى العمل صباحا، ثم العودة إلى الضاحية العشوائية مساء. وفي أيام العطل، إذا لم يسافرا إلى القرية، فقد يتنزّهان في الصالحية أو على جسر فيكتوريا أو في الحميدية، حيث يمكن أن يتناولا البوظة أو يتسليا بتفصيص اللب.
حين قامت الثورة، شعر الخمسة بالخوف. أحسّوا، أو قيل لهم، إن السنّة سيسلبونهم وظائفهم، وبيتهم في حي الرز، ويعيدونهم إلى قريتهم التي لا يمتلكون فيها بيتا أو أرضا. سيستمعون إلى قناتي الإخبارية والدنيا، وسيزيد خوفهم. وحين ستبدأ الاحتجاجات سيقف الجميع ضدّها. أحمد سيواجه الاحتجاجات بالرصاص الحي مع رفاقه في الفرع، وسوف يشحط أستاذا جليلا مثل طيب تيزيني، أو محامية شابّة كرزان زيتونة، أو حقوقيا مميّزا كمازن درويش. وحين سيعرف أن الأخير من أسرة علوية سيزيد له العقاب أضعافا. ستقوم سهام بدعاية في كلّ مكان تكون فيه عن خطر الإرهابيين. ولو كانت قد رقّيت إلى معدّة برامج أو مذيعة، سوف تنزل إلى الشارع لتغطي أخبار انتصارات الجيش العربي السوري، وتقبّل أحذية العسكر. سينضم حسين إلى مليشيا الدفاع الوطني، وسيحمل بندقية ورشاشا، ويبدأ بقتل كلّ من يقف في طريقه. وقد يشارك في خطف بعض الأشخاص طلبا للفدية. على الأرجح، سيُقتل أحمد وحسين في معركة ما، وقد تخسر سهام، إلى أخويها، زوجها أيضا. وستسير نعوش الإخوة في القرية بحزن وسخط وغضب، لن يتّجه ضدّ المسبّب الرئيسي، بل ضدّ الذين خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة.
أحمد وسهام وحسين ليسوا مجرمين بطبيعتهم. هم مثل كلّ السوريين الذين تعرّضوا للحرمان والفاقة ونقص التعليم. ولكن آل الأسد أوهموهم بأن لهم مزايا على الآخرين، ثمّ أوهموهم أن الآخرين سوف يسلبونها منهم ما لم يدافعوا عنه، من خلال دفاعهم عن بيت الأسد. ما دافع أصدقاؤنا عنه لم يكن سوى بيت مخالف في العشوائيات، وراتب لا يكفي سوى للبقاء على قيد الحياة.
تلك هي المأساة الحقيقية للعلوي السوري، الطيب والكريم والمضياف. في ثمانينيات القرن الماضي، أمضيت عقدا في سجون الأسد الأب. كان أكثر من ثلثي رفاقي المعتقلين معي من العلويين. إلى جانب المتّة، تعلّمت منهم الأثرة والتضحية والكرامة وكراهية بيت الأسد. بعض رفاقي السابقين تحوّل إلى شبيحة. بعضهم الآخر ظلّ معارضا عنيدا، فاعتقله الأسد الابن أو نفاه أو عذّبه وأخفاه أو قتله. وفي الحالين، كان العلوي محكوما بصلاته وأسرته ووظيفته، أي بقدَره، في مأساةٍ تكاد تكون إغريقية.
المصدر: العربي الجديد