إيران باتت بحاجة لاستراتيجية جديدة في مجال أمنها القومي

ترجمة: ربى خدام الجامع

علي خامنئي هو الشخص الذي يتخذ عادة القرارات النهائية في إيران، ولكنه لا يريد هذه المرة أن يتخذ قراراً حاسماً، إذ في 27 تشرين الثاني، ألقى المرشد الأعلى خطبة عن الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مقارّ عسكرية إيرانية قبل يوم. وكانت تلك لحظة ثقيلة الوطأة، إذ لم يسبق لإسرائيل أن قصفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بكل صراحة ووضوح، على الرغم من نزاعهما الخفي الذي امتد لعقود خلت.

بيد أن خطاب خامنئي لم يسمعه أحد، إذ توعد بأن يري الإسرائيليين كيف ستكون قوة إيران، غير أن القرار المعني بذلك بات بيد أشخاص غيره، ولهذا سمعناه في خطبته يقول: “ينبغي أن يقيّم مسؤولونا ما يجب فعله وأن يستوعبوا ذلك بدقة”، بيد أنه عندما قال ذلك لم يكن يدعوهم إلى التهدئة، كما لم يكن ذلك إعلاناً للحرب.

لم يعد هذا التردد عرضاً دائماً، وذلك لأن الغارات الإسرائيلية التي ضربت إيران في السادس والعشرين من الشهر الماضي انتقاماً منها على إطلاق وابل من الصواريخ الباليستية على إسرائيل في الأول من الشهر نفسه، تعتبر مهمة إلى درجة تفوق الأثر العسكري الذي خلفته، لأنها تعد إيذاناً بفشل عقيدة الأمن القومي الإيرانية، أي أن الاستراتيجية التي بقي خامنئي يتابعها طوال عقود قد تهاوت، وأصبح قائد إيران الذي يبلغ من العمر 85 عاماً عاجزاً عن تحديد مسار جديد لاستراتيجية بلاده.

إيران ما بين الأيديولوجية والبراغماتية

كان النهج الإيراني القديم يقوم على تفادي مسألة الاختيار ما بين الأيديولوجية والبراغماتية التي تواجه جميع الأنظمة القائمة على أيديولوجيا مهما طال الزمان أو قصر. وعلى الرغم من أن إيران لم تدخل في حالة سلم مع جيرانها، نجد بأنها حتى فترة قريبة لم تكن فعلياً في حالة حرب معهم أيضاً. كما رفضت إيران الغرب، إذ كان شعار “الموت لأميركا” من المبادئ الأساسية لأيديولوجيتها، حتى في الوقت الذي سعت إلى استرضاء الغرب، في محاولة يائسة لتخفيف العقوبات الاقتصادية عليها، ولذلك لم تستطع إيران أن تقرر ما إذا كان برنامجها النووي المارق يمثل طريقاً تسعى من خلاله إلى امتلاك قنبلة نووية أم أنه مجرد ورقة للتفاوض والمساومة.

بقي خامنئي صاحب أيديولوجية ومتحمساً لها بعد أن سجنه البوليس السري للشاه وعذبه لكونه شخصية ثورية، فهو يرى الغرب منحلاً وفاسداً، ويصر على ضرورة أن تسعى إيران إلى التحول لدولة مكتفية بذاتها، ولكن إيران التي صار يترأسها في عام 1989 كانت قد خرجت لتوها من حرب دموية مع العراق امتدت لثماني سنين، أي أنها كانت دولة مفلسة، وخامنئي نفسه كان خياراً مثيراً للجدل عندما رشح لمنصب المرشد الأعلى، لأنه لم يصل إلى رتبة آية الله، ولهذا كان لابد من تعديل الدستور حتى يصل الرجل لهذا المنصب، ما خلق له أعداء كثر داخل إيران نفسها.

ولذلك خفف الرجل من غلواء أيديولوجيته من خلال البراغماتية، إذ كان لابد من إعادة بناء الاقتصاد، ولهذا سمح لأكبر هاشمي رفسنجاني الذي شغل منصب الرئيس خلال الفترة ما بين 1989-1997 بمحاولة تحسين العلاقات مع الدول العربية والغربية. بيد أن تلك المبادرات لم يكتب لها الديمومة، فبالنسبة لخامنئي، كانت التسوية عبارة عن خطوة تكتيكية، لأن الغاية بقيت نفسها، مهما تعرج المسار والتف طولاً وعرضاً.

“صبر استراتيجي” وصراع على مدى أجيال

بقيت معاداة أميركا وإسرائيل من الثوابت، وذلك لأن خامنئي يعتبر أميركا عدواً لا يجوز الصفح عنه، ويرى أنه لن يكفي تدمير إسرائيل فحسب، بل إن مصيرها إلى زوال، ولهذا يزعم بأن إسرائيل لن يبقى لها أي أثر بعد عام 2040. وفي ظل قيادته، أمضت إيران عقوداً وهي تسلح ميليشيات عربية مثل حزب الله في لبنان، وذلك لتكون بمنزلة خط دفاع أمامي عن إيران، وذلك سعياً منها لإبعاد النزاعات عن حدودها، وحتى تتحول تلك الميليشيات إلى قوات الطليعة في أي معركة مع إسرائيل مستقبلاً. لكن خامنئي أدرك بأن المعركة ستحدث مستقبلاً، ولهذا تحدث عن “الصبر الاستراتيجي” أي الصراع الذي يمتد لأجيال ليحقق أهداف هذا الرجل.

بعد ذلك أتت جملة من الأحداث التي قربت تلك الأهداف من التحقق، إذ بعد سقوط صدام حسين، أسست إيران ميليشيات كبيرة في العراق، وفعلت الشيء نفسه في سوريا بعد أحداث الربيع العربي في عام 2011، كما عززت علاقاتها مع حزب الله والحوثيين في اليمن. وبدأ ضباط الحرس الثوري الإسلامي بإيران يتحدثون عن إقامة جسر بري يربط طهران بالبحر المتوسط.

رسم مسار جديد

في تلك الأثناء، كان باراك أوباما يتحرق شوقاً للتفاوض على صفقة نووية مع إيران، وبعد مرور عقد من الحروب ذات الحظ العاثر في الشرق الأوسط، أصيب معظم الشعب الأميركي بالإحباط، لدرجة أنه حتى دونالد ترامب المعروف بعدائه لإيران أمسك نفسه عن ضربها، فكان ذلك أشبه بتمديد لصلاحية خامنئي الذي صار يسعى إلى تحقيق أهدافه الأيديولوجية من دون أن يورط إيران بأي حرب، وقد سمح له الاضطراب الذي حدث في المنطقة مع وجود أعداء مترددين من حوله بتحقيق ذلك، وهكذا أسست إيران أذرعاً قوية لها، وكادت أن تصل إلى عتبة النووي من دون أن تتعرض لأي هجوم، كما تفاوضت مع أميركا في وقت كانت فيه ميليشياتها تضرب أميركا وحلفاءها، أي أن حالة التوازن التي خلقها المرشد الأعلى نجحت بالفعل، وبقيت على ذلك حتى السابع من تشرين الأول من عام 2023.

عندما عبرت قوات حماس الحدود وقتلت قرابة 1200 إسرائيلي كشفت عن عطب في استعانة إيران بميليشياتها، ويتمثل ذلك باحتمال أن تكون للجماعات غير الإيرانية مصالح تختلف عن مصالح إيران. لا شك أن خامنئي كان مؤيداً لفكرة قيام حرب حاسمة ضد إسرائيل، ولكن في توقيت غير هذا، بيد أن يحيى السنوار الذي قاد حماس في غزة لم يكن لديه أي وقت للصبر الاستراتيجي.

وهكذا انهارت الاستراتيجية التي بنتها إيران على مدار عقود طويلة خلال سنة واحدة، فقد أظهر حزب الله قوة ضارية عندما حارب في سوريا ودخل في مناوشات على الحدود مع إسرائيل، لكنه تهاوى عندما تعرض إلى هجوم إسرائيلي شامل شنه نتنياهو من دون أن يبذل الرئيس الأميركي جو بايدن كبير جهد ليمنعه من ذلك، لذا وبدلاً من أن تتحول تلك الميليشيات التابعة لإيران إلى درع لها، أصبحت عبئاً عليها.

والآن، باتت إيران بحاجة لعقيدة أمنية جديدة، والسؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا هنا هو كيف لإيران أن تستعيد شيئاً من إجراءات الردع لديها؟ ومن الخيارات المطروحة أن تحاول إيران إعادة تأسيس ميليشياتها، بيد أن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على مضاعفة الجهد من أجل تنفيذ استراتيجية فاشلة، كما أن إسرائيل قد لا تتحمل مرة أخرى وجود ميليشيات تدعمها إيران على حدودها، وهذه الجماعات المسلحة قد تسعى إلى كسب التأييد الذي حظيت به في السابق، لكن أهالي غزة أصبحوا اليوم ناقمين على حماس لأنها جرتهم إلى الحرب، وقد يساور كثير من اللبنانيين الشعور نفسه تجاه حزب الله، وحتى في حال أعادت تلك الميليشيات بناء صفوفها، فإن تلك العملية قد تستغرق سنوات طويلة.

ثمة خيار آخر ويتمثل بتعزيز إيران لقدراتها وإمكانياتها، وذلك عبر محاولة تقوية جيشها النظامي الذي أصبح فارغاً من أي محتوى بعد عقود من العقوبات وضعف الاستثمار فيه، فخلال السنوات القليلة الماضية، سعت إيران إلى شراء طائرات سوخوي-35 المقاتلة ومنظومة الدفاع الجوي إس-400 من روسيا، وبوسع ذلك أن يمنحها شيئاً من القدرة على حماية مجالها الجوي من الغارات الإسرائيلية.

ولكن، هنالك عقبات عديدة تقف في وجه إعادة تنظيم الجيش الإيراني وتطويره، أولها الإمدادات، وذلك لأن الغزو الروسي لأوكرانيا يعني بأن روسيا لم يعد لديها مزيد من الطائرات الإضافية أو بطاريات الدفاع الجوي الاحتياطية، وثانيها المال، بما أن إيران بقيت لوقت طويل تعاني من عجز في ميزانيتها، في حين أبدت إسرائيل أن بوسعها إرسال العشرات من طائراتها لتحلق لمسافة تصل إلى ألفي كيلومتر بعيداً عن أراضيها ولتضرب أهدافاً دقيقة، في حين لا يمكن لإيران مضاهاة إسرائيل في تلك الإمكانيات.

لذا، وبدلاً من الاستعانة بسلاح الجو، بوسع إيران أن تعيد بناء قطعات الصواريخ لديها، بما أنها تعرضت إلى غارتين إسرائيليتين خلال هذا العام، كما أن إسرائيل قد ينتابها التعب وهي تدافع عن نفسها من وابل الصواريخ المتواصل، نظراً لمحدودية عدد صواريخ سهم الاعتراضية لديها والتي استخدمتها لإسقاط صواريخ إيران الباليستية (ولهذا أرسلت إليها أميركا منظومة دفاع جوي احتياطاً)، بيد أن ما تبنيه إيران بوسع إسرائيل تدميره، إذ من بين الأهداف التي ضربتها إسرائيل في تشرين الأول كانت آلات استخدمت لتصنيع محركات ووقود صلب يستخدم لإطلاق الصواريخ الباليستية، ولهذا ستحتاج إيران لوقت طويل ومال وفير حتى تعوض خسارتها لتلك المعدات.

وهذا ما يترك أمام إيران خياراً آخر وهو السعي إلى كسب التأييد بشكل سريع في الداخل الإيراني، وذلك عبر أسلوب الردع النووي، إذ كل ما تحتاجه إيران هو مجرد أيام حتى تخصب ما يكفي من اليورانيوم اللازم لتصنيع قنبلة (على الرغم من حاجتها لوقت أطول لتصنيع رأس نووي وتركيبه على أحد الصواريخ)، غير أن السباق لامتلاك قنبلة نووية قد يفتح الباب أكثر أمام تعرض إيران لهجمات إسرائيلية أو ربما أميركية، وبوجود عدد من بطاريات إس-300 التي تمتلكها إيران بغرض الدفاع الجوي والتي دمرتها الغارات الإسرائيلية في شهر تشرين الأول، لم تعد إيران في وضع يسمح لها بالدفاع عن نفسها.

وكل هذه الخيارات تفترض بأن إيران أصبحت بحاجة لردع أميركا وإسرائيل لأنها ستستمر على عدائها لهما، على الرغم من وجود خيار آخر، وهو السعي إلى التخفيف من غلواء سياستها الخارجية القائمة على أيديولوجيتها المعمقة، وفي ذلك تحول مذهل، لكن إيران قامت بكل ذلك من قبل، فقد وصف خامنئي حكام السعودية بأنهم يمثلون مخططاً أميركياً-إسرائيلياً هدفه ضرب إسفين في قلب العالم العربي، وتوعد بانتقام إلهي سيصيب المملكة على حد تعبيره، ثم قطع الطرفان علاقاتهما الدبلوماسية في عام 2016 بعد اقتحام مثيري شغب للسفارة السعودية في طهران، وبعد مرور ثلاثة أعوام على ذلك حدث هجوم دعمته إيران تسبب بإيقاف نصف إنتاج السعودية من النفط لفترة وجيزة.

هل ثمة نهاية للقتال؟

خلال العام الفائت، سمح خامنئي لإبراهيم رئيسي الذي شغل منصب رئيس البلاد وكان من أكبر المحافظين فيها بإعادة العلاقات إلى طبيعتها مع المملكة العربية السعودية، على أمل أن تجر تلك العلاقات مع السعودية وجيرانها في دول الخليج مزيداً من الاستثمارات إلى إيران، إلى جانب الحد من الانتقادات التي تطلقها القنوات الفضائية الممولة سعودياً ضد إيران، والتي كانت تعتبر من أكثر الأمور التي تزعج النظام الإيراني، وبالكاد تسرب شيء من الدفء إلى تلك العلاقة، إذ قبل يوم واحد من هجوم إسرائيل على إيران، نفذت البحرية السعودية تدريبات مشتركة مع نظيرتها الإيرانية، كما كانت السعودية من أولى الدول التي دانت الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت إيران.

لذا فإن السعي إلى تحقيق سياسة خارجية تتسم ببراغماتية أكبر لن يزعج الشعب الإيراني الذي بات ساخطاً على نهج خامنئي، إذ طوال سنين أصبح الهتاف الشعبي الذي يطلق في المظاهرات بإيران هو: “لا لغزة ولا لبنان.. حياتي من أجل إيران”، وفي استطلاع للرأي أجري مؤخراً تبين بأن 78% من الشعب الإيراني يرى بأن السياسة الخارجية لبلده هي السبب في مشاكله الاقتصادية، في حين يعتقد 43% من الإيرانيين بأن تلك السياسة تسهم بحدوث توتر في المنطقة (أما 18% فقط منهم فيعتقد بأنها تخفف من حدة تلك الأمور)، ثم إن ثلثي الشعب الإيراني يرغب بتطبيع العلاقات مع أميركا.

بيد أن تأييد فكرة الاعتراف بإسرائيل تشغل بال نسبة أقل بكثير بين أبناء الشعب الإيراني، إذ هنالك 25% فقط منهم يؤيدون تلك الفكرة في حين هنالك 67% يعارضونها (على الرغم من أن الشعب الذي يعيش في كنف دولة بوليسية قد لا يحس بالارتياح عند الإجابة على هذا النوع من الأسئلة بكل صراحة وصدق عبر الهاتف)، ولكن إيران لن تقيم علاقات مع إسرائيل، بل ستكتفي بالكف عن محاربتها، كما فعلت معظم الدول العربية قبل عقود.

من الصعب علينا أن نتخيل خامنئي وهو يتحدث عن انفراجة أو تقارب، لأن في ذلك نقض لكل ما أنجزه في حياته، لذا فإن من سيخلفه سيقرر إن كان عليه الاستمرار بحرب اختارتها البلد بمحض إرادتها، لكنها أفقرت إيران على مدى عقود، والآن جعلتها في مرمى هجمات دولة معادية لأول مرة منذ ثمانينيات القرن الماضي أم أن هذا الخلف سيبتعد عن كل ذلك، وعندئذ لن يكون هنالك قرار أعجل وأهم من هذا القرار.

https://www.syria.tv/%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D8%AA-%D8%A8%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84-%D8%A3%D9%85%D9%86%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A#:~:text=%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%20%D8%A8%D8%A7%D8%AA%D8%AA%20%D8%A8%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9,%D9%85%D9%86%20%D9%87%D8%B0%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا/ الأيكونومست

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى