إسرائيل والمسألة الشرقية الجديدة

برهان غليون

تطرح الأحداث الراهنة والحروب المتعدّدة الأبعاد التي أطلقها “طوفان الأقصى”، في ما وراء التقريع والتبجيل الجاري، ضرورة إعادة تقييم شامل لما ينبغي أن نسمّيها المسألة الشرقية الجديدة او المتجدّدة من جذورها. وليس المقصود بجذورها هنا ماضيها وبداياتها، وإنما الأسس التي قام عليها المشرق الحديث، بعد انهيار السلطنة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي. ومن الواضح لمن ينظر في المسألة بتجرّد أن من هذه الأسس تحويل فلسطين إلى دولة لليهود خاصة بهم وحدهم، وتهجير سكّانها الأصليين، أو إبادتهم، إذا أمكن، ورفض الاعتراف بهم شعباً، ثم في ما وراء ذلك، تبني الدول الغربية الرئيسية لهذه الدولة وإلحاقها باستراتيجياتها الشرق أوسطية في مواجهة تنامي تطلعات شعوب المنطقة إلى مزيد من الاستقلال والسيادة على حدودها ومواردها ومصيرها. هذا ما نعنيه بالمسألة الإسرائيلية التي نشأت رد فعل على اللاسامية أو العداء لليهود في أوروبا، وفي الوقت نفسه، باستلهام تجربة الدولة القومية الأوروبية للقرن التاسع عشر، بما كانت تتميّز به من عنصرية ونزعة توسّعية استعمارية، والتي أنتجت الحربين الكبريين العالميتين في القرن الماضي. ومن يعود إلى التاريخ وسلوك المنظمات الصهيونية التي أخذت على عاتقها قيادة هذا المشروع يرى بوضوح أن حرب الإبادة للشعب الفلسطيني لم تبدأ في 7 أكتوبر (2023)، وإنما من بداية الرد على الثورات الفلسطينية في مواجهة الاستيطان الزاحف، وبدعم كامل من سلطة الانتداب البريطاني.

من يعود إلى التاريخ وسلوك المنظمات الصهيونية التي أخذت على عاتقها قيادة هذا المشروع يرى بوضوح أن حرب الإبادة للشعب الفلسطيني لم تبدأ في 7 أكتوبر

لذلك، لن نستطيع أن نفهم ما يجري في المنطقة، وفي مقدّمه مآلات المسألة الفلسطينية والحروب التي دارت منذ إعلان مشروع الدولة اليهودية، ما لم ننظر في هذه المسألة التي لم تكن المسألة الفلسطينية إلا إحدى نتائجها وأعراضها الأكثر مأساوية، لكن ليست الوحيدة أيضا. وسنرى أن هذا الطرح هو الذي يساعدنا على تحليل الديناميات التي تحكم هذا الصراع الأكبر لتوطين الدولة الإسرائيلية، وتأمينها وتشغيلها على مستوى الدول المجاورة والنظام الإقليمي معا، والرهانات التي تنطوي عليها، ثم الخيارات المتاحة للفلسطينيين والعرب في مواجهة هذا المشروع وانعكاساته في الصراع الإقليمي عموما، العربي العربي والعربي الإيراني بشكل خاص.

….

باختصار، جسّدت إسرائيل الحل الاستعماري للمسألة اليهودية التي شغلت أوروبا قروناً طويلة. وما كان لأوروبا ومن بعدها الولايات المتحدة أن تجد لتثبيت سيطرتها ونفوذها، وتأكيد حضورها الدائم في إحدى أكثر مناطق العالم حساسية وأهمية من الناحيتين، الجيوسياسية والجيوستراتيجية، وسيلة أكثر فعالية منها لكسر إرادة شعوبها وإخضاعها. ويعني الحل الاستعماري للمسألة اليهودية أن أوروبا، بدلاً من أن تتجاوز اللاسامية، وتعمل على إدماج اليهود في مجتمعاتهم الأصلية مواطنين متساوين، رأت في إنشاء دولة خاصة بهم في فلسطين حلّا مثالياً، فهو من جهة يحرّرها من عقدة اللاسامية ومن جهة ثانية يحول اليهود من أعداء إلى حلفاء وخنجر في قلب المنطقة العربية الإسلامية التي كان أبرز مفكّري الغرب، يرون فيها الخصم التاريخي “للحضارة الغربية”.

أصبحت اسرائيل، سواء نتيجة تكوينها القومي العنصري أو ارتباطها الوجودي أو البنيوي به، أمضى سلاح في يد الغرب لقمع (وردع) مجتمعات الشرق الأوسط

هكذا أصبحت إسرائيل، سواء نتيجة تكوينها القومي العنصري أو ارتباطها الوجودي أو البنيوي به، أمضى سلاح في يد الغرب لقمع (وردع) مجتمعات الشرق الأوسط وشعوبه المتطلّعة إلى كسر قيود التبعية والسيطرة الاستعمارية والطيران بأجنحتها. وبمقدار ما تنجح إسرائيل في كسر إرادة هذه الشعوب تزداد أهمية في نظر الدول الغربية، كما يزداد استعداد هذه الدول لتزويدها بكل وسائل التفوق العسكري والتقني والتماهي معها، فهذا ما يقدّم للولايات المتحدة وحلفائها أداة مثالية للإمساك بخيوط اللعبة في الشرق الأوسط وفرض أجندتها فيها. هذا الدور الاستراتيجي الذي أنيط بإسرائيل منذ إنشائها هو الذي يفسّر تدحرجها المستمرّ والثابت نحو أقصى اليمين، ثم إلى خيار الأبارتهايد الذي لم يعد أحدٌ من الديمقراطيين اليهود ينكره أو يتجاهله، وهو الذي يشرح لماذا آلت السلطة في آخر المستعمرات الاستيطانية في التاريخ الحديث إلى أقصى اليمين الصهيوني، وكرّست زعامة نتنياهو منذ ما يقرب من 30 عاماً متواصلة، بعد اغتيال إسحق رابين، ومعه جميع مبادرات السلام والحلول الوسط، وجعلت منها دولة استثنائية لا تنطبق عليها القوانين والمواثيق والتشريعات الدولية. هذا ما عبّر عنه رميها جميع قرارات المنظمة الأممية عرض الحائط وإلحاق الأراضي المحتلة للدول الأخرى وتهويدها. وهذا ما يؤكّده اليوم رفع شعار” الانتصار المطلق” ورديفه “الحسم النهائي”، الذي يدعو إلى تغيير خرائط المنطقة وفرض إسرائيل أجندتها على شعوب المنطقة وإخصاء جيرانها من الدول الكبيرة من مصر إلى إيران وتركيا وتقزيمهم.

في هذه الحرب الكبيرة والمستمرّة للهيمنة الاسرائيلية، ومن أمامها الأميركية، والتي تشكّل التاريخ الحقيقي والأبرز للشرق الاوسط الحديث، خسرت الدول العربية معارك عسكرية عديدة، بدءاً بحرب 1949 ثم 1956 ثم 1967 و1973، وأجبرت مصر أكبر دول المجموعة العربية، التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد 1978، وأعلنت أنه لن تكون هناك أي حربٍ مع إسرائيل في المستقبل. وهذا ما حصل بالفعل لعجز الدول العربية التي احتجّت على السلام الانفرادي لمصر عن القيام بأي مبادرة عسكرية، وعادت إلى الالتحاق بسلام مصر الانفرادي، والتعاون معها على إيجاد تسويةٍ سياسيةٍ أكّدت عليها دول المجموعة الأممية بأكثريتها الساحقة، تقوم على إقامة دولة فلسطينية على جزءٍ صغير مما تبقى من فلسطين. لكن ما حصل كان، ببساطة، تسريع سياسة الاستيطان في الضفة الغربية.

للتغطية على فشلها وانسحابها من المواجهة، طوّرت الحكومات العربية طرحاً قلب الخطاب السائد حول الصراع العربي الإسرائيلي رأساً على عقب

وللتغطية على فشلها وانسحابها من المواجهة، طوّرت الحكومات العربية طرحاً قلب الخطاب السائد حول الصراع العربي الإسرائيلي رأساً على عقب، مفاده بأن جوهر الصراع وأصله كان ولا يزال حرمان الشعب الفلسطيني من وطن أو دولة خاصة به، وإن ما كان يسعى إليه العرب، في مواجهتهم السابقة لإسرائيل، لم يكن يتعدّى مساعدة الشعب الفلسطيني على استرجاع حقوقه، وأن العرب قاموا بما استطاعوا لنصرته، لكنهم لم ينجحوا، وعليهم الاهتمام بشؤونهم الخاصة الوطنية أو المحلية.

وتعزّز هذ الطرح بإعلان موت الأيديولوجيا وضرورة العودة إلى الواقعية، فقد انتهى عصر القومية العربية التي أثبتت فشلها، وينبغي على كل دولة وواجبها الدفاع عن مصالحها “الوطنية”، وكل ما علينا وما نستطيعه مساعدة الفلسطينيين على الدفاع عن قضيتهم. وعندما تصبح المسألة الإسرائيلية مسألة فلسطينية فحسب، وليس قضية مصير العرب والمنطقة العربية كما كان العرب ينظرون إليها من قبل، يصبح العمل معهم (الفلسطينيين) أو إلى جانبهم ودعمهم من عدمها مسألة أخلاقية، لا مسألة سياسية ولا استراتيجية، ولا يخرج الالتزام بها عن باب التضامن الإنساني، تماما كما هو الحال بالنسبة لشعوب ودول العالم الأخرى المتضامنة معهم. في هذا السياق، جاءت موجات التطبيع المتعاقبة مع إسرائيل، بدءاً من مصر كامب ديفيد إلى اتفاقات أبراهام عام 2020 مروراً بالأردن والسودان.

شكّل انهيار الدفاع العربي واستسلامه لخيار التطبيع المجاني فرصة لا تعوّض بثمن لبروز النظام الإيراني وحل مشكلاته الصعبة الخارجية والداخلية معاً، ففي تبنّيه قضية فلسطين، ضرب النظام الجديد أكثر من عصفور بحجر واحد. أعاد توحيد الرأي العام الإيراني حول برنامج أسطوري يجعل من الأمة الإيرانية قائدة الصراع ضد الهيمنة الغربية الثقيلة في المنطقة وأداتها الإسرائيلية بعد فشل القومية او الامة العربية. وحسم الصراع الدائر في صفوف الثورة الشعبية الإيرانية لصالح التيارات الدينية والقومية اليمينية بتقديم برنامج أسطوري ملهم لإعادة إنشاء “الخلافة” أو الإمامة الإسلامية، وبناء أجندة الهيمنة الإيرانية الإقليمية، ما يغطّي على عجزه عن بلورة مشروع اجتماعي وسياسي، ليس لديه وسائل التفكير فيه، ولا إرادة العمل من أجله. وفي المناسبة ذاتها، أوجد المبرّر الشرعي السياسي والديني والأخلاقي للاعتداء على الدول العربية واختراق حدودها والحلول محلها في الدفاع عن عالم الإسلام وحقوق الفلسطينيين وتحرير شعوبها من أنظمة الطغيان البغيض. هكذا وضع نفسه وأجندة الهيمنة الإيرانية الإسلامية في مقابل مشروع الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية، فاستقطب حماس قطاعاتٍ واسعة من الشعب الإيراني والشعوب العربية والإسلامية. وهذا هو تاريخ المسألة الإيرانية التي نشأت في الفراغ الذي تركه انهيار التحالف العربي، وفي الردّ على المسألة الإسرائيلية.

شكّل انهيار الدفاع العربي واستسلامه لخيار التطبيع المجاني فرصة لا تعوّض بثمن لبروز النظام الإيراني وحل مشكلاته الصعبة الخارجية والداخلية

من الواضح أن التسليم بالأمر الواقع والتطبيع المجاني الرسمي والعملي مع تل أبيب، بوصفها وكيلة أعمال الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، لم يفتح بوابة السلام في المنطقة ويحفظ المصالح الوطنية للدول العربية التي اعتقدت أن التراجع عن طموحاتها في تكوين إطار عربي للعمل الاستراتيجي والسياسي يخفّف عبء المواجهة عنها، وربما يغيّر من نزوعات إسرائيل التوسّعية والعدوانية، لكنه حوّلها إلى طريدة معدومة السيادة والإرادة، وأجّج، أكثر من أي وقت مضى، الصراع عليها ومن حولها. وكانت المبادرة في ذلك من طهران التي وجدت في فراغ القوة العربية وانهيارها منفذاً لتجريب أسلحتها مع الغرب ومواجهته على المسرح العربي وعلى حساب العرب أنفسهم، فهي تخوض الحرب ضد إسرائيل وضد الغرب وعلى الأرض العربية وبأيادي عربية أيضا وبأموال عربية.

وفي هذا الصراع على الهيمنة الإقليمية، لم توفر طهران ولا أتباعها ولا إسرائيل أيا من أوراق التعبئة الدينية والطائفية والقومية والعنصرية. وقد نجحت في أن تحول القضية الفلسطينية، التي حارب العرب وضحوا من أجلها عقوداً طويلة، وأصبحت الأكثر قداسة وعدالة في نظر جمهورهم وقطاعات واسعة من المجتمع الدولي، إلى حصان طروادة لاختراق الدول العربية وإبراز تقاعس حكوماتها وفسادهم وتعلقهم بالمصالح الخاصة ولتبرير عدوانها عليهم. بمعنى آخر، لم يجلب التخلي عن فلسطين، وهو الوجه الآخر للقبول بسلام إسرائيل والتطبيع المجاني معها، أي سلام للعرب، ولكنه عمل بالعكس على زعزعة دولهم جميعا وتدمير عديد منها في سورية ولبنان والعراق واليمن بعد فلسطين والقادم أعظم.

هكذا ولّد الهرب من مواجهة إسرائيل بعبعاً إضافيا لا يقلّ خطورة عن إسرائيل، ولم يساهم، كما نظر له المتفائلون، في حثّ النخب الحاكمة العربية على تطوير نظمها الاجتماعية والسياسية والاستثمار بشكل أكبر في تحسين شروط الحياة لشعوبها، وإنما ولد إلى جانب الوحش الإسرائيلي غولا إيرانياً، يرى فيه كثيرون من العرب اليوم خطراً أكثر هولا من غريمه الإسرائيلي. فقد كان من الطبيعي والمنتظر من نظام إيراني ولد محاصراً ومحكوماً، لعجزه عن بلورة أي برنامج وطني للتنمية الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية، في البحث عن الشرعية في سياسات الهيمنة وتوسيع دائرة نفوذه وسيطرته، ومن ثم في الاستثمار حروب الوكالة ضد الحكومات الأخرى وضد الغرب الذي يحاصره بالضغط على قاعدته الإسرائيلية الرئيسة في الشرق العربي. وكما استخدم الغرب النظم العربية والعراق في المرحلة الأولى لكسر شوكة السياسة الثورية الإيرانية، سوف يستخدم روح الانتقام القومية الإيرانية لإجهاض جهود دول المنطقة العربية جميعها في التقدم والتنمية، وفي تعطيل أي فرصٍ محتملة للتعاون في ما بينها، وتشكيل مصدر تهديد لسيطرته أو لقاعدة نفوذه الرئيسية في إسرائيل. وكما دفعت سياسة إشعال نيران الحرب العربية الإيرانية وكذلك تسعيرها من قبل إسرائيل والغرب، طهران للسباق في تطوير الصناعات العسكرية، أجبرت الدول العربية، والخليجية بشكل خاص، على الإنفاق الكثيف في التسلح والتقرّب من الدول الغربية حتى صار المشرق العربي أكبر سوق لاستيراد السلاح في العالم.

ما أريد أن نستنتجه من ذلك أن ندرك أن مسائل السلام والحرب والصراع على الهيمنة والحفاظ بالسيادة أو حتى الحد الأدنى من استقلال القرار لا يمكن تجزئتها وحصرها في حدود ضيّقة وحلها في الأطر القُطرية، وذلك مهما كانت قوة الأقطار، فما بالك عندما تكون هذه الأقطار تابعة وضعيفة ومتهالكة. ولا يمكن أن تقوم سياسة جدّية على أساس أن كل بلد يعيش وحده، لا ينظر الى ما وراء حدوده، ولا مصلحة له في التدخّل في ما يجري في محيطه، فالعلاقات الدولية مصدر قوة الدول وضعفها. ولا تبنى الدولة، أي دولة، في الفراغ، مكتفيةً بنفسها، ولا تعيش في سلام إذا انطوت على ذاتها، تماماً كما لا يعيش الغصن مقطوعاً عن الشجرة، فكل دولة طرفٍ في منظومة اقليمية للدول متفاعلة تؤثر وتتأثر بعضها ببعض، وهي ذاتها جزءٌ من منظومة دولية مترابطة أيضا. ولا توجد دولة خارج إطار جيوسياسي يضمن الأمن ويشجّع على التعاون، ولا استقرار وتنمية اقتصادية وسياسية وديمقراطية لأي دولة من دون سلام وتعاون في الإطارين، الإقليمي والدولي. من دون ذلك، تجد الدولة نفسها في مهب الريح، تماما كما هي اليوم حال عديد من أقطارنا العربية.

كما استخدم الغرب النظم العربية والعراق في المرحلة الأولى لكسر شوكة السياسة الثورية الإيرانية، سوف يستخدم روح الانتقام القومية الإيرانية لإجهاض جهود دول المنطقة العربية جميعها في التقدم والتنمية

وفي منطقتنا، ليس من الممكن التوصل إلى سلام واستقرار وتنمية إلا بوضع أسس نظام إقليمي قائم على أسس واضحة واعترافات متبادلة وقوانين وحقوق وواجبات تُلزم الأعضاء. والتسليم لإسرائيل بمكانة استثنائية تجعلها فوق أي قانون أو اعتبار سياسي أو أخلاقي وتتيح لها العمل حسب إرادتها وحدها من دون الأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين وحقوق الدول الأخرى وسيادتها، لا يقوّض النظام الإقليمي ويمنع من تأسيسه فحسب، ولكنه يقوّض شرعية الدول المنتمية إليه جميعها، ولا يترك لها فرصة لاسترجاع الأنفاس والتخطيط لأي مستقبل، ويحرم أي شعبٍ من أن ينعم بسلطةٍ تمثله وتعبر عن إرادته. وبصرف النظر عن اعتقاداتنا الدينية وأيديولوجياتنا أو رغباتنا أو تطلّعاتنا لن يستقر أي نظام إقليمي ولا أي دولة فيه، من دون خضوع أطرافه لمبادئ وتعهدات وتقاليد وإجراءت ثقة وتفاهم مفروضة بالتساوي على الدول جميعا. وأي استثناء في هذا المجال كما هي حال اسرائيل يقويض هذا البناء الإقليمي. ويكفي “أزعر” واحد الحيّ ليعم الذعر وتنتشر الفوضى وتنهار روح الاجتماع الإنساني فيه.

وإذا كانت الطبيعة الخاصة للدولة الإسرائيلية وأسباب تكوينها وتناقضاتها الداخلية وأيديولوجيتها وارتباطاتها الخارجية والمهام الملقاة عليها لقاء دعمها المطلق من الغرب لا تسمح لها بأن تتحوّل إلى دولة عادية تخضع لقوانين وتتعامل بمعاهدات وتحترم مبادئ والتزامات مع أي طرفٍ في المنطقة، فلن تكون هناك فرصة لبناء مثل هذا النظام. ولا تهدف حرب الدمار والإبادة المستمرّة في غزّة منذ أكثر من سنة، ودعم رعاتها الغربيين لها إلا لتأكيد مكانتها الاستثنائية وحقّها في أن تفرض قانونها هي، أي البلطجة والقتل والتوسّع والغزو على عموم دول، وأن تكره الجميع على العمل على أجندتها في الهيمنة الإقليمية.

وقد أثبتت الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، وتجاوزت حدود غزّة وفلسطين أنه ليس للغرب التي تراهن على وساطته ومساعيه العواصم العربية أي مصلحة في إسرائيل سلمية ومسالمة، ولا في ترسيم حدودها النهائية، فهو الذي تصوّرها وصنعها في الأصل ولا يزال يزوّدها بكل عوامل القوة والتفوّق العسكري والتقني والاستخباراتي، كي تكون الوحش الحديدي الذي يعمل على ترويع العرب وزعزعة استقرارهم لضمان خضوعهم وتسليمهم بالأمر الواقع. ولو قبلت إسرائيل بترسيم حدودها وعقدت صلحا مع العرب، حتى على شروطها لفقدت وظيفتها وقدرتها على هزّ المنطقة وزعزعتها كما ينتظره منها صانعوها ويحتاجه تأكيد تحرّرها من أي قيد تجاه مجاوريها. ثم إنها ووكلاء أمرها في الغرب يدركون تماماً أن قبولها السلام ووقف الاستيطان لا يبقي لها، كما هو الحال في أي استعمار، ما تقدّمه من ريع ومكاسب مجانية لجذب مزيد من المهاجرين، بل لإرضاء “مواطنيها” وسينتهي الأمر بانحسار هيمنتها وتحرّر المرعوبين من عربدتها وحروبها.

أثبتت الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، وتجاوزت حدود غزّة وفلسطين أنه ليس للغرب التي تراهن على وساطته ومساعيه العواصم العربية أي مصلحة في إسرائيل سلمية ومسالمة

والخلاصة أو الدرس من ذلك كله أنه حتى لو أمكن الهرب من القضية الفلسطينية التي شكّلت عبئاً على دول عربية ضعيفة ومتنازعة، فليس من الممكن الهرب من مواجهة “الزعرنة” الإسرائيلية، سواء استمر الفلسطينيون في كفاحهم أو سلموا أو أبيدوا، فإسرائيل كما هي اليوم سوف تبقى صاعق تفجير للمنطقة تفرض عليها أجندتها وسطوتها وتحرم شعوبها من حرّياتها وتفرض المتعاونين معها حكّاما عليها وتحرم الجميع من التفاهم والتعاون والاستقرار للإبقاء على تخلفهم ووهنهم.

وإذا ربحت إسرائيل الحرب الراهنة التي أرادتها حاسمة وإقليمية لتفرض على جيرانها جميعا التسليم بهيمنتها والخضوع لإرادتها والقبول بمشاريعها الاستيطانية، فلا ينبغي علينا أن نتفاجأ بأن تأتي قريبا حكومة إسرائيلية تحلم، كما فعل هتلر في أوروبا في القرن الماضي، في اكتساح المشرق كله وإلحاقه بها، تنتزع لنفسها الحقّ في تعيين حكومات الدول وإقالتها وربما، منذ الآن، فرض الجزية على عديد منها.

نشأت المسألة الشرقية الأولى بسبب ضعف السلطنة العثمانية وترنّحها والنزاع المديد الذي أثاره ذلك من حولها بين الدول الأوروبية لتقاسم أشلائها. أما المسالة الشرقية الجديدة فهي نشأت بسبب ضعف الدول العربية المشرقية، وتهافت أركانها والنزاع الذي أثاره ذلك بين الدول الطامحة إلى الهيمنة الاقليمية والعالمية لإعادة توزيع مناطق النفوذ فيها وتقاسم أملاكها وثرواتها. ومن بين هؤلاء المتنازعين، وأولهم إسرائيل الوكيل الحصري للمصالح الأميركية والغربية في المنطقة المنكوبة.

 المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى