“إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا، فلن أقبل. إن أرض فلسطين ليست ملكي، إنما ملك للأمة الإسلامية” هذا ما أجاب به السلطان العثماني عبد الحميد، لمؤسس الصهيونية العالمية ثيودور هرتزل، الذي عرض على السلطان بيع فلسطين لليهود، بمبلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية، في لقائهما في 18 مايو أيار/1907، أي قبل وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني سنة 1917، بمنح اليهود وطنا في فلسطين. اما خلفاء هرتزل، فقد عملوا على تحقيق اماله، التي اطرها نحوم سو كولوف، في الإصدار الأول لصحيفة ها أولما، من نفس السنة. وقد نشرت في القسم الأدبي في سلسلة من 26 رسالة في أربعة أعداد متتالية. وكان جوهرها، ان على اليهودي الساكن في فلسطين، ان كان يريدها، ان يحول المحراث الزراعي الى سيف، والمجرفة الى رمح، لطرد اهل فلسطين الأصليين من ارضهم بدل التعايش معهم.
على هذا الأساس، مارس اليهود الصهاينة، سياسة الإمعان في العنف، منذ وطأت عصاباتهم الإجرامية أرض فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ وارض فلسطين الطاهرة، تتخضب بدماء الشهداء، على يد العصابات الصهيونية، التي بدأت بالوصول الى ارض فلسطين منذ بدايات القرن الماضي، تحت حماية المستعمر البريطاني. الامر الذي اضطر الشعب الفلسطيني، لرفع راية المقاومة المسلحة. بمعنى اخر أكثر وضوحا، لم يترك الصهاينة للشعب الفلسطيني خيارا، سوى خيار المقاومة المسلحة. خاصة بعد رفض الكيان الحلول السلمية كافة، رغم انها حلول مذلة. سواء عن طريق المعاهدات مثل، معاهدة كامب ديفيد بين مصر والكيان عام 1978، او وادي عربة مع الأردن، في أكتوبر تشرين اول سنة 1994، او المبادرات العربية العديدة، التي تضمنت تنازلات مخزية للكيان الصهيوني، تحت عنوان الأرض مقابل السلام. او ذريعة حل الدولتين البائس، وما كان مصيرها غير سلة مهملات زعماء الكيان اللقيط.
اما اهم هذه الاتفاقات المذلة على الاطلاق، والذي كان من المفترض قبوله من قبل الكيان الصهيوني، هو اتفاق أوسلو المخزي، بين منظمة التحرير الفلسطينية، والكيان الصهيوني سنة 1993. حيث تضمن اعتراف المنظمة، اعترافا كاملا بهذا الكيان، وبسيادته على 78 في المئة من ارض فلسطين التاريخية، مقابل إقامة دويلة فلسطينية منزوعة السلاح، على المساحة المتبقية من ارض فلسطين، في مدة أقصاها سنة 1999. لكن ما جرى عكس ذلك تماما. فبدلا من التزام الكيان الصهيوني بتنفيذ هذا الاتفاق في موعده المحدد، واصل حكامه سياساتهم العدوانية ضد السلطة الفلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنها بناء مزيد من المستوطنات المسلحة، على حساب الأراضي الفلسطينية، المشمولة بتلك الاتفاقية المشؤومة. وبالتالي، فانه لم يعد هناك اية بارقة امل، لقبول الكيان الصهيوني التعايش مع الفلسطينيين، في اية صيغة كانت. الامر الذي اضطر الشعب الفلسطيني الى ترك السلطة الفلسطينية لمحمود عباس وشلته، التي تحولت الى شرطي للكيان الصهيوني، ورفع راية المقاومة المسلحة مجددا. وقد توجت هذه المقاومة بعملية طوفان الأقصى، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، من العام الماضي.
ان عملية طوفان الأقصى، التي نفذها مئات من الابطال الفلسطينيين، لا سابقة لها في تاريخ الشعب الفلسطيني المقاوم، ولا تاريخ اية مقاومة في أي بلد في الكرة الأرضية. ناهيك عن ان هذه المقاومة خاضت المعركة منفردة، منذ انطلاقتها وحتى يومنا هذا. اما المناوشات العسكرية، التي جرت، في الآونة الأخيرة، بين إيران وحزب الله والحوثيين من جهة، والكيان الصهيوني من جهة أخرى، فهي لم تكن فاعلة بالقدر المطلوب، في دعم المقاومة في غزة، ضد قوات الاحتلال الصهيوني. هذه الحقيقة لا يمكن اغفالها، او التغاضي عنها لشدة مرارتها.
اما حكام الردة العرب، الذين غاصوا بوحل الخيانة الوطنية، فقد كشفت عملية الطوفان عورتهم، وأنهت المتاجرة بالقضية الفلسطينية، التي سموها زورا وبهتانا بالقضية المركزية الأولى، التي تتقدم على جميع القضايا الاخرى. حيث وقف هؤلاء الحكام الاشرار مكتوفي الايدي، وهم يشاهدون قوات الكيان الصهيوني، ترتكب جريمة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، خشية من غضب الكيان الصهيوني وحليفه الولايات المتحدة الامريكية. الامر الذي سيسهل مهمة الحركات الوطنية لأسقاط هذه الأنظمة. خاصة بعد ان اعادت لنا عملية طوفان الأقصى مبادئنا الوطنية، التي تربينا على هداها، بعد ان طمس الخوف معالمها، بسبب سياسية القمع التي مارسها الحكام الأشرار. فاذا كان بإمكان عدة مئات من المقاتلين، الوقوف بوجه كل هذه القوة العسكرية الغاشمة والمتوحشة، وإلحاق الهزائم بها، فمن الاجدر ان تتمكن الشعوب من اسقاط أنظمتها بسهولة.
وبمناسبة دخول عملية طوفان الأقصى عامها الثاني، والتي اعقبتها حرب طاحنة بين جيش العدو وابطال المقاومة الفلسطينية في غزة، ومازالت نيرانها مشتعلة حتى هذه اللحظة، لابد من الاحتفاء بالانتصارات العظيمة للمقاومة، على الرغم من لجوء العدو الى تدمير غزة، واستشهاد وجرح عشرات الالاف من أهلها، انتقاما لفشلها في القضاء على حركة حماس على وجه الخصوص. هذه الانتصارات تحتاج الى كتب لتوثيقها.
على الصعيد العسكري، اعتبر نتنياهو هذه العملية العملاقة، بانها تعادل حرب السادس من أكتوبر عام 1973، التي عبر فيها الجيش المصري قناة السويس، وحطم خط بارليف، وحرر الجيش السوري، معظم أراضيه المحتلة، ووصل الى مشارف الحدود مع الكيان الصهيوني. حيث قال بعد ساعات من بدء العملية، وبالحرف الواحد: “نحن في حالة حرب، وليس في عملية، ولا في جولة قتال. شنت حماس هذا الصباح، هجوما مفاجئا ضد دولة إسرائيل ومواطنيها. منذ الصباح عقدت اجتماعًا مع قادة المؤسسة الأمنية، وأمرت بتطهير البلدات من المخربين. هذه العملية تنفذ في هذا الوقت. وبموازاة ذلك، أمرت بتجنيد احتياط واسع، العدو سيدفع ثمنًا لا يتصوره”.
والرجل محق في ذلك. اذ لم يتعرض الكيان لمثل هذا الهجوم، ولم يلحق بالمؤسسة العسكرية الصهيونية من قبل هذا القدر من الإهانة والذل والخذلان. فقد حققت عملية طوفان الأقصى نصرا، لم يتمكن الجيشان المصري والسوري، من تحقيقه في حرب أكتوبر عام 1973، والتي عبر فيها الجيش المصري قناة السويس، وحرر الجيش السوري معظم أراضيه في الجولان ووصل الى مشارف حدوده مع الكيان الصهيوني. ففي الوقت الذي عجز فيه جيش الكيان الصهيوني بكامله، عن احتواء الهجوم الفلسطيني، والقيام بهجوم معاكس، وتحقيق نصر ضد المقاومة الفلسطينية، على الرغم من مرور عام كامل على بدء عملية الطوفان. فان هذا الجيش نفسه، تمكن بعد مرور أسبوع واحد على بدء حرب اكتوبر، من احتواء هجوم الجيشين المصري والسوري، ثم شن هجوما معاكسا، وتحقيق انتصارات مذهلة على كلا الجبهتين، وبستة الوية مدرعة. هنا تكمن عظمة الشعوب، حين تلجا الى المقاومة الشعبية المسلحة لتحرير أراضيها، او انتزاع حقوقها المشروعة من سطوة الأنظمة العميلة او الدكتاتورية.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد حققت عملية الطوفان أيضا، مفاجآت عدة غير مسبوقة للكيان ولمجلس حربه ومؤسساته الأمنية وغيرها. حيث امنت مئة بالمئة عنصر المفاجأة، وتجاوزت كل الإجراءات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، والمنظومة الالكترونية، التي تراقب النملة في جحرها، وتسمع دبيبها، على حد قولهم. كما اخترقت جميع السياجات الاسمنتية المسلحة بعمق 75 متر حول غلاف غزة، والتي استغرق بناؤها خمس سنوات، وكلفت عدة مليارات من الدولارات، وشلت قدرة الفرقة العسكرية المكلفة بالتصدي لاي هجوم من قبل المقاومة الفلسطينية، وإخراج منظومات التواصل التي تربط المواقع العسكرية على الحدود من الخدمة. ثم امنت وصول ابطال عملية الطوفان الى عمق 70 كيلومترا داخل الأراضي الواقعة تحت ادارة المحتل، والسيطرة على جميع المستوطنات المسلحة القريبة من غلاف غزة، وقتل واسر المئات من جنود الاحتلال ومن المستوطنين. وكان أعظم المفاجآت، استخدام الطائرات الشراعية في الهجوم، والتي لم تتمكن كل منظومة الرادارات المتطورة والفريدة من نوعها كشفها.
اما المستوطنون في الأراضي المحتلة، فقد صعقوا بانهيار القوة العسكرية، التي ظنوها لا تقهر، وعاشوا في ظلها بطمأنينة طيلة العقود الماضية، دون ان يرف لهم جفن، لا من اعدائهم الفلسطينيين، ولا من الجيوش العربية او غيرها. حيث حزم الألاف منهم حقائبهم في اليوم الأول من الهجوم المسلح الفلسطيني ولاذوا بالفرار، الى درجة ازدحمت بهم جميع المطارات في الكيان الصهيوني. وتوالت عمليات الهروب وزادت وتيرتها، مع مشاهد الجنود الصهاينة المدججين بالسلاح والمتبجحين بسردية التفوق على الاخرين، يتساقطون قتلى، ومنظر دباباتهم التي تحترق، وهي الأفضل دبابة في العالم، امام ضربات ابطال المقاومة على ارض غزة، الذين لا يمتلكون سوى أسلحة بدائية وصواريخ من صنع محلي. في حين عززت هذه الانهيارات في صفوف المحتل، معنويات المقاومة الفلسطينية، ومنحتهم مزيدا من الإصرار والإرادة والثقة على مواصلة المعركة حتى النهاية.
لم يصب الذعر نتنياهو وحده، ولا مؤسسته العسكرية ولا مستوطنيه، وانما أصاب ايضا أمريكا وحلفاءها، سواء في حلف الناتو او من حكام الردة العرب. حيث حركت أمريكا اساطيلها وحاملة طائراتها باتجاه المنطقة، إضافة الى مشاركة جميع شركات التقنية وتكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة الامريكية، مثل آبل وسيسكو وديل وغوغل وأمازون ومايكروسوفت وانتل وغيرها، حيث قدموا للكيان الصهيوني الخدمات الكبيرة والمتشعبة، ومنها الدعم التقني واللوجستي والعسكري. وكان اخرها أجهزة البنجر، الذي راح ضحيتها عشرات القتلى والاف الجرحى من الشعب اللبناني، وعدد من قادة ومقاتلي حزب الله. ناهيك عن تقديمها المساعدات النقدية الضخمة، وضخ استثمارات بمليارات الدولارات في شرايين الاقتصاد الإسرائيلي.
لم يتوقف الامر عند هذا الحد، فقد أصبحت الدول الاستعمارية نفسها، التي تحكم البلدان، وتضطهد شعوبها وتسرق ثرواتها، في موقف لا تحسد عليه، فهي ستواجه حتما على المدى المنظور مقاومة شديدة، تضطرها للرحيل عاجلا او اجلا، تاركة عملاءها يواجهون مصيرهم الأسود، لصالح حكومات وطنية تبني بلدانها، وتحقق لشعوبها الاستقلال والحرية والتقدم، وتساهم في نصرة الشعوب المظلومة. حيث لم تعد هذه الشعوب خائفة من المحتل، مهما بلغ من قوة. فثقافة الهزيمة التي حاولت الدول الاستعمارية ترسيخها في عقول الشعوب الضعيفة الى الابد، قد سقطت وسيطويها النسيان، وستسري بدلا عنها ثقافة طوفان الأقصى، كما تسري النار في الهشيم. ومن اهم عناوينها، ان الشعوب المحتلة، مهما بلغت من ضعف، بإمكانها هزيمة المحتل مهما بلغ من قوة. وان بإمكان المقاومة في أي بلد، ان تخوض المعركة بالاعتماد على نفسها، دون مساعدة أطراف إقليمية او دولية، وان مشروعية المقاومة وايمان شعبها بها، قادرة على تشجيع الناس على الانخراط في صفوفها والالتفاف حولها، وان التضحيات الجسام لا تهز معنويات الشعب وارادة الصمود.
اما على مستوى شعوب العالم، وبعض الدول الحرة، فقد حققت عملية طوفان الأقصى نتائج مذهلة. فبعد ان كان التوجه السائد الوقوف على التل والاكتفاء بالدعاء، او بتعبيرات عمومية، تحولت بعد الطوفان الى الانحياز الكامل للمقاومة الفلسطينية، وخرجت الى الشوارع بمئات الألوف، وأحيانا بالملايين متحدية قرارات حكوماتها بمعاقبة الوقوف الى جانب شعب غزة، او حتى رفع العلم الفلسطيني. وابتكرت وسائل لم تخطر على بال للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. ولم تكن ملاعب كرة القدم بعيدة عن ذلك. حيث ارتدى المشجعون لكلا الفريقين العلم الفلسطيني، ووضع اللاعبون على ملابسهم علامات التأييد لشعب غزة. اما الاشعار والاناشيد وغيرها فحدث ولا حرج. في حين لم تنس هذه الجماهير في الوقت نفسه، توجيه الإدانة للكيان الصهيوني ووصفه بمجرم حرب، ينبغي محاكمته، بل وإدانة الحكومات التي وقفت الى جانب هذا الكيان.
لكن هذا ليس كل شيء، فحركة الشعوب هذه، قد اثرت على بعض الحكومات في القارات الخمسة. فقطع بعضها العلاقة مع الكيان الغاصب، والبعض الاخر استدعى سفير الكيان ليبلغه احتجاجات الحكومة، والأخر قاطع البضائع الصهيونية والأمريكية على وجه الخصوص. اما برلمانات العديد من الدول، فقد ادانت العدوان على غزة، وأعلنت تضامنها مع الشعب الفلسطيني، اما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، فطالب بعقد جلسة طارئة لمجلس الامن، لمناقشة تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، مطالبا وفقها “بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وبامتثال جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية”. وقد صوت لصالح القرار 13 عضوا من أصل 15، وتحفظت بريطانيا. الامر الذي اضطر الولايات المتحدة الامريكية، الى استخدام حق الفيتو، لأنها الوحيدة التي رفضت الموافقة على وقف الحرب ضد الشعب الفلسطيني. ولم تكن وسائل الاعلام بعيدة عن هذا المشهد. فتصدى العديد منها للعدوان وطالب بوقف حرب الابادة ضد الشعب الفلسطيني. بمعنى اخر ان أمريكا قد تم عزلها من أقرب حلفائها، ولم يبق معها في الجبهة الدولية سوى ذيولها من الدول الأخرى. وهذا يبشر بعالم جديد، تعود فيه معادلة التوازن الدولي، التي كانت سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى تاريخ انهيار النظام الدولي ثنائي القطبية، في اعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1989، لتنفرد أمريكا بقيادة العالم حتى يومنا هذا.
لكن اهم هذه الانتصارات، الاعتراف بحركة المقاومة الفلسطينية، وحقها في مقاومة الاحتلال الصهيوني، ونفي تهمة الإرهاب عنها. وبالتالي فان من حقها مواصلة القتال، مهما طال الزمن وغلت التضحيات. حيث دعا عدد كبير من الدول في انحاء المعمورة، للاعتراف بالمقاومة الفلسطينية، ليتطور لاحقا الى المطالبة بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. بل ان الإدارة في الولايات المتحدة الامريكية، الداعم الأول للكيان الصهيوني، قد قدمت مثل هذه الاعترافات علنا. حيث استحضرت الإدارة الامريكية وتحديدا في 24/2/2024، دون سابق انذار، مشروع “حل الدولتين”، بعد مرور عقود على مولده المخزي، واعتبرته “السبيل الوحيد لإنهاء الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وانه حاجة ضرورية لمرحلة ما بعد وقف الحرب في غزة، واستعدادها للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية، على أراض محددة يتم الاتفاق عليها بين الطرفين”. وفي محاولة لأقناع المقاومة الفلسطينية بهذه الاكذوبة، أكد عليها، وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، في احدى زياراته إلى الكيان الصهيوني، بتصريح قال فيه، ان الحل، “دولتان لشعبين مجددا، هذا هو الطريق الوحيد لضمان الأمن الدائم لإسرائيل والوسيلة الوحيدة لضمان تحقيق تطلعات الفلسطينيين المشروعة إلى دولة خاصة بهم”. وقد مهد لهذا المشروع، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، في مؤتمر صحفي، بقوله “إن القضاء على حماس كفكرة أصبح امرا مستبعدا، وإنها ليست مجرد مجموعة من الإرهابيين ليتم القضاء عليها عسكريا.” لتختمها صحيفة نيويورك تايمز بالقول، “ان مسؤولي المخابرات الأميركية، أبلغوا أعضاء الكونغرس خلال إيجاز عسكري قُدم أمامهم هذا الأسبوع، أن إسرائيل لم تقترب من القضاء على “حماس” لكنها نجحت في إضعاف القدرات القتالية للحركة، نظرا لان حماس تعمل كقوة في حرب عصابات، وتختبئ في شبكة من الأنفاق التي يصعب اختراقها”. وقد فسرت “أن بي سي نيوز” هذه التصريحات، بالقول “إن الإدارة الامريكية اذ تقدم هذا الحل، قبل أي اتفاق شامل ونهائي بين الطرفين، انما تريد منه فهم التحولات الواضحة في موقف واشنطن، تجاه القضية الفلسطينية”. ناهيك عن ان عملية طوفان الأقصى قد أجبرت العالم على العودة الفورية الى ملف القضية الفلسطينية ووضعه على جدول اولياته، بعد ان وضع هذا الملف فوق الرفوف العالية، الى درجة كاد العالم وشعوبه نسيان هذه القضية العادلة بالكامل.
لقد أخرجت عملية طوفان الأقصى، حقيقة انتصار الشعوب المقهورة، من خانة النظريات والترف الفكري، الى حيز الواقع الفعلي. حيث ترجم مقاتلو المقاومة هذه الثوابت على ارض الواقع، حين تمكنوا من تغيير قوانين الحرب او الصراع، وكيفية توظيفها لصالحهم، وسلاحهم الأقوى شجاعة المقاتل قبل السلاح، والايمان بحقهم بتحرير ارضهم قبل حسابات موازين القوة، مهما اختلت لصالح المحتل، وقد شاهدنا صحة ثقافة هؤلاء، التي أساسها المقاومة المسلحة. حيث لم تتمكن سياسة حرب الإبادة والأرض المحروقة، وتدمير البيوت السكنية والمستشفيات وقتل الأطفال والنساء، من تحقيق أي نصر في معارك المواجهة، ففي الوقت الذي يتساقط فيه جنود الاحتلال وتدمر دباباتهم والياتهم العسكرية لم يتمكنوا من مواجهة مقاتل فلسطيني، واحد ولم يتمكنوا من تحرير اسراهم، من مدنين او عسكرين، او تدمير الانفاق، رغم استخدام قنابل ذات حمولة فلكية من المتفجرات. وكل ذلك تحقق في ظل حملات إعلامية لتشويه انتصار غزة والتبشير بهزيمتها. لكن بقي العنصر الأهم في هذه الثقافة، ان قضية الشعب المظلوم لن يطويها النسيان مهما حاول اعداؤها. وان المشاريع لتصفية حقوقها لن يكتب لها النجاح في النهاية. وأيا كانت نتائج هذه الحرب، فأنها أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة وإلى أولويات الأجندة الدولية، وأنهت رهانات كبيرة على مشروع التطبيع الإقليمي، بوصفه بديلًا عن الحل النهائي، الامر الذي يفضح احبولة الدولتين البائسة، التي سعى الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري لتمريرها في جنح الظلام.
باختصار، مهما حاول الاعلام الغربي، تشويه هذه الانتصارات بالتركيز على الدمار والخراب الذي حل بغزة، وتحميل المسؤولية لقيادة المقاومة الفلسطينية، جراء تجاهلها حساب القوة العسكرية الصهيونية الهائلة، قبل ان تحقق قوة موازية لقوة المحتل، لن يفلح هذا الاعلام الغربي في مسعاه. حيث وضعت الشعوب هذه المعادلة جانبا، واعتمدت قوانين الحروب الأخرى، التي لها حسابات خاصة واليات مختلفة واستراتيجيات وتكتيكات مبتكرة، سميت بحروب المقاومة الشعبية ضد المحتل، او حروب العصابات في الجبال، او الغابات او حروب المدن والشوارع من بيت الى بيت. كما تتميز بطول مدتها، ومهاراتها واسلحتها الخاصة، التي قد تهزم بها مجموعة من المقاتلين المدربين والصبورين، أعتى الجيوش المجهزة بأحدث العتاد. كما تنفرد أيضا بسرعة الحركة وقنص الدبابات والمقاتلين اثناء تحركهم في المدن. كما تتميز أيضا بتامين الخطوط الدفاعية المتحركة والفعالة وتوزيع المقاتلين إلى مجموعات مجهزة بالأسلحة المناسبة. مثل الأسلحة المضادة للدروع والدبابات، المزودة بمعدات الرؤية والقنص، كما تجيد المجموعات القتالية فن الإيقاع بالعدو، حيث تمتلك خبرة واسعة في إعداد الكمائن ومعرفة تامة بالمناطق التي تقاتل فيها.
يقول المفكر الاستراتيجي المعروف هنري كيسنجر، أحد رموز الفكر والدبلوماسية الامريكية، “إذا لم يلق المقاوم سلاحه ويستسلم فانه منتصر. وشعب فلسطين وفق هذا المنظور الصحيح انتصر في غزة. وإذا خسر هذه الجولة، فهناك جولات ستقودها كوكبة أخرى من المقاتلين، كما حدث وتعاقبت أجيال المقاومة، على مدى ثمانين عاما من التضحية والفداء. وستحظى بمزيد من الدعم والاسناد من قبل شعوب العالم. خاصة وان الكيان الصهيوني، كيان مصطنع، احتل ارض فلسطين وهجر أهلها، واستقدم اليهود من انحاء العالم اليها، لتحقيق أحلامه المريضة، بإقامة الوطن اليهودي، الذي يمتد من الفرات الى النيل. وقد منحت الشرائع السماوية والوضعية، حق الشعب الفلسطيني بطرد المحتل، عن طريق المقاومة المسلحة دون غيره. فقد فشلت كل التنازلات المذلة، التي قدمتها منظمة التحرير، والتي تعترف فيها بالكيان الصهيوني، مقابل سلطة فلسطينية منزوعة السلاح والسيادة على مساحة 22 %. وهذه الحقيقة لم تعد قابلة للشك او التأويل.
ان من حق الشعب الفلسطيني، وشعوب العالم المضطهدة، الافتخار بانتصارات طوفان الأقصى وهي تدخل عامها الثاني.
المصدر: الكاردينيا