من حق الناس أن تقرر مصيرها، وأن تناضل من أجل ما تراه حقاً لها، ومن حق المجتمعات أن تختار الذي يناسب ثقافتها، وما يتناغم مع بيئتها، وهذا لا يعارضه من يؤمن بالحقوق وتحقيق العدالة، ولا يحاربه إلا الأنظمة الديكتاتورية الشمولية.
هذه الحقوق هي الحلم الذي انطلقت لأجله الثورة السورية، وتحرّك لتحقيقه الشعب السوري بكل فئاته العمرية، ومكوناته الإثنية والعرقية على امتداد الخريطة السورية من عامودا شرقاً إلى اللاذقية غرباً ومن إدلب شمالاً إلى درعا جنوباً أمام أعتى الأنظمة إجراماً وأكثرها ارتباطاً وعمالةً، وأشهرها استبداداً، وأعمّها فساداً، وأتقنها كذباً وإفساداً.
بنية المجتمع السوري
أحداث الثورة السورية معروفة، والمحطّات التي مرت بها الثورة لم تكن إلا نتائج مدبّرة ومتوقعة عملت على تنفيذها عصابة نظام الأسد وحلفائه من المحور نفسه.
الحديث عن الملفّات التي ساهم النظام في الإفساد فيها لا تحصى ولعلَّ من أبرزها تفكيك بنية المجتمع السوري، وخلخلة العلاقات الأسرية، وخلق الفتن بين البيئات السورية ، والثورة السورية كانت النتيجة الحتمية للوقوف بوجه هذا الإفساد وهذا الظلم الذي طال معظم المكونات السورية، والمتابع لسيرورة الثورة يدرك أسباب وقوف طائفة من الناس في صف الأسد لاعتبارات مذهبية أو مصلحية أو نفعية، أو خوفاً من نظام وحشي لا هوادة معه وهذا معروف ملموس.
قضيتنا مع الطرف المظلوم والمسحوق حين ينقلب على قضيته الكبرى في سبيل تحقيق مصالح ضيقة خاصة، وحين يلتحف بأجندات لا وطنية ولا منطقية، تدعو للانفصال أو الاستئثار بالثروات الوطنية، بحجة أحقية الأرض وحق تقرير مصير المناطق الغنية بالثروات الباطنية والزراعية والمهملة لعقود.
دعاوى الأرض التاريخية «من أتى بعد من، ومن قبل من « دعاوى لها ارتباطات قومية ترقى إلى العنصرية لا تنمُّ عن وعي ولا ثقافة، ولا تتناسب مع واقع اليوم، وتتصادم مع معنى الدولة والمواطنة، لتتجاوز إرادة الشعوب ومصالحهم وتاريخهم الطويل المشترك، كوصيّ يرى أنه المخوّل الأكثر فطنة ومعرفة بصالح قومه، ويده على الزناد كعادة عصابات الأنظمة الاستبدادية الفاسدة.
فالدولة كيان مستقل على مساحة جغرافية اتفق مؤسسوها والشعوب الموجودة فيها على تشاركية تضمن مساواتهم وحقوقهم والأنسب لحياتهم ومصالحهم والأقرب للثقافة المجتمعية التي تعني في نظر علماء الاجتماع بأنها جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة، ويشترك أعضاء المجتمع بعناصر الثقافة تلك التي تتيح لهم مجالات التعاون والتواصل، وتمثل هذه العناصر السياق الذي يعيش فيه أفراد المجتمع.
تعدد القوميات والإثنيات
والوطن السوري المتبقي تماسك لعوامل كثيرة بالرغم من تعدد القوميات والإثنيات والطوائف والمشارب الفكرية، وبالرغم من استحواذ عائلة الأسد بمطية حزب قومي بغيض استحكم رقاب السوريين لأكثر من خمسين عاماً باسم العروبة، تلك الكذبة التي يصر على تصديقها كل مرتاب ومختل ومن يريد استخدام هذه الدعاية وترويجها على أنها حقيقة. لكن الخطوط العريضة لوطن متماسك صلب ومنفتح ظهرت حقيقته في ثورة 2011.
وباختصار أيضاً نحن أمام خيارات لا بد منها ومن مواجهتها وعلى الشعوب أن تدرك بدايةً حقيقة عصابات السياسة والسلاح، وأن صالح الشعوب هم الأقدر على اختياره.
ولا يحق لأحد فيها إلغاء الآخر ولا يملك أحد الأطراف حق الأرض التاريخية المزعومة، فالناس بمختلف إثنياتهم وعلى اختلاف عقائدهم وعاداتهم عاشوا على هذه الأرض لفترات تاريخية طويلة كشعب متآلف لمئات السنين، والنَّزعات والنزاعات القومية تولى فبركتها متعصبون متطرفون منبوذون، يدعم تحركهم دول لها مصالح متعددة في تمزيق الأوطان وتآلف الشعوب.
المجتمعات الحديثة تنبذ مفهوم الغالبية القومية إلى مصطلح ومفهوم الغالبية الوطنية التي بمقدورها النهوض بالبلاد، على أساس المواطنة والعدالة الاجتماعية التي ترى في تعدد الثقافات منحة وفي تنوع المجتمع غنى، وسبيل تطور المجتمع وتماسكه أو تراجعه وانقسامه مرتبط بإرادة الشعوب وما تقرره صناديق التصويت، فهي الأصلح والأكثر أماناً.
من منتصف القرن العشرين حتى يومنا هذا لم يكن السوريون أخوان مسلمين رغم الغالبية المسلمة، ولم يؤيدوا حزب البعث بإيديولوجيته العربية رغم الغالبية العربية، ولم يكن نصيب الأحزاب القومية الكردية أوفر حظاً، وهذه الحقيقة يدركها ويدرك أبعادها الناجون من هذا العبث، والمراهنون على سوريتهم التي تحتاج منا الوعي والمكاشفة وبناء الثقة.
ختاماً: فإن كل ما نشهده من تحريض وتنامٍ للخطابات العنصرية والالتحاف بغطاء القومية والمناطقية والقبلية والطائفية وغيرها عائد على الأنظمة الديكتاتورية التي تغذي هذه الصراعات وتعمل على زعزعة الثقة بينها، لتبقى قابعة على رقاب البلاد والعباد تقتل وتسرق بلا حساب.
المصدر: القدس العربي