الهلع السوري

محمد برو

منذ نهايات عام 1970، ووصول حافظ الأسد إلى رأس السلطة، وعبر سنوات من العمل المنهجي، استطاع حافظ الأسد أن يحول المجتمع السوري إلى مجتمع مسكون بالخوف والقلق، ويحول سوريا إلى مملكة للرعب والصمت. واستمر الحال على ما أراد حتى بواكير الثورة عام 2011، حين ثقب الشباب السوريون جدار الصمت، متحدين أعتى صخرة جثمت على صدور السوريين طوال أربعين سنة، وهي صخرة الرعب والخوف.

في المعتقل السوري وفي الحياة السورية على حد سواء، اعتاد السوريون على تلقي أشد أنواع القمع والعقاب لأدنى خطأ، وفي معظم الأحيان على شبهة خطأ. فالتعذيب والإفراط في الإضرار وتحطيم الشخصية الإنسانية السوية التي تقاوم الظلم والانتهاك كان هدفًا مستمرًا. كل ما سبق أبقى السوريين، في معظم الحالات، مسكونين بإحساس مبالغ فيه من الهلع إلى الحدود القصوى.

الخوف الرئيسي الذي يعيشه السوريون ليس خوفًا من الموت أو الفناء، بل هو في الغالب خوف من الألم الناجم عن شدة التعذيب، الذي يتخطى بهوله حدود الخيال، والخوف من الإعاقة التي تعني بشكل أساسي انكسار الكرامة الإنسانية والعيش في حالة عوز مستمر لمساعدة الآخرين، هذا في حال توفرهم، وبالتالي القبول بأدنى حدود الممكنات.

السوري الذي هاجر من بلده وتوطن وحصل على الجنسية في بلد أوروبي لم يعد لديه مبرر للحذر المستمر والخوف من أجهزة النظام التي تعجز عن ملاحقة ومتابعة ملايين السوريين الذين خرجوا من بلادهم.

غالبًا ما يتم استخدام تعبير الخوف والرعب بالتبادل لوصف الشعور بالخوف أو الرهبة أو الهلع، ومع ذلك، هناك فرق كبير بين جملة التعابير التي تتحدث عن الخوف والرعب وما يشاكلهما. فالخوف هو شعور طبيعي ينشأ استجابة لتهديد أو خطر محسوس، ويمكن أن يتراوح من إحساس بعدم الارتياح إلى شعور أكثر حدة بالقلق أو الرهبة. وغالبًا ما يكون الخوف مصحوبًا بأحاسيس جسدية مثل زيادة معدل ضربات القلب، والتعرق، وزيادة الوعي بمحيط المرء. وهذا ما يدفع الخائف لاتخاذ احتياطات ومواقف وسلوكيات معدلة استجابة لهذا الخوف، ونادرًا ما يأتي الخوف كفعل أو استجابة مفاجئة، بل يأتي نتيجة تفاعل حدث أو توقع بشكل متكرر، مع محاكمة ذهنية تهدف إلى حماية صاحبها، وترتفع تدريجيًا لتصبح خوفًا ورهابًا قد يستمر حتى بعد انتهاء السبب الرئيسي لوجوده أصلًا.

أما الرعب، فهو شكل مكثف من الخوف الذي يهدد الحياة بشكل حاد، وغالبًا ما يكون مصحوبًا بالشعور بالعجز أو الفزع الشديد. يمكن أن يكون الرعب نتيجة لموقف مفاجئ أو غير متوقع يهدد الحياة أو السلامة بشكل كبير، حيث يصاب صاحبه بالشلل التام والعجز عن اتخاذ موقف أو استجابة مناسبة لهذا الحدث الطارئ. فكيف بنا إذا أصبحت مسببات الرعب الشديد متكررة بشكل مستمر؟

بالعودة لحياة السوريين، فقد مورست بحقهم جميع الوسائل والممارسات التي تجعل من أحدهم كائنًا قلقًا، خائفًا، مترقبًا، مسكونًا بالهلع والرعب الدائم. في معظم الأحيان، يلعب الفرد دور ضابط الأمن في مراقبة ذاته وضبط سلوكياته وكلماته، تجنبًا لأي التباس أو اشتباه يفضي به إلى ما وراء الشمس ويتركه نسيًا منسيًا. تستمر هذه السلسلة الطويلة من التعايش مع كل أوهام الخوف والفزع إلى أن تصبح لصيقة بحالته النفسية، ويتطبع بها حتى مع انتفاء مبررات وجودها. فالسوري الذي هاجر من بلده وتوطن وحصل على الجنسية في بلد أوروبي لم يعد لديه مبرر للحذر المستمر والخوف من أجهزة النظام التي تعجز عن ملاحقة ومتابعة ملايين السوريين الذين خرجوا من بلادهم. ومع هذا، تجد الشطر الأكبر من هؤلاء يتوخى جانب الحذر في مجالسه وتعليقاته وحتى في علاقاته مع أصدقاء باتوا يحسبون من معارضي النظام.

كم ستبقى متلازمة الرعب والخوف قابعة في نفوس السوريين، تضبط إيقاع حياتهم على نحو لا إنساني؟

حتى في بلدان المهجر، نجد أن تعامل السوري مع أجهزة الدولة المضيفة محفوف بالتوجس والخوف والقلق، الذي لا نجده لدى الآخرين. كيف لنا أن نتخيل حالة المجتمع السوري الذي تلبس حالة الهلع المهيمنة على كل تفاصيل الحياة اليومية، والذي أصبح بمرور الأيام في حده الأعلى؟ سنكتشف أن أنماط الاستجابة للرعب المتخيل لدى الفرد السوري، حين تعرضه لأي مسبب لهذا الخوف على تباينه وتنوع أشكاله ومستوياته، ستكون بمستوى الاستجابة القصوى التي اعتاد عليها، من دون التفريق بين ما هو حاد ومعقد وما هو بسيط وعابر. لا سيما أن البطش الذي مورس بحق السوريين على مدى نصف قرن لم يكن يراعي التناسب المنطقي أو القانوني بين الجريمة والعقاب، فما بالنا إذا شهدنا آلاف الجنايات التي ارتكبت لمجرد الشبهة أو الوشاية الكيدية، التي لم يكن النظام يهملها رغم معرفته بتفاهتها، لأنها تشكل نوعًا مهمًا من أنواع إشاعة الرعب الذي كان الأسد يحكم به الشعب السوري إلى يومنا هذا.

كم ستبقى متلازمة الرعب والخوف قابعة في نفوس السوريين، تضبط إيقاع حياتهم على نحو لا إنساني؟ وهل يمكن للجيل الذي عايش ولادة دولة القمع السورية، وعاش عقودًا طويلة في كنفها، خاضعًا لتعسفها وتماديها في سحقه، أن يبرأ من هذه المتلازمة المقيتة؟ ربما يكون هذا حلمًا بعيد المنال في جيلنا، لكن ما هو ممكن أن نمنع نقل هذا الفيروس إلى أبنائنا، فلا نصبح كالعبيد الذين ينجبون عبيدًا، لتستمر قوافل العبيد من جيل إلى جيل. جميع المعطيات التي نعيشها تبشر بانفكاك جيل الأبناء عن تقليد واتباع الآباء، وتوقهم لامتلاك أدواتهم في التفكير والتغيير، وهذا ما يرهق الطغاة في عصرنا الجديد الذي نشهد ولادته. وربما يكون أملنا الوحيد.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى