دراما “هاريس”و”ترامب”

عبد الحليم قنديل

لم تكن المناظرة التليفزيونية الأولى بين ” كامالا هاريس” و”دونالد ترامب” حاسمة ، ولم تنجح “هاريس”رغم تقدمها الهجومى أن تفوز بالضربة القاضية فى مباراة الهواء ، فقد ابتعد المرشح الجمهورى بنصائح مستشاريه عن توجيه السباب الشخصى للمرشحة الديمقراطية ، بينما سعت “هاريس” لاستفزاز غريمها إلى أقصى حد ، واتهمته بالديكتاتورية والإجرام والكذب والعداء للديمقراطية وحكم القانون ، وفى قضايا الداخل الأمريكى الأكثر أهمية للناخبين ، بدا “ترامب” حريصا على بيان موقفه الكلاسيكى الرافض لتدفقات ملايين المهاجرين غير الشرعيين ، بينما لجأت “هاريس” إلى حصار خصمها فى قضية حق النساء بالإجهاض ، وبدا الطرفان على كفتى ميزان متناوش فى قضايا الاقتصاد وأزماته ، وفى القضايا الدولية ، بدت “هاريس” حريصة على إبراز طابع قيادى ، ووصفت صورة “ترامب” بأنها مخزية ومثيرة للسخرية عند الحلفاء الأجانب ، بينما وجد “ترامب” ضالته الوحيدة فى مديح حظى به من “فيكتور أوربان” رئيس الوزراء المجرى ، واتهم “هاريس” بقيادة العالم باستفزاز موسكو إلى حرب نووية ، واكتفى بتكرار ألفاظه المعتادة عن قدراته السحرية فى وقف حروب العالم ، والحصول على مئات مليارات الدولارات من شركاء أمريكا فى حلف شمال الأطلنطى ، وفى القضية الفلسطينية ، زايد “ترامب” على “هاريس” فى إشهار الولاء لكيان الاغتصاب “الإسرائيلى” ، واتهم “هاريس” بالعداء لإسرائيل “المهددة بالتلاشى خلال سنتين” إذا فازت “هاريس” ، بينما أعادت “هاريس” تأكيد موقف الدعم المطلق للكيان “الإسرائيلى” ، والسعى لإيقاف حرب “غزة” ، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين ، وإعادة إعمار “غزة” ، والمضى إلى “حل الدولتين”  وحق تقرير المصير للشعب الفلسطينى .

  حملة “هاريس” من جانبها ، تشجعت بأداء مرشحتها فى مناظرتها الرئاسية الأولى ، وبإتقانها استخدام لغة الجسد وتعبيرات الوجه فى السخرية من كلام “ترامب” ، وبالذات حين ردد أخبارا كاذبة عن أكل المهاجرين لقطط وكلاب الأمريكيين (!) ، وطالبت حملة “هاريس” بتكرار المناظرة فى وقت قريب ، وهو ما بدا “ترامب” مترددا فى قبوله ، ورغم أن “ترامب” بدا مقموعا وممنوعا من استثمار هوايته فى “الردح” الشخصى ، اللهم إلا فى وصف “هاريس” بأنها “ماركسية” كأبيها الهندى ، وهو ما ردت عليه “هاريس” بنصف ابتسامة ساخرة ، لكنها لم تسكت على اتهام “ترامب” لها بالعداء لإسرائيل ، وقالت أن تاريخها كله حافل بالولاء الأكيد لإسرائيل و”حقها فى الدفاع عن نفسها” ، فالولاء للكيان “الإسرائيلى” بمثابة “البقرة المقدسة” فى المجتمع السياسى الأمريكى ، وإن بدت “الرواية الفلسطينية” ظاهرة الأثر فى خطاب “هاريس” ، القريبة أكثر من رئيسها “جو بايدن” إلى الجناح التقدمى فى الحزب الديمقراطى ، والحريصة على اجتذاب أصوات الأمريكيين من أصول عربية ومسلمة ، وهى كتلة تصويت تقارب 700 ألف صوت ، قد يكون لها أثر بارز فى بعض الولايات المتأرجحة ، ويلزم “هاريس” الحصول على أصوات ولايات ثلاث منها فى المجمع الانتخابى العام ، وبالذات ولايات “بنسلفانيا” و”ويسكونسون” و”ميتشجان” ، وحتى تستطيع الوصول إلى رقم الفوز الذهبى ، وهو الحصول على أكثر من 270 صوتا لمندوبى المجمع الانتخابى البالغ عددهم 540 ، فالنظام الانتخابى الأمريكى يمضى على درجتين ، أولاهما التصويت الشعبى ، وتبدو “هاريس” متقدمة فيه على “ترامب” فى أغلب استطلاعات الرأى ، لكنه لا ينعكس تلقائيا فى عدد أصوات مندوبى المجمع الانتخابى ، فالمرشح الرئاسى الذى يفوز بأكثر من خمسين بالمئة فى ولاية ما ، يكسب مئة بالمئة من أصوات مندوبى الولاية فى المجمع الانتخابى ، وهو ما يؤدى لعديد المفارقات فى تاريخ ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ، وقد خسر “ترامب” انتخابات 2020 بسبب ولاية “جورجيا” ، التى تقدم فيها “بايدن” بعشرة آلاف صوت لا غير ، فحصل على كل أصوات مندوبى الولاية ، وفى انتخابات سبقتها ، فاز “ترامب” فى النهاية على منافسته “هيلارى كلينتون” فى انتخابات 2016 ، رغم أن “هيلارى” تفوقت عليه بملايين الأصوات الشعبية ، وهو ما كانت له سوابق ، بينها حالة المنافسة بين “آل جور” و”جورج بوش” الإبن ، كانت كفة التصويت الشعبى راجحة بالملايين لصالح “آل جور” ، لكن “بوش الإبن” فاز فى النهاية بأصوات مندوبى ولاية “فلوريدا” ،  وعلى عكس “آل جور” الديمقراطى ، الذى لم يعاند فى النتائج ، لم يسلم “ترامب” أبدا بهزيمته فى انتخابات 2020 ، وظل يتحدث عن فساد النظام الانتخابى الأمريكى ، ثم عن فساد النظام القضائى كله ، الذى اتهمه بالتحيز ضده ، وإدانته فى دعاوى تزوير وتحرش جنسى ، وبدا سعيه للرئاسة مجددا ، وترشحه المتكرر لمرة ثالثة ، وبالمخالفة لعرف الترشح لمرتين لاغير ، بدا ذلك كله فى جانب لا يخفى منه ، كسعى من “ترامب” لاستصدار عفو رئاسى عن إدانات دامغة لحقت بشخصه ، لكن “ترامب” قد لا ينجح فى الوصول للرئاسة هذه المرة ، رغم أن قاعدته الانتخابية تبدو راسخة ، وترتكز بالأساس على قواعد اليمين المحافظ المقتنع ـ كما “ترامب” ـ بوجود مؤامرة على أمريكا والجنس الأبيض ، الذى يعتبر نفسه حجر الأساس فى البنيان الأمريكى ، ويخشى من تزايد تدفقات المهاجرين الملونين ، الذين يهددون أولوية جماعة “الواسب” ، أى البيض الأنجلوساكسون البروتستانت ، وقطاعات كبيرة منهم ، تردى وضعها الاجتماعى الاقتصادى مع فقر التعليم ، ومع تراجع معدلات تفوقهم السكانى ، وقد كان هؤلاء البيض يشكلون نحو 70% من السكان إلى عهد قريب ، وصاروا أقل من 60% بين السكان اليوم ، وهو ما ولد بالمقابل عنفا لفظيا وفعليا دفاعا عن مظلومية مدعاة للجنس الأبيض فى أمريكا ، وظهورا لنزعات شبه نازية ضد جماعات السود والملونين الزاحفة سكانيا ، وقد كان انتخاب “باراك أوباما” الملون رئيسا قبل أقل من عقدين نذير شؤم عند البيض المتعصبين ، وهم مع “ترامب” اليوم فى مواجهة مع الملونة “هاريس” ذات الأصول الهندية الأفريقية ، المستندة إلى تأييد حار من “أوباما” نفسه ، وتبدو كأنها طبعة نسائية من “أوباما” ، وهو ما يزيد من استثارة نزعات تفوق العرق الأبيض المظلوم فى زعمهم ، رغم دوره الأول فى تأسيس أمريكا بعد إبادة الهنود الحمر واضطهادهم العبيد السود ، وهو ما يبرز طابعا ثأريا وراء التنافس الانتخابى الرئاسى الراهن ، وتآكل الأجنحة المعتدلة فى الحزب الجمهورى ، وتحويله إلى حزب خاص “ملاكى” لشخصية “ترامب” العنصرية المتعجرفة ، التى تربط عودة ما تسميه “أمريكا عظيمة مرة أخرى” باسترداد العظمة للجنس الأبيض ، وتنفر من “موزاييك” أمريكا المتعددة الألوان ، وتخشى من تنامى الهجرة الشرعية وغير الشرعية المدمرة لسيادة البيض ، فوق تنمية نزعات التعصب الدينى البروتستانتى ، وفئاته الإنجيلية الأكثر تعصبا لأولوية “التوراة” والعهد القديم ، بما فيها نزعة “الصهيونية المسيحية” التى تعطى أولوية دينية لدعم الكيان “الإسرائيلى” ، وهدم المسجد الأقصى ، وإقامة ما يسمى “هيكل سليمان الثالث” مكانه ، وتسييد وضع يهودى ، يهيئ الظروف المطلوبة لعودة السيد المسيح ثانية إلى الأرض ، وقيادة حرب “هرمجدون” الأخيرة ضد العرب والمسلمين عموما .

  ومن هنا نفهم ، كيف أن “ترامب” الملياردير المقاول غير المبالى تقريبا بالأديان ، يضع استقطاب مشاعر الصهيونية المسيحية إلى صفه الانتخابى ، ويرى أن “إسرائيل” الحالية صغيرة جدا ، وأنه لابد من توسيعها ، وقد سبق له أن أيد ضم القدس والجولان لهذه “الإسرائيل” ، ولن يعجب أحد إن فاز برئاسة ثانية ، وأعلن تأييده لضم “الضفة الغربية” و”غزة” رسميا إلى هذه “الإسرائيل” ، وربما مساعدة اليمين الصهيونى الدينى فى ضم مناطق من أقطار عربية مجاورة لهذه “الإسرائيل” ، وهو ما يدفع “بنيامين نتنياهو” لانتظار قدوم “ترامب” مجددا إلى رئاسة البيت الأبيض ، مع حماس حكام وأنظمة عربية لانتظار “ترامب” أيضا ، وكثير منهم حلفاء موضوعيون لنتنياهو و”إسرائيله” ، فوق أنهم يجدون فى “ترامب” شخصية مناسبة أكثر لأوضاعم الداخلية ، فهو لا يكترث لحقوق الإنسان التى يدهسونها ، وهو رجل يمكن شراء ذمته بفوائض مليارات البترول ، وقد لا تبدو “هاريس” وحزبها الديمقراطى أفضل من “ترامب” بالنسبة لقضايانا ، رغم أن “هاريس” تبدو أقل فجاجة ، وتتخفى كعادة الرؤساء الديمقراطيين الأمريكيين وراء شعارات بمظهر براق ، قد تخدع بعض الأوساط الشعبية العربية ، لكنها لا تختلف فى الأثر والجوهر العملى ، فهم يتحدثون أحيانا عن بعض الحق الفلسطينى ، لكنهم يربطون أحاديثهم بنيل رضا وموافقة “إسرائيل” أولا ، كما فى أحاديثهم مثلا عن الدولة الفلسطينية فى الضفة و”غزة” ، لكنهم يربطون الأمر كله بشروط “إسرائيل” ، التى لن ترضى طوعا أبدا بإقامة أى كيان فلسطينى ، وقد كان “أوباما” و”بايدن” ـ مثلا ـ على خلاف شخصى مع “نتنياهو” ، لكنهما قدما إليه كل أنواع الدعم بالمال والسلاح والتأييد فى المحافل الدولية ، فالحقيقة القديمة المستجدة تبقى موكدة ، وهى أن “إسرائيل” هى أمريكا فى مطلق الأحوال ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا عندنا قبل واشنطن .

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يتسائل البعض ما هو الفرق بين هاريس وترامب؟ بين الديمقراطيين والجمهوريين؟ بالنسبة لقضايا شعبنا وأمتنا العربية، نقول الإثنين أعداء أمتنا وشعبنا والإثنان يتباريان لدعم قتلة شعبنا وسارقي ثروات أمتنا، لغياب وحدة الموقف العربي والأمن القومي العربي والقائد القومي العربي الذي يجمع الموقف لصالح أمتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى