بعد ردّ حزب الله الصاروخي على مقتل القيادي فيه فؤاد شُكر، والضربة الاستباقية التي ادّعت إسرائيل أنّها أحبطت من خلالها هجوماً أوسع كان الحزب ينوي شنّه عليها، عادت الأوضاع في الجبهة اللبنانية إلى ما كانت عليه من تبادل يوميّ للضربات والقصف الصاروخي، ولم تعد هذه الجبهة تحتلّ الأولوية، وتراجعت ظاهرياً حدّةُ خطورتها مع ابتعاد خطر الانزلاق إلى حرب واسعة، ولا سيّما بعد رفض مجلس الحكومة الإسرائيلية المصغّرة أخيراً اقتراحَ الوزير يوآف غالانت شنّ عملية عسكرية ضدّ حزب الله.
أثبتت العمليات العسكرية التي شهدها فجر 25 أغسطس/ آب الماضي بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله عدّة حقائق مهمّة، في طليعتها أنّ لا إسرائيل ولا حزب الله يريدان توسيع حجم المواجهة بينهما. وحرصاً على تأكيد ذلك بشتّى الطرائق، ربّما أبرزها مسارعة الطرفَين إلى الإعلان عن انتهاء العمليات العسكرية في اليوم نفسه، وتجنّبهما استهداف مدنيين أو بنى تحتيّةٍ مدنيةٍ، وصدور بيانات من الطرفَين تُؤكّد نجاحهما في تحقيق المهمّة. أكّد حزب الله في بياناته قصف الفرقة 8200، ومركز الموساد المسؤول عن تنفيذ عمليات الاغتيال في الخارج، وحصوله على دلائل ذلك. وادّعت إسرائيل أنّها قصفت عشرات مواقع إطلاق الصواريخ للحزب في الجنوب، وأنّها دمّرت مئاتٍ منها. وأعلن الطرفان كلاهما نجاحهما، وطويت صفحة الخوف والقلق التي سادت البلدين قبل حدوث الردّ والضربة الاستباقية. لكنّ شيئاً لم يتغيّر في تعقيدات الوضع في الحدود اللبنانية، لا سيّما في ضوء تعثّر الوصول إلى صفقة تبادل الأسرى، وبالتالي، الاتفاق على وقف إطلاق النار في الحرب على غزّة، الشرط الذي وضعه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، لوقف حرب الإسناد، كما يسمّيها، التي تحوّلت حربَ استنزاف طويلة الأمد.
من خطاب لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو (2 سبتمبر/ أيلول 2024)، ومن التعليقات الإسرائيلية التي أعقبته من مختلف الأطياف السياسية في إسرائيل، يُستشَفّ أمرٌ أساس مهمّ لا يمكن عدم أخذه في الحسبان؛ حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ حركة حماس في غزّة، التي توسّعت إلى شمال الضفّة الغربية، لن تنتهي في وقت قريب، والجيش الإسرائيلي في ما يبدو سيبقى في مناطق مختلفة من القطاع الذي سيظلّ محاصراً ومقطّع الأوصال تدور فيه عمليات كرّ وفرّ بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي “حماس”. والحكومة الإسرائيلية الحالية لليمين القومي لديها أجندات كثيرة لا يمكن تحقيقها سوى مع استمرار الحرب، أهمّها إفراغ غزّة والضفّة الغربية من سكّانها الفلسطينيين، وضمّ الضفّة الغربية وإعادة الاستيطان في قطاع غزّة. أمّا نتنياهو، المهووس ببقائه السياسي، فهو مُستعدّ للاستمرار في الحرب، ومقتنع بأنّ الوقت يعمل لصالحه، ورغم الغضب الشعبي العارم عليه وعلى حكومته وتحميلهما مسؤولية موت المخطوفين الإسرائيليين الستّة أخيراً، يبدو أنّ هذا الحراك ما زال غير قادر على إحداث تغيير عميق في صورة الوضع الحالي، ولا الضغط من أجل وقف الحرب على غزّة.
حتّى لو وافق نتنياهو اليوم على صفقة تبادل للأسرى، فإنّ وقف إطلاق النار على الأرجح سيكون مؤقّتاً
يدفع ذلك كلّه إلى التساؤل: ألا يتعيّن على قادة حزب الله إعادة تحديد الهدف من المواجهات التي يخوضها منذ أكثر من 11 شهراً، كلّفته خسائرَ بشريةً وعسكريةً باهظةً، كما كلّفت سكّان الجنوب خصوصاً موتاً ونزوحاً ودماراً وخسائرَ في الأملاك والأرواح كبيرة للغاية؟… من الأكيد أنّ حرب الإسناد تستنزف قوّات الجيش الإسرائيلي في الحدود وتُدفّعه ثمناً يومياً، وتفاقم أزمة النازحين الإسرائيليين من سكّان المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، الذين يصرخون مطالبين الحكومة بإعادتهم إلى منازلهم بالقوّة. لكن، هل يستحقّ هذا تحويل قرىً من الجنوب أراضيَ محروقةً، وهي التي دفعت الثمن الأكبر في الحروب الماضية؟ ألا يتعيّن على الحزب أن يأخذ في الاعتبار هذا الثمن في حسابات الربح والخسارة في المعركة؟ ألا يجدر به التفكير في مصير حرب الإسناد أو الاستنزاف التي يخوضها دعماً لغزّة، في ضوء احتمال تحوّل حرب غزّة حرباً على نيران منخفضة من دون نهاية واضحة لها في الأفق؟
خدعة نتنياهو التمسّك بالبقاء في محور صلاح الدين (فيلادلفي) لن تنعكس على مصير الحرب في غزّة والفلسطييين عموماً، بل أيضاً على مصير أهالي القرى الجنوبية في لبنان، وعلى الاستقرار في لبنان كلّه. وحتّى لو وافق نتنياهو اليوم على صفقة تبادل للأسرى، فإنّ وقف إطلاق النار على الأرجح سيكون مؤقّتاً، والعودة إلى القتال بعد مرور ستّة أسابيع مرجّحة، واستمرار ربط الجبهة اللبنانية بجبهة غزّة معناه دخول حزب الله، ولبنان معه، في حرب استنزاف طويلة الأمد، لا أحد يمكنه التنبّؤ بما ستؤول إليه.
المصدر: العربي الجديد