حسام رشاد الأحمد “السفان” روائي سوري متميز. حصل على الكثير من الجوائز الأدبية على إنتاجه الأدبي والروائي. قرأت له روايتين سابقتين: خطوة واحدة فقط. وفصول من سيرة صاحب الكرامة، وكتبت عنهما…
75 ثانية فل رواية حسام الأحمد الجديدة تطال موضوع الزلزال الذي أصاب الشمال السوري والجنوب التركي في الشهر الثاني من عام ٢٠٢٣م. وكان له نتائج كارثية على البشر والبنية التحتية، عشرات الآلاف من الضحايا والمصابين والخراب الذي طال مدنا وبلدات كثيرة في البلدين تركيا وسورية…
رواية 75 ثانية تأتي على لسان الراوي الرئيس بصيغة المتكلم وثمة رواة آخرون. وهو يسكن مع عائلته في مدينة غازي عينتاب التركية.
تبدأ الرواية من لحظة استيقاظ صاحبنا الشخصية المركزية في الرواية. في صباح يوم ٦ . ٢ . ٢٠٢٣م. حيث يسكن في بناء طابقي في مدينة غازي عينتاب، أحسّ قبل الفجر على حركة زوجته وهي تقوم بصلاتها وابتهالاتها اليومية. وهو يهيئ نفسه ليستيقظ من أجل صلاة الفجر. يفكر بزوجته وارتباطاتها الروحانية. وقوة حدْسها كما يفكر بأولاده الثلاثة. وسرعان ما تبدأ الأرض بالاهتزاز، سرعان ما أدرك أن هناك زلزالا عنيفا بدأت حركته، نهض بسرعة وطلب من زوجته الخروج إلى خارج البناء بسرعة. وتحرك بكل سرعة الى غرفة أولاده الثلاثة الذين استيقظوا أيضا. لكي يصطحبهم خارج الشقة والبناء كله. الى الهواء الطلق حيث تكون تبعات الزلزال عليهم أقل تأثيرا.
كل ذلك حدث في ثوان معدودة. وصل الى أولاده و الزلزال على أشدّه لقد بلغت قوته ٧فاصلة٩ درجة على مقياس ريختر. وهي قوة كارثية بتأثيرها. جمع أولاده وشكل بجسده غطاء لهم يحميهم من أي مؤثر خارجي فقد بدا له أن لحظة النجاة قد فاتت نتاج. زوجته لم تخرج بل لحقت به الى غرفة أولاده وشكلت معهم شبكة أمان مشترك. مرّ الزلزال الأول. زنجا للجميع بطريقة ما. وعندما هدأ الزلزال تحركوا جميعا كلهم الى خارج الشقة والبناء وذهبوا إلى الفضاء الخارجي. في الخارج حيث الطقس شديد البرودة والثلج يغطي الأرض. لكن الحياة غالية. غريزيا خرج الجميع إلى خارج البناء واستقروا في حديقة تجاور البناء. بعيدين نسبيا عن أي تداعيات جرّاء الزلزال في الأبنية المجاورة…
مضت ساعات على الزلزال واعتقد الناس ومنهم صاحبنا أن الموضوع انتهى. فعاد إلى بيته مع عائلته. وبدأ في إعادة ترتيب البيت الذي تبعثر نتاج الزلزال. وما إن مضت تسع ساعات ويزيد على الزلزال الأول حتى عاود زلزال آخر بنفس القوة تقريبا يضرب المنطقة وسرعان ما خرج صاحبنا وعائلته مسرعين خارج الشقة والبناء، هذه المرة لم يتمكنوا من الخروج من الباب فقد علق بما وقع عليه من جدران فاضطر إلى أن يلقي بأولاده من النافذة إلى حضن الثلج وألحقهم بزوجته وأخيرا ألقى بنفسه. لقد نجوا بأعجوبة والشقة تهلهلت وتهدم الكثير من أركانها. وقد اثرّ عليها الزلزال كثيرا وبدأت معالم الانهيار تظهر على البناء والأبنية المجاورة…
مرّ الزلزال الآخر والعائلة تلتحف الأرض الثلجية وتخاف أن تعود الى البيت الآيل للسقوط. وخوفا من الزلازل الارتدادية التي تواترت باستمرار ووصلت للمئات في وقت قياسي…
عند ذلك بادرت الدولة في فتح المساجد والمدارس والمراكز الحكومية التي لم تصب بأذى بالزلزال لاستقبال ألوف العائلات المشردة في الشوارع والساحات في هذا الجو الثلجي القارس…
كان نصيب صاحبنا أن دخلوا مع الكثيرين غيرهم الى صالة أفراح مجاورة، يستخدمها صاحبها كمورد مالي. كانت كبيرة وواسعة . استوعبت الكثيرين. وسرعان ما بدأت تظهر مشاكل الحياة اليومية والحاجات الملحة للناس الأكل والشرب والاغطية والمراحيض وغير ذلك. لم يتقبل طاقم العمال في الصالة خدمة الناس دون مردود من سيدهم أو من الناس الذين خرجوا يحملون روحهم. لا مال، لا أوراق ثبوتية. لذلك بدأت تظهر مشاكل تحتاج لعلاج. استنكف العمال عن العمل. طردهم صاحب الصالة متخلصا من معاشاتهم. وسرعان ما أصبح مسؤولا عن استقبال الإعاشة من مأكل وملبس ومعونات من الدولة التركية والجمعيات الخيرية. وهكذا حول مأساة الناس الى باب رزق له ولمن حوله. حيث شكلوا شبكة تستقبل الأعطيات تأخذ ما تريد. وتعطي الناس بعض المواد الإغاثية، وتعيد بيع بعض تلك المواد للناس والكل يعلم أن هذه المواد المباعة كلها تبرعات مجانية. ولكن الناس ضعفاء وأصحاب حاجة. لذلك كانوا يشترون ولو على مضد.
أصبح الناس داخل الصالة ضحية الفوضى ونقص الحاجات واستغلال صاحب الصالة والعصابة التي تعمل معه. مما انعكس على الناس بأن تستغل بعضها بعضا. بدأ التحرش. وسرقة الطعام الزائد والأغراض والمال. وأي شيء تغفل عين صاحبه عنه. وبدأ الناس يفكرون بالحماية الذاتية. ذلك يحتفظ بعصا وآخر بقطعة حديد وغير ذلك لدرء الشر عن نفسه. ولم تهدأ الأمور- نسبيا – إلا عندما تشكلت هيئة من عقلاء وحكماء الناس تحاول أن تهدئ الناس وتمنع التعديات بينهم خوفا مما هو أسوأ. وأن تتفجر غريزة العنف وتضرب الجميع بالجميع…
فكر صاحبنا بأنه وعائلته وأغلب الموجودين في الصالة ضحايا الزلزال وضحايا هؤلاء المتاجرون في مأساتهم. يحتاج بعض الطعام والملابس وحتى خيمة. كل ذلك يجب أن يشتريه. فكّر مع الوقت أن يعتمد الوسيلة التي تجبر هؤلاء الناهبين أن يعطوه حقه وحق عائلته. وأن يستعمل القوة التي تجعلهم ينصاعون. استل قشاط “كمر” بنطاله وجهز نفسه لمعركة قد يخسر بها وقد يأخذ حقه. لكنه يرضي ضميره أنه حاول استرداد حقه. أدركت عائلته ما يعتمل في نفسه. وأحاطت به بالحب والتمنيات ومزيد من الاحتضان. جعلته يتراجع عن فكرة استعمال العنف مع الناهبين لحقوقهم.
فكر بعد مضي الوقت أن لديه فرصة ان يذهب الى بيته. أو ما تبقى منه. وأن يحضر أوراقهم الثبوتية والمال إن وجده وبعض الملابس والأغراض الأساسية له ولعائلته. ذهب إلى بيته رغم أنف عائلته التي كانت تخشى عليه. عاين في ذهابه حجم الكارثة التي عاشها الناس في غازي عنتاب. أبنية مهدمة. عائلات مشردة في الشوارع والساحات والحدائق والمساجد والمدارس.
وصل بصعوبة إلى البناء الذي فيه شقته. تحايل على الدرج والهدم والأنقاض. ووصل بصعوبة الى شقته. أحضر ما فكر أن يحضره. بما فيه لعبة فلفول لابنته. وضعها كلها في كيس وعاد أدراجه الى الصالة حيث عائلته بانتظاره.
وصل الى حيث الصالة وجدها وقد تهدمت فوق ساكنيها. اصابه الذعر من هول احتمال أن تكون عائلته قضت تحت الأنقاض. استفسر عن ما حصل ؟. وعلم أن الهزّات الارتدادية على ضعف قوتها وتواترها كانت القشة التي قسمت ظهر البعير. وانهدم البناء كله. لقد أدرك بعض من كان بالبناء ذلك وخرجوا قبل انهياره. جعل هذا في ذهن صاحبنا أملا بأن من الممكن أن تكون عائلته قد خرجت من البناء قبل انهياره. وبدأ رحلة البحث. لقد اصبح جزء من الكثيرين من الناس المتطوعين أو ممن هم مثله. يعملون لرفع الأنقاض لإنقاذ من يمكن انقاذه. وكان يأمل في كل لحظة أن تكون عائلته – إن كانت تحت الانقاض – أن تكون مختبئة في ثناياها ولم تمت. شعور داخلي في نفسه ينبئه أن عائلته بخير، المهم أن يبحث عنها ليجدها. استمر يعمل مع آخرين بأيديهم ليل نهار لأيام لازالة الأنقاض . نعم لقد أنقذ عائلة اعتقدها عائلته لكنها ليست عائلته. وبعد ذلك جاءت البلدوزرات. تعمل بتؤدة وتأن. وضع نفسه أمام البلدوز. يمنع التعامل القاسي مع الانقاض. أخبره السائق أنه سيعمل وكأن عائلته تحت الأنقاض. انتهت مهمة رفع الأنقاض. خرج أحياء وأموات. وجرحى وأشلاء. لكن عائلة صاحبنا لم تكن منهم. ولم تكن بينهم…
لم ييأس صاحبنا وقرر البحث عن عائلته. بدأ في الساحات وأماكن التجمع التي فتحتها البلديات والدولة التركية. بحث فيها كلها ولم يجدهم. قرر ان يذهب الى المستشفيات بحث وبحث بين المصابين. ولم يجد أي أثر لهم. شاهد في بحثه واقع المآسي التي عاشها الناس ضحايا الزلزال. غير عشرات آلاف الضحايا والمصابين. العائلات المشردة والمشتتة. مناظر الحيوانات الشاردة التي تأكل جيف الناس كانت المصيبة أكبر من أن تستطيع أي هيئة أن تعالجها من كل جوانبها. كان الإنسان ضحية ضعيفة أمام جبروت الطبيعة الطاغية…
بقي أمامه احتمال أن يكونوا من الموتى ولا بد لأجل ذلك ان يدخل الى برادات المستشفيات ليبحث عنهم وهو يتمنى ألا يجدهم بين الضحايا…
بحث وبحث وبحث. والتقى أخيرا بجثته. تعرف على نفسه من خلال الورقة المثبتة على إصبع قدمه. كان ميتا وقد لف رأسه بعصابة بيضاء.
هنا ينتهي السرد الروائي من حيث تتبع الحدث.
لكن الرواية ليست ذلك فقط.
غير ذلك كان صاحبنا يعيش داخل ذاته وهو يعيش الزلزال وتبعاته على نفسه وعائلته كل الوقت. يعيش حوارات ذهنية واحتمالات وسياحة عقلية وفكرية وفلسفية ونفسية في كل ما يخطر على بال البشر. لقد تابعنا مع صاحبنا. معلومات لم نكن نعرفها. ومعاناة عاشها. حول نفسه ومن يحيط به. حبه لأمه الذي يصل درجة التقديس. معاناته من الاخوة “الاعداء” نموذجهم إخوة يوسف. علاقته الأسرية مع أولاده وزوجته التي تصل لدرجة التقديس ايضا. لكل ابن وابنة موقعه وحضوره ومكانته وعرشه داخل نفسه. كان متألما من أنه يمد يد الخير للآخرين. ومبادرتهم بالسوء والحسد والضغينة في تعاملهم معه. كان يسرح في عوالم الدنيا كلها وفي احتمالاتها. مصائبها ومحاسنها. المأمول منها. والمعاش فيها من خير وسوء.
عندما تقرأ ما عاشه صاحبنا بالمعنى العام تراه مثله مثل غيره ممن أصابهم الزلزال مع اختلاف بعض التفاصيل. وعندما تتابع ما عاشه على مستواه الشخصي داخل نفسه وعقله ومشاعره. تدرك فرادته وفرادة كل انسان. وتصل إلى نتيجة حتمية أن كل انسان يمثل كوْنا بذاته. يتقاطع بقدر ما مع الآخرين مثل تقاطع الأكوان مع بعضها. مثل الشمس والكواكب. كتشبيه بسيط. لأن ما يعتمل داخل الإنسان ويعيشه أكثر عمقا وتعقيدا. لا يحيط به إلا الله العظيم خالق الإنسان المجتبى …
نعم أن تتبع الحدث وكأن صاحبنا يركض لاهثا في سرد حكاية الزلزال. في نفس واحد كسباح يغوص في عمق البحر لمئة عام دون أن يرفع رأسه ليأخذ نفس الحياة لمرة واحدة…
لقد جعلني حسام اقرأ روايته في جلسة واحدة امتدت لساعات. عشت الزلزال وكأني في داخله. ولن يغادرني إحساسه الذي اصبح إحساسي أبدا. لقد أصبح جزءا من معايشتي في هذه الحياة…
لقد بهرتني الرواية كلها وكانت خاتمتها أكثر إبهارا عندما اكتشف صاحبنا الذي بحث عن عائلته في كل مكان واكتشف جسده ميتا داخل براد في إحدى المستشفيات… هي روحه تسعى في بحثها عن عائلته قبل أن يتيقن من الفقدان النهائي لهم. لأنه فقد روحه الهائمة أيضا وأصبح جسده محفوظا في براد في مستشفى. تنتظر من يسترده ليوارى الثرى، أو تدفنه الدولة بعد وقت وتنتهي حكاية انسان من الوجود…
توقفت عند العمق المعرفي لصديقي حسام الأحمد السفان وأنه ينهل من بحر معرفي حين يكتب. وهذه أهم ميزة لأي عمل روائي ناجح أن يكون الروائي مطلعا على موضوع روايته. وكل ما يحيط بها كليا وجزئيا. هذا غير المعرفة بالتقنيات الأدبية لذا فقد كان لحسام بصمة في هذه الرواية وغيرها في فن الرواية شكلا ومضمونا.
حسام صديقي يحمل درجة الدكتوراه في الآداب. وهذا يعني انه يعمل فيما يعرفه. وفوق ذلك يتقنه ، فليس كل حاصل على درجة علمية صاحب كفاءة إبداعية. فما بالك أن يكون صديقي حسام محصلا الدرجة العلمية والكفاءة والموهبة. عندها سينتج رواية رائعة. قد تحصل على جوائز أدبية وهي أهل لذلك…
منبهر انا من ابداعات صديقي حسام الأحمد السفان. ومعتز به ابن بلادي وعطاءاته المستمرة واتمنى له مزيد من العطاء والإبداع.
رواية: 75 ثانية” للروائي السوري “حسام رشاد الأحمد “السفان” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن موضوع الزلزال الذي أصاب شمال سوريا وجنوب تركيا بشهر شباط ٢٠٢٣م. وأدى لنتائج كارثية على البشر والبنية التحتية، عشرات الآلاف من الضحايا والمصابين والخراب الذي طال مدنا وبلدات كثيرة في البلدين تركيا وسورية.