شغلت مدينة حلب، منذ الأيام الأولى للثورة السورية، في مارس/ آذار من العام 2011، بال الشباب الذين خرجوا في معظم المدن السورية تضامناً مع حوادث درعا التي قادت إلى ثورة شاملة، كانت ضروراتها الموضوعية قائمة. تباطأت حلب في خروجها الأول، أياماً أو أسابيع، ولعلَّ السبب يعود إلى معارضة بعض نخبها الصناعية والتجارية التي كانت قد تماهت مع النظام في ظاهرة عرفتها سورية كلُّها، هي اندماج البرجوازيتين الطفيلية (كبار التجار والوسطاء والوكلاء) والبيروقراطية (قادة الدولة وكبار موظفيها وعسكرها) اللتين نمتا في ظل حكم الأسد الأب، ومارستا نهب الدولة والشعب معاً، وارتبطتا بقوة بما بات يعرف بالدولة العميقة!
ويمكن إضافة أمر آخر، أن حلب مغضوبٌ عليها من النظام عموماً، لأمرين: أنَّها لم تعط المباركة لحافظ الأسد عام 1970 مباشرة، كما فعلت غرفة تجارة دمشق بدفع من العربية السعودية، بل بقيت على توجسٍ منه، وإن قبلت، في ما بعد، بطلب من تجار دمشق، ولكنَّ النظام ظلَّ ينظر إليها في نوع من الريبة. وأنها انتفضت بداية عام 1980 ضد نظام الأسد، فأغلقت محلاتها ومخازنها التجارية، وعدَّ ذلك تضامناً مع جماعة الإخوان المسلمين، وإدانة لردِّ السلطة لا على الجماعة فحسب، بل على مجتمع المدينة كله. وليس غريباً بقاء حلب وريفها، على نحو خاص، يعانيان التهميش، وتخلف الخدمات، والبنى التحتية عموماً، إضافة إلى بسط القبضة الأمنية على المحافظة، وإجبار أهلها على نحو غير مباشر على دفع الإتاوات والرشى إلى موظفيها الكبار، وفي مقدمتهم المحافظون. وثمّة من يقول إن هؤلاء جباة لمن هم فوقهم. ويتندر الحلبيون برشوة مقدارها خمسون ألف ليرة (أكثر من ألف دولار حينذاك) قدّمها أحدهم للمحافظ، وتبين للأخير أنها ناقصة ألف ليرة، فأرسل مستخدمه في طلب الرجل لتسديد النقص. وفي سياق آخر، يذكر الصحافي فؤاد عبد العزيز في “فيسبوك”، أنه زار محافظ حلب بداية العام 2010، إذ قال: “كانت ترافقه زميلة صحافية له تعرفُ المحافظ ويعرفُها.. ودار حديث عن حلب، واختلافها عن السويداء التي كان محافظاً عليها، وعن دوافع التشدد مع الحلبية، (شهدت فترته قمعاً للسكان بحجة ملاحقة المخالفين..)، وقد استرسل المحافظ بالحديث عن حلب وفوضى أهلها، وأضاف أن بشار الأسد أوصاه بقوله: إن الشعب الحلبي ما بمشي إلا بـ:(….)، مكملاً العبارة بإشارة من يده إلى الأسفل، ما يعني بالدعس. فانتبهت المذيعة إلى أن المحافظ ذهب بعيداً فغَمَزَتْهُ، عندئذ سارع إلى تغيير الحديث ودعاهما إلى العشاء”. ربما لذلك كله تأخرت حلب المدينة، ولذلك كله أيضاً دخلت بقوة، حين قرّرت المشاركة، وكان أن دُمرت المدينة بكثير من كنوزها الأثرية.
ومع كل ما تقدم، أخذت حلب، منذ منتصف العام 2012، تشكل ثقلاً نوعياً يهدّد النظام بما تكدس فيها من فصائل عسكرية، احتلت ثلثي مساحة مدينة حلب (65 حياً) يقطنها نحو مليوني نسمة، هُجِّرت غالبيتهم تحت ضغط الغارات الجوية والبراميل المتفجرة، ما دفع المعارضة إلى إغماض عينها عن بعض الفصائل المتطرّفة التي تعمل لنفسها ولأجنداتها الخاصة، على الرغم من انتقاد نخب المعارضة لها وللسلاح عموماً، فقد مكَّن السلاحُ النظامَ من الذرائع التي كان يحتاجها لتبرير قتل المتظاهرين، فضاعف قمعه وانتقامه من المدنيين، تحت شعار مقاومة الإرهاب، وليستدعي الروس بعد فشل الإيرانيين المتدخلين قبلاً، ويفوضهم في قتل الشعب وتدمير الوطن بتوحشٍ غير مسبوق، ولينتهج الروس سياسة القتل والتدمير والتهجير، تعقبه سياسة ثعلبية مراوغة، تفتقر أي مصداقية. ولا تمثل، في النهاية، إلا مبدأ القوة، بعيداً عن أي معيار للحق أو للقيم الإنسانية، وحتى للتشريعات الأممية التي وقفت في وجهها أربع عشرة مرة، الأمر الذي يُخفي بُعدَ مطامعهم في سورية، وفي موقعها الجغرافي وثرواتها المتعدّدة! وبذلك، أخذ الروسي يقضم المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة، تحت اسم خفض التصعيد، ثم تجري المصالحات التي تنطوي على نوايا روسية سيئة.
وهكذا سلمت حلب المدينة عام 2016 لتكشف الأخطاء القاتلة للسلاح من أساسه، وليظهر البون الشاسع بين قضية الشعب السوري وأداء المعارضة، بشقيها السياسي والعسكري، ثم ليأتي التسليم الثاني والأخير لريف حلب، ليقطع الشك باليقين بحقيقة سقوط الاثنين معاً، تماماً كما رأى الكاتب بشير البكر: “مع سقوط ما تبقى من حلب بيد النظام، لا تسقط المعارضة السورية المسلحة وحدها، بل تسقط معها المعارضة السياسية المتمثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التفاوض التي لن تجد شيئا تفاوض عليه بعد اليوم، وإذا أصرّت على كرسي تجلس عليه في أي استحقاق مقبل سوف تحدّده روسيا، وسيكون في آخر الصفوف في خانة شهود الزور”. (العربي الجديد 21/2/2020).
ولعلَّ هذه الحقيقة تستتبع أموراً أخرى، أهمها أنَّ حلب تمنح السوريين اليوم آخر الدروس المستفادة وأشدَّها قسوة وبلاغة وإيلاماً، إذ أكدت أنَّ الإمساك بالبارودة الأولى، والدعوة إلى التسلح تحت زعم الدفاع عن المتظاهرين، إنما هي إعلان صريح ببدء الثورة المضادة، والالتفاف عليها بالتغطية على جرائم النظام وشعاراته الانعزالية، مقابل مطالب المتظاهرين الأولى التي يمكن تلخيصها بدولة المواطنة التي لا تمييز فيها ولا استعلاء، إذ لم يكن خلاف الشعب السوري مع النظام بشأن الإرهاب أو التطرّف الذي لم يكن موجوداً، بل هو لتغييب الديمقراطية، وهيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع، وديمومة حالة الطوارئ، وفقدان قانون للأحزاب، ما يتيح تنظيم العمل السياسي، وبالتالي تداول السلطة في انتخابات فعلية. وكان الخلاف أيضاً حول تفاقم مظاهر الفساد وزيادة خطورتها، وتوقف برامج التنمية بسببه بالذات، إضافة إلى مشكلاتٍ أخرى، كالبطالة والتمييز بأشكاله كافة وسطوة الأجهزة الأمنية، وسوى ذلك.
والآن، ما الذي تبقّى للسوريين غير التشتت والضياع والتشكك بالهوية الوطنية التي تتناهش خريطتها الدول المتدخلة؟ هل من سبيل للبدء بعمل سوري جامع، يتبنّى شعار وحدة سورية أرضاً وشعباً، في دولة مدنية وديمقراطية تحقق المواطنة التامة لأطياف السوريين كافة، وتحاسب المسؤولين عن كل ما ارتكبوه من جرائم قتل وتهجير وتدمير، عمل يعيد إليهم حلمهم بوطن متحرّر من ألوان الاستبداد كلها، وقد يكون أحد أشكال هذا العمل مؤتمر دولي يمثل السوريين داخلاً وخارجاً، وترعاه الأمم المتحدة دونما وصاية من الدول الكبرى التي ثبت أن لها مصالح خاصة، مؤتمر لعلَّه يوقف نزيف هذه المأساة الوصمة في جبين الإنسانية؟
المصدر: العربي الجديد