طبقت إسرائيل إستراتيجيتها المعتادة بعد هذه الفظائع: أنكر، تملص، اخدع، وانتظر تحول الانتباه إلى مكان آخر.
* * *
إذا خالطك أي شك في طبيعة الهجوم الذي تشنه إسرائيل على غزة، فتذكر هذه الفتاة الصغيرة. كانت هند رجب طفلة فلسطينية في الخامسة من عمرها وصاحبة ابتسامة رائعة. وفي صباح يوم 29 كانون الثاني (يناير)، ركبت سيارة “كيا بيكانتو” صغيرة مع عمتها وعمها والعديد من أبناء عمومتها. كانوا يسعون إلى الفرار من حي تل الهوى في مدينة غزة. وأطلق الجيش الإسرائيلي النار على السيارة، فقتل كل من بداخلها باستثناء هند وابنة عمها ليان، البالغة من العمر 15 عاما. ردت ليان المذعورة على مكالمة من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وأبلغتهم بأن دبابة كانت تطلق النار على السيارة. وفي التسجيل، يُسمع صراخها المعذب وهي تُقتل بالرصاص. وعندما اتصلت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالسيارة مرة أخرى، أجابت هند، وقد أصبحت الآن الناجية الوحيدة، محاطة بالجثث الملطخة بالدماء لأقاربها الستة. وأشارت هي أيضا إلى وجود دبابة وتوسلت لإنقاذها. وفي نقطة ما أخبرت عامل الهاتف بأن الظلام يحل وبأنها خائفة.
وبعد ساعات من الانتظار للحصول على إذن، تفاوضت وزارة الصحة مع السلطات الإسرائيلية على وصول آمن لسيارة إسعاف. ووصل المسعفون في حوالي الساعة 6 مساء، ولكن تم إطلاق النار عليهم عند وصولهم. وبعد أسبوعين، تم انتشال رفاتهم -إلى جانب الجثث المتحللة لهند وعائلتها.
بعد كل واحدة من الفظائع ترتكبها، تعمد الدولة الإسرائيلية إلى استخدام طريقة عمل قياسية: أنكر، تملص، خادع، وانتظر انتقال الانتباه إلى مكان آخر. وقد تعاونت معظم وسائل الإعلام مع هذه الإستراتيجية التي سمحت لإسرائيل بمواصلة هجومها للإبادة الجماعية، لأنها تمنع المراقبين من وصل النقاط لفهم ماهية ما يحدث حقا. ولهذا السبب، يجب إعادة النظر في كل جريمة حتى يتم فهمها بشكل صحيح وكما ينبغي. وفي هذه الحالة، حالة هند، ادعت إسرائيل أنها لم تكن لديها قوات في المنطقة.
بعد ما يقرب من خمسة أشهر من عمليات القتل تلك، نشرت منظمة معمار مسرح الجريمة Forensic Architecture –وهي مجموعة بحثية متعددة التخصصات مقرها “غولدستميثز”، جامعة لندن، تحقيقًا مفصلاً في الحادثة بالتعاون مع “قناة الجزيرة”. وقام الباحثون بتعيين 335 ثقبا أحدثها الرصاص في الجزء الخارجي من السيارة. ووجد تحليل لمكالمة ليان الهاتفية أن 64 طلقة نارية أطلقت في ست ثوان فقط، وهو ما يمكن أن يتفق فقط مع الأسلحة التي تصنعها إسرائيل. وقُدر أن الدبابة كانت تبعد ما بين 13 و23 مترا عن السيارة. وكتب المحققون: “من هذا القرب، ليس من المعقول أن مطلق النار لم يتمكن من رؤية أن السيارة كانت مشغولة بمدنيين، بمن فيهم أطفال”.
استمع فقط إلى شهادات هاتين الطفلتين القتيلتين، واقرأ البحث المفصل المذكور، ولا يسعك سوى استنتاج أن عمليات القتل هذه كانت متعمدة. كان الوقت وضح النهار، وكانت دبابة إسرائيلية قريبة من السيارة، تم إطلاق 335 رصاصة على الأقل على مدى فترة طويلة، ثم تم نسف سيارة الإسعاف التي تم تنسيق مرورها مع السلطات الإسرائيلية، وتمزيقها إربا. ولو كان مقاتلو “حماس” هم الذين ارتكبوا هذه الفظائع في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لتم تسليط الضوء عليها مرارا وتكرارا -على وجه التحديد كدليل على الهمجية المطلقة للعدو. لكن هذا لم يحدث هنا.
يمكن رؤية طريقة عمل إسرائيل قيد العمل مرة وأخرى. عندما قتلت صحفية “قناة الجزيرة”، الفلسطينية الأميركية شيرين أبو عاقلة في أيار (مايو) 2022، نفت إسرائيل مسؤوليتها ع القتل، وأشارت بأصابع الاتهام إلى مسلحين فلسطينيين، وانتظرت شهورا حتى تحوَّل الانتباه إلى مكان آخر قبل أن تعترف بمسؤوليتها المحتملة. وعندما هاجمت إسرائيل ما كان المرفق الطبي الرئيسي في غزة، مستشفى الشفاء، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، شككت صحيفة “الواشنطن بوست” بعد أكثر من شهر في مزاعمها الرئيسية، مشيرة إلى عدم وجود أدلة على أن المستشفى كان يستخدم كـ”مركز قيادة وتحكم” أو أن بالإمكان الوصول إلى أنفاق من عنابر المستشفى. وبعد ما يقرب من ستة أسابيع من ذبح أكثر من 100 فلسطيني أثناء انتظارهم المساعدات في ما أصبحت تسمى “مذبحة الدقيق” في شباط (فبراير)، شككت شبكة (سي. إن. إن) في مصداقية تنصل إسرائيل من المسؤولية عن قتلهم. ويمكننا المضي أكثر.
تكشف هذه السلسلة من الدحض التفصيلي للادعاءات الإسرائيلية عن نمط من ارتكاب الفظائع يتبعه التستر -ومع ذلك، ما تزال وسائل الإعلام تتعامل مع الادعاءات الإسرائيلية التي يتم إطلاقها أول الأمر على أنها ذات مصداقية، بينما كانت ستريق الازدراء –محقة- على ادعاءات مماثلة تطلقها الدولة الروسية.
مع تجاوز العدد الرسمي للقتلى في غزة 40.000 -بمن في ذلك حوالي 14.000 طفل- تشير صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية إلى أن هذا العدد يمثل نسبة من سكان غزة ما قبل الحرب الذين قتلوا في 10 أشهر أعلى من الذين قتلوا في حرب العراق على مدى 20 عامًا، أو في حروب يوغوسلافيا على مدى 10 سنوات؛ وهي تعادل أربعة أضعاف نسبة الأشخاص الذين قتلوا في أوكرانيا على مدى عامين ونصف. والأكثر من ذلك أن هذا العدد يمكن أن يكون أقل من الواقع بشكل كبير: يتم استبعاد الآلاف من المدفونين تحت الأنقاض من الأرقام الرسمية، وكذلك الوفيات غير المباشرة –التي يمكن أن ينتهي بها المطاف، بالقياس على السوابق، إلى أن تكون أكبر قاتل في الحرب- في حين أن نظام الإبلاغ قد انهار فعليًا بسبب التدمير الكامل لجهاز الرعاية الصحية. وتتراوح التقديرات الأخرى لعدد القتلى التي تصدر عن الخبراء الطبيين من 92.000 إلى 186.000.
لو كانت دولة غير متحالفة مع الغرب مذنبة بهذا الفعل، فلن يكون هناك إجماع على أنه يشكلوا حدة من أخطر الجرائم في عصرنا فحسب، بل سيعتبر من غير اللائق أخلاقيًا عدم التفكير كذلك. وأولئك الذين يجيبون بتجاهل ما يحدث في غزة عن طريق تحويل الانتباه إلى الفظائع التي لا يمكن إنكارها التي ارتكبت في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لا يكشفون عن استخفافهم التام بحياة الفلسطينيين فحسب، بل أيضًا عن عدم فهمهم للديناميات الطبيعية للإبادة الجماعية، التي يتم تبريرها دائمًا بالفظائع التي يرتكبها العدو. ويدرك الكثيرون أن الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا في العام 1994 شملت قيام متطرفين من الهوتو بذبح التوتسي: كم منهم يعرف أن هذه المذبحة بررها الجناة بالحرب الأهلية التي بدأها المتمردون التوتسي الذين كانوا ق غزوا أوغندا قبل أربع سنوات، وارتكبوا جرائم حرب متعددة أثناء قيامهم بذلك؟
إذا كان سلوك إسرائيل في حربها على غزة ليُفهم على حقيقته -كعمل بغيض يرتكبه نظام قاتل- فإن الشخصيات النافذة ستخشى العواقب. أولئك الذين هتفوا لها وشجعوها سيخشون أن يتم وصفهم بشكل دائم بالوحوش. وأولئك الذين ظلوا صامتين، إذا وضعنا الخطابة الفارغة وادعاء القلق جانبًا، سيخشون المساءلة. وحتى يحدث هذا، لن تنتهي الفظائع. لذلك، إذا كنت قد شككت في أي وقت بماهية ما يجري حقا، فكر فقط في اللحظات الأخيرة المرعوبة لهند رجب، الفتاة ذات الخمس سنوات، صاحبة الابتسامة الرائعة.
*أوين جونز Owen Jones: كاتب عمود في صحيفة الغارديان.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Hind Rajab’s death has already been forgotten. That’s exactly what Israel wants
المصدر: الغد الأردنية/ (الغارديان)