ماذا بقي من مدنيّة الدولة في العراق؟

عبد اللطيف السعدون

ليست المرّة الأولى التي يحاول فيها دعاة التديّن الزائف من رجال الأحزاب “الإسلامية” أن يتركوا بصماتهم على ملامح المجتمع العراقي، وأن يعملوا على تقويض الطابع المدني الذي عرفه العراقيون، وطبع أحوالهم منذ تأسيس المملكة في عشرينيات القرن المنصرم وحتى مطلع القرن الماثل، عندما غزا الأميركيون بغداد، وسلّموا مفاتيحها لهم في صفقة مشبوهة جعلت منهم حكّاماً نافذين، لهم الحوْل والطول، وسلطة القرار.

وفي هذه المرّة، يستنفر أولئك الرجال مريديهم وأتباعهم، كي يخوضوا معركة القضاء على آخر معلم من المعالم المدنية للدولة، الذي تجسّد في قانون الأحوال الشخصية الذي شرّعه عبد الكريم قاسم في بدايات الجمهورية الأولى، واعتُبر التشريع الأكثر تقدّميةً في دول المنطقة، حيث ساوى بين جميع العراقيين من دون اعتبار لتمييز مذهبي أو عرقي، وضمن حقوق المرأة والطفل، وساعد على تماسك الأسرة، ووحدة المجتمع. وما يريده رجال الأحزاب “الإسلامية” اليوم أن يُضفوا الشرعية على زواج البنات اللواتي لم يتجاوزن السنة التاسعة من أعمارهن، مشيرين الى فتوى كان قد أطلقها المرجع علي السيستاني الذي يحدّد فيها سنّ الزواج للمرأة بتسع سنين، في وقتٍ يخالفه فيه مراجع آخرون، يرون المسألة تخضع للعرف أكثر مما تخضع لأي اعتبار آخر، خصوصاً أن تطوّر المجتمعات وفّر أحكاماً جديدة تحقق احترام الحقوق الإنسانية وحمايتها.

لا يُلزم التعديل المقترح من ينوون الزواج بتسجيل عقد الزواج في سجلات المحاكم كأي عقد يرتّب حقوقاً وجزاءات، والاكتفاء بمباركة الفقيه الشرعي من دون سندٍ تحريريٍّ موثّق، وهذا يؤدّي الى ضياع الحقوق وامتهان كرامة الشريكَين على حد سواء، ويفرض التعديل أيضاً أحكاماً جديدة تسلب الأم المطلقة حضانة أطفالها ورعايتهم، وتسلب حقوقها في النفقة الشرعية، وما إلى ذلك من أحكامٍ تنتقص من كيان الأسرة ووحدة المجتمع.

وقد سبق لدعاة التديّن الزائف أنفسهم أن شرعنوا قانوناً جديداً للأحوال الشخصية، يضم هذه المواد على عهد رئاسة الراحل عبد العزيز الحكيم مجلس الحكم، إلا أن الحاكم الأميركي للعراق بعد الغزو، بول بريمر، وفي موقفٍ يسجّل له، لم يُصدّق على التعديل، وأعاد العمل بالقانون النافذ في حينه.

وعلى المستوى العملي، أفاد تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة بأن بعضاً من رجال الدين العراقيين عقدوا آلاف الزيجات لبناتٍ قاصرات لم يتجاوزن التاسعة على امتداد الأعوام العشرين الأخيرة، ولم يجرِ الحدّ من هذه الظاهرة على المستوى الرسمي، وقد أدّت بالنتيجة الى تفشّي حالات الطلاق على نحوٍ لم يعرفه العراقيون من قبل. وسجّل مجلس القضاء الأعلى أزيد من 73 ألف حالة طلاق في البلاد في عام واحد (2022). وحذّر ناشطون من أنه في حالة إقرار التعديلات المقترحة على قانون الأحوال الشخصية، المتوقّع أن تتسع تلك الممارسات وتكبر، وأن أجيالاً من البنات القاصرات سيتعرّضن للامتهان والإذلال في ظل القانون المقترح، وسينعكس ذلك سلباً على الأسرة والمجتمع، وعلى الدولة أيضاً.

وإلى ذلك، وضمن مخطّط الإجهاز على “مدنيّة الدولة” تم، في وقت سابق، تمرير قرار يقضي بضم “فقهاء” إلى المحكمة العليا، بحجّة إعطائهم صلاحية البتّ في حالة إقرار تشريعاتٍ قد يرون فيها ما يخالف ما يسمّونها “الثوابت الإسلامية”، كذلك اعتُمِدَت واقعة دينية ملتبسة عيداً لكل العراقيين، فيما لم يتضمّن قانون العطلات الرسمية إشارة إلى عطلة “العيد الوطني”، وقد أحدث ذلك شرخاً بين المكوّنات العراقية على أكثر من صعيد.

جرى هذا كله ويجري بقوانين وتشريعات مفروضة بقوة السلاح المنفلت الذي يعطي المليشيات الطائفية منعة وفاعلية، وبفعل فائض قوة توفّره دولة “ولاية الفقيه” لوكلائها النافذين، ووسط حالة عجزٍ مطلقٍ من الشرائح الشعبية العريضة لمواجهة الحال، في وقتٍ تتهاوى فيه “مدنيّة الدولة” التي تمثل الضامن لوحدة العراقيين وتماسكهم، وهذا ما حفّز نخبة ناشطين مدنيين وحركات نسوية ومنظمات مجتمع مدني على الدعوة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يلغي هيمنة دعاة التديّن الزائف من رجال الأحزاب الإسلامية، ويضمن تعزيز مبادئ التعدّدية، والديمقراطية الحقيقية، والتمثيل عبر الصناديق، واحترام حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية، واستقلال القضاء، والتداول السلمي للسلطة.

وإذا ما استمرّ الحال على المنوال الذي تسير فيه الأمور اليوم، فالمتوقّع أن لا يبقى من مقوّمات الدولة المدنية ما يمكّن العراقيين من العيش بأمان، وممارسة حياتهم على النحو الذي يريدونه، وسيكون على بغداد آنذاك أن تعيش تجربة قندهار، وعندئذ سيكون لكلّ حادثٍ أكثر من حديث.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى