فهرس الكتاب
1 – المقدم
2 – نبذة عن علي عبد الرازق والظروف التي أحاطت بالكتاب
3 – الكتاب الأول
الخلافة والاسلام
الباب الأول : الخلافة وطبيعتها
الباب الثاني : حكم الخلافة
الباب الثالث : الخلافة من الوجهة الاجتماعية
4 – الكتاب الثاني
الحكومة والاسلام
الباب الأول : نظام الحكم في عصر النبوة
الباب الثاني : الرسالة والحكم
الباب الثالث : رسالة لاحكم , ودين لادولة
5 – الكتاب الثالث
الخلافة والحكومة في التاريخ
الباب الأول : الوحدة الدينية عند العرب
الباب الثاني : الدولة العربية
الباب الثالث : الخلافة الاسلامية
6 – خاتمة
7 – نقد محاكمة الكتاب والكاتب
8 – ملحق
الفلسفة والسياسة
محمد عبده وأصول الحكم في الاسلام
الديمقراطية والاسلام :
المواطنة ( المواطنة في التراث الغربي – المواطنة في التراث الاسلامي )
الحريات العامة
المؤسسات الديمقراطية : الدستور – القضاء – البرلمان
القضاء في بلاد الشام في نهاية العصر الوسيط
9 – المراجع
مقدمة :
ولدت فكرة هذا الكتاب ليس لأجل تصحيح ماجاء في كتاب الشيخ علي عبد الرازق من وجهة نظري فقط , ولكن أيضا من أجل استكمال مابدأ به ولم يكمله , وأنا أعلم أن تلك مسيرة طويلة , لكن السيرخطوة أخرى فيها نحو الأمام أمر يبرر كل جهد يبذل في هذا الاتجاه , وقد مرت مياه كثيرة بعد نشر كتاب الشيخ علي عبد الرازق , ومنذ أن جرت محاكمة الكتاب والكاتب ضمن هيئة علماء الأزهر , وما خرج عن تلك المحاكمة المؤسفة من ادانة الكاتب ومنع الكتاب , وما أحدث ذلك من ردود فعل صاخبة , كانت في محصلتها تقود الى تكريس التيار المحافظ في الفكر الاسلامي , وتضع سدا أمام الاستمرار في حركة التجديد التي كان قد بدأها الشيخ محمد عبده والذي تتلمذ على يده لاحقا الشيخ علي عبد الرازق دون أن يجتمع به .
سوف نشاهد أن تلك الحركة قد توقفت بالفعل بعد ذلك التاريخ , ثم جاءت مرحلة حل الفكر القومي – الاشتراكي مكان الفكر الاسلامي , وساد الاعتقاد بأن التاريخ لم يعد يطرح تجديد الفكر الاسلامي كضرورة راهنة , لكن ماحصل بعد ذلك أن الفكر القومي – الاشتراكي انحسر مده , وفي الفراغ الفكري الذي أحدثه ذلك الانحسار , نهضت نسخة من الفكر الاسلامي أشد محافظة وجمودا مما عرفته المنطقة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر حين بدأ محمد علي باشا ببناء دولة حديثة احتاجت للانفتاح على أوربة وبالتالي بدأت مع ذلك الانفتاح معالم نهضة فكرية جديدة .
وقد تعرضت المنطقة العربية لهزات سياسية واجتماعية عميقة , وخلال تلك الهزات أظهرت التجربة التاريخية نتائج سيادة الفكر الاسلامي المتشدد , لكن الأزمة اليوم تتمثل في عدم تبلور بديل له حتى الآن , فالشعوب العربية مازالت تقف في وسط الطريق , فلاهي مقتنعة بالفكر الاسلامي المتشدد الذي ساد الفترة السابقة وفشل في انتاج الحلول الاجتماعية والسياسية , ولاهي مستعدة لنبذه وراءها بصورة تامة دون بديل واضح المعالم .
وتلك الأزمة بالتحديد هي مايبرر العودة نحو تجديد الفكر الاسلامي , وضمن مرحلة المخاض هذه , ترتفع دعوات مختلفة , بعضها يريد التخلص نهائيا من الارتباط بالاسلام لكنه لايطرح أي بديل , وهو حين يفعل ذلك انما يطرح بصورة غير مباشرة الالتحاق التام بالغرب , في حين أن الوهج الحضاري – الفكري للغرب في مرحلة افول وليس في مرحلة سطوع , فالغرب ذاته يعترف أنه يعيش أزمته الفكرية – الأخلاقية .
وهكذا تظهر دعوات الفريق السابق بكونها مجرد انسلاخ عن الهوية والتاريخ أي كفعل سلبي يصلح للهدم ولايصلح للبناء .
ويبدو أنه لامناص من العودة لتجديد الفكر الاسلامي , وتوسيعه لاحتواء أفضل ما قدمه الفكر الانساني , أو التعايش معه على الأقل , وبمقدار وعي تلك الحقيقة , سنتمكن من اختصار كثير من الوقت والجهد للخروج الى بر الأمان .
وقد حرصت في هذا البحث على متابعة كتاب الشيخ علي عبد الرازق حسب تسلسل فقراته , بحيث يسهل على القارىء الربط بين نقد أفكاره الذي أوردته والعودة لأصل ومكان تلك الفكرة في كتاب الشيخ علي , كما حاولت استكمال بعض الموضوعات التي انفتحت ولم يتعرض لها الشيخ علي , أو مر عليها ولم يعطها ماتستحقه من اهتمام , وأهم تلك الموضوعات ( نظرية العقد الاجتماعي في الاسلام ) باعتبارها مبدأ الاسلام في نظرته للحكم , وفيها يتعارض الاسلام مع ( نظرية الحق الالهي في الحكم ) وكذلك مع كل أشكال الحكم المطلق . ولست أدري كيف غفل الشيخ علي عن تلك المسألة , وبدلا عنها حاول اسقاط التاريخ الأوربي على التاريخ العربي الاسلامي فقرن بين الاسلام ونظرية الحق الالهي , وقلل الى أقصى حد من قيمة نظرية العقد الاجتماعي في الاسلام والتجربة التاريخية للخلافة الراشدة وخلافة عمر بن عبد العزيز , وكأن ذلك كان محض استثناء لاوزن له , وأن ماشهده التاريخ بعد ذلك من ممارسة للخلافة بوصفها حقا الهيا مقدسا هو ماينبغي نقده والتخلص منه عن طريق الرجوع للنص القرآني الذي لم يصف الرسول بصفة الحاكم المسيطر بل فقط بصفته كمبشر ونذير , وفي ذلك جانب من الصحة , لكن الجانب الآخر الذي أخطأ فيه الشيخ علي أن الرسول (ص) كان حاكما سياسيا في المدينة بحكم اقتران الدعوة الدينية مع بزوغ الدولة العربية – الاسلامية , بالتالي , فهو كان حاكما بحكم الضرورة التاريخية وليس بحكم ضرورة الدعوة الدينية, وقد جاء لقب خليفة رسول الله بصورة رئيسية من الصفة السياسية للخليفة أبي بكر الصديق وليس من الصفة الدينية .
أما الفقرات الأخيرة فقد خصصتها لمناقشة علاقة الاسلام بالديمقراطية , ودولة المواطنة , وتلك موضوعات مستجدة لم تكن مطروحة بالحاح في زمن الشيخ علي كما هو الحال اليوم , وأخيرا فقد وجدت من المفيد القاء نظرة على حال القضاء في الاسلام في مطلع الدولة العثمانية وربما تسهم تلك النظرة في تقييم أكثر انصافا للقضاء في الاسلام وهو أحد أركان الحكم , وقد تميز عبر التاريخ الطويل بالفعالية وكان سببا في تخفيف وطأة الحكم المطلق واضفاء شيء من العدالة على الدول المتعاقبة عبر مئات السنين , مع ملاحظة أن القضاء لم يكن دائما في أفضل حالاته فقد كان يتدهور مع تدهور الدولة كما حدث بنهاية عصر المماليك , وقرب نهاية الدولة العثمانية, فالقضاء لايمكن أن يكون مستقلا بالكلية عن حال الدولة .
نبذة عن علي عبد الرازق والظروف التي أحاطت بالكتاب :
ولد الشيخ علي حسن أحمد عبد الرزاق /1888-1966/ في محافظة المنيا قرية أبو جرج , في اسرة غنية , أخوه الشيخ مصطفى عبد الرزاق مفكر وأديب مصري وعالم بأصول الفقه الاسلامي شغل منصب شيخ الجامع الأزهر وعين وزيرا للأوقاف ثماني مرات , والده حسن عبد الرازق من مؤسسي جريدة “الجريدة” التي دعت إلى الحكم الدستوري والإصلاح الاجتماعي والتعليم، ومن مؤسسي حزب الأمة.
درس علي عبد الرازق في الأزهر ونال شهادة ” العالمية ” ثم ذهب الى بريطانيا ودرس في جامعة أوكسفورد الاقتصاد ولم يتم دراسته بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى فعاد لمصر وعين قاضيا في المحكمة الشرعية بالمنصورة , وكان عضوا في هيئة علماء الأزهر الى أن فصل عنها بسبب كتابه الذي نشره عام 1925 ” أصول الحكم في الاسلام ” , عاد الى هيئة علماء الأزهر عام 1945 , وعين وزيرا للأوقاف , وشغل عضوية مجلس النواب ومجلس الشيوخ , وكان عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة , حاضر لمدة 20 عاما في جامعة القاهرة في مصادر الفقه الاسلامي وتوفي عام 1966 .
أحدث كتابه ” أصول الحكم في الاسلام ” ضجة كبرى في مصر في زمنه , وتداخلت السياسة والتقاليد الأزهرية في نشوء موجة عارمة من الرفض لأفكاره التي ضمنها ذلك الكتاب , فقد كان الملك فؤاد يجري تحضيرات واسعة ليعلن نفسه خليفة المسلمين بعد أن أنهى كمال أتاتورك الخلافة الاسلامية العثمانية عام 1924 , فانفتح بذلك الباب أمام الملك فؤاد ليضفي على نفسه لقب خليفة المسلمين , ويبدو أن السياسة البريطانية كانت تفضل ذلك التوجه ليساعدها في كسب ولاء المسلمين في المشرق حتى الهند , فجاء كتاب علي عبد الرزاق صادما ومعاكسا للتحضيرات الملكية المصرية , أما الأزهرالذي لم يتعود أن يخرج من بين جنباته من تبلغ به الجرأة حد مراجعة احدى مسلمات الفكر الاسلامي التقليدي وأعني بذلك مسألة ” الخلافة ” . فكان رد فعله قاسيا , فطرد علي عبد الرازق من هيئة علماء الأزهر , ومنع من التدريس , وأوصت اللجنة الأزهرية التي تولت محاكمته على طريقة محاكم التفتيش بمصادرة كتابه ومنعه من التداول , ومنع علي عبد الرازق من تولي أي وظيفة حكومية , ولم يبق سوى طلب سحب جنسيته المصرية .
وكالعادة تم تهييج الجمهور ضد علي عبد الرازق واعتبر كتابه مسا خطيرا بالاسلام وتاريخه , ووقف معظم السياسيين بمن فيهم حزبه المعارض ( حزب الأحرار الدستوريين ) ضده , ولم يقف بجانبه سوى القليل من المفكرين المستقلين ومنهم عباس محمود العقاد .
يتلخص موضوع الكتاب بفكرة واحدة تقول بأن مفهوم ” الخلافة ” ليس من صلب الدين الاسلامي , ولو كان كذلك لوجب أن نجده مفصلا في القرآن والسنة , أما من يقول باجماع الأمة كمصدر ثالث للتشريع فجوابه أن الأمة لم تجمع عليه في أي وقت , وتشهد على ذلك الصراعات السياسية التي بدأت مع وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام على الحكم واستمرت عبر مراحل زمنية ممتدة لمئات السنين , ولم يحسم تلك الصراعات سوى السيف , ويستشهد علي عبد الرازق بطريقة فرض يزيد بن معاوية خلفا في الحكم لأبيه حين قام أحد رجال معاوية خطيبا فقال للجمع ” أمير المؤمنين هذا ” وأشار لمعاوية , ” فان هلك فهذا ” وأشار الى ابنه يزيد ,” فمن أبى فهذا ” وأشار الى سيفه .
ولايكلف الشيخ علي عبد الرزاق نفسه في البحث أبعد من تلك الفكرة التي مهد لها بثلاثة أرباع كتابه , ثم أوجزها بالربع الرابع .
فغاية ما يصل اليه في كتابه الصغيرالحجم الذي أحدث دويا كبيرا في زمنه هو القول ان الخلافة مسألة دنيوية وليست دينية , وأن تحويلها لمسألة دينية بدعة أضافها رجال دين لمصلحة الحكام والسلاطين لاضفاء القدسية على حكمهم, وأن ذلك المفهوم لا أهمية له في قوة المسلمين وضعفهم كما يصور أحيانا , واستشهد على ذلك بحال الخلفاء العباسيين في أواخر عهد الدولة العباسية , حين انفصلت أقطار الدولة فعليا عن مركز الخلافة الذي لم يبق له سوى الاسم .
الآن : لماذا لقي ذلك الرأي كل تلك الضجة واعتبر بمثابة ” هرطقة ” تستحق المحاسبة والعقوبة ؟
السبب الأول سياسي كما أسلفنا , فقد جاء كتابه في الوقت الذي كان الملك فؤاد يسعى لتكريس نفسه خليفة للمسلمين , فظهر وكأنه موجه ضد رغبة الملك ومايسعى اليه .
السبب الثاني : أن مفهوم الخلافة لم يسبق أن تعرض له أحد من المفكرين الاسلاميين بتلك الطريقة والتي تبدو قاطعة في الرأي بجرأة غير مسبوقة .
السبب الثالث : أن ذلك يتضمن بصورة مباشرة وغير مباشرة تعرضا للتاريخ الاسلامي ولرجاله وأعلامه , وقد تعرض الكتاب لموقف أبي بكر رضي الله عنه من الردة بالنقد , وتعرض لموقف خالد بن الوليد حين قتل مالك بن نويرة بطريقة فيها نوع من النقد الذي يكاد يصل حد الادانة. كما تعرض بصورة غير مباشرة لحروب الفتح الاسلامي .
لذلك لم يكن صعبا على هيئة علماء الأزهر ادانه الكاتب والكتاب , وطرده من الأزهر , وطلب أقسى العقوبات المدنية بحقه , فمثل تلك الجرأة غير المعهودة ترافقت مع التشكيك برواية التاريخ الاسلامي كما استقرت منذ مئات السنين .
لم يقدم علي عبد الرزاق عملا مقنعا متكاملا , ولعله أحسن باعترافه بذلك في كتابه . وربما أخطأ بطريقة تناوله لمسألة ” أصول الحكم في الاسلام ” فقد تصور أن ذلك الموضوع يتلخص في مسألة ” الخلافة ” وهل هي من الدين أم أضيفت اليه وقد وقف عند ذلك ولم يتعداه , سوى أنه ألقى حجرا في مياه راكدة , لكن المياه ابتلعت ذلك الحجر واستسلمت بعده للركود .
نقد كتاب ” الاسلام وأصول الحكم ” حسب تسلسله فقرة فقرة
الكتاب الأول
الخلافة والاسلام
الباب الأول : الخلافة وطبيعتها
يذكر علي عبد الرزاق لمفهوم الخلافة معنيين مختلفين , فالمعنى الأول يطغى عليه الجانب الديني , وينظر الى الخليفة كظل الله في الأرض , وأن طاعته من طاعة الله , وولايته عامة مطلقة ,ويصف ذلك الرأي فيقول ” وجملة القول أن السلطان خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وظله الممدود على عباده , ومن كان ظل الله في الأرض , وخليفة رسول الله فولايته عامة مطلقة , كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم , ولاغرو حينئذ أن يكون له حق التصرف في رقاب الناس وأموالهم , وأن يكون له وحده الأمر والنهي , وبيده وحده زمام الأمة , وتدبير ما جل من شؤونها وماصغر ….لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا , وليس للخليفة شريك في ولايته الا ولاية مستمدة من مقام الخليفة وبطريق الوكالة عن الخليفة ….وكل من يلي شيئا من أمر المسلمين في دينهم أو دنياهم من وزير أو قاض أو وال أو محتسب أو غيرهم كل أولئك وكلاء عن السلطان ونواب عنه وهو وحده صاحب الرأي في اختيارهم وعزلهم وفي افاضة الولاية عليهم , واعطائهم من السلطة بالقدر الذي يرى وفي الحد الذي يختار “
وتعريف الكاتب السابق يطابق مفهوم الملكية المطلقة مطابقة تامة , ولايمكن تصور أن يتمتع ملك في العصور القديمة وقبل سقوط الملكية المطلقة في أوربة بسلطة أوسع وأشمل وأكثر حرية مما جاء الكاتب على وصفه في أحد مفهومي الخلافة .
على أن الكاتب لم ينس أن يستدرك قليلا بالقول “ان البعض يعتبر الخليفة مقيدا في سلطانه بحدود الشرع لايتخطاها ….ويرى ذلك كافيا في ضبطه يوما ان أراد أن يجمح , وفي تقويم ميله ان أراد أن يميل وقد ذهب قوم منهم الى أن الخليفة اذا جار أو فجر انعزل عن الخلافة “
ويستمر في استدراكه فيقول : ” من أجل ذلك ( يقصد من أجل تقييدهم الخليفة بحدود الشرع ..ألخ ) فقد فرقوا بين الخلافة والملك بأن ” الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة , والسياسي ( يقصد الملك السياسي ) هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار أما الخلافة فهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي “
وقبل أن نتفرغ لمناقشة الكاتب بآرائه السابقة جملة لابد من التوقف عند تلك التعريفات الملتبسة للملكية , فالملكية لاتنقسم الى ملكية طبيعية وملكية سياسية ولا أدري من أين جاء بهذين التعريفين وربما أراد التفريق بين الملكية المطلقة والملكية الدستورية , وتلك سقطة لاتليق بمفكر يتصدى لمشروع خطير مثل ” الاسلام وأصول الحكم ” على أية حال لنترك ذلك ونتابع مع الكاتب فهو يحشد بعد ذلك ابن خلدون ليقول على لسانه ” ان الخلافة الخالصة ( يقصد المعرفة بحمل الناس على مقتضى النظر الشرعي ) كانت في صدر الاسلام الى آخر عهد علي ثم صار الأمرالى الملك , وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه …ولم يظهر التغيير الا في الوازع الذي انقلب عصبية وسيفا …وبعد العصر الأول للعباسيين ذهبت معاني الخلافة ولم يبق الا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا )
هكذا انتهى الكاتب من شرح مفهوم الخلافة , فأبرز بافاضة مفهومها الأول الذي يطابق الملكية المطلقة , ومر برشاقة على القيود الشرعية على الخليفة , ومايقال عن وظيفته في حفظ الدين , وحتى امكانية عزله اذا جمح عن تلك الحدود , وذكرأن تلك الفروق قد تلاشت خصوصا بعد العصر الأول للعباسيين وبالتالي فالمفهوم الثاني لم يعد قائما بالفعل وفي كل التاريخ اللاحق .
فالكاتب يقول أن الخلافة المقيدة والتي هدفها حمل الناس على مقتضى الشرع قد سقطت تاريخيا ولم يعد لها وجود.
ونقف هنا قليلا .
دعونا نعيد ترتيب أفكار الكاتب قبل نقدها , يقول علي عبد الرازق :
هناك مفهوم للخلافة كونها حقا مقدسا الهيا للحاكم الذي هو ظل الله على الأرض , وهذا الحق يعطيه سلطة مطلقة لا أحد ينازعه فيها , وهو ذات مفهوم الملكية المطلقة الذي ثارت عليه الثورة الفرنسية عام 1789 , أما الادعاء بوجود اختلاف ناجم عن تقييد ” الخليفة – الملك ” بقيود الشرع أو أنه يتحمل مسؤولية حفظ الدين فقد سقط تاريخيا .
ثم ينعطف الكاتب بعد أن قرر أن الخلافة بمعناها الذي حدده ابن خلدون ( حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي ) قد تغيرت بعد صدر الاسلام وتحولت الى الملك مع بقاء معاني الخلافة وانحصر التغير في الوازع الذي كان دينا ثم انقلب عصبية وسيفا , ويقصد ابن خلدون أن العصبية القبلية باستخدامها السيف طريقا للوصول للسلطة والاحتفاظ بها حلت مكان الشرعية الدينية عند الأمويين مع بقاء الوظيفة الدينية , وهكذا الأمر بالنسبة للعباسيين , وبعدهم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق منها الا اسمها وأصبحت ملكا بحتا . بمعنى أن الخلافة أصبحت مجرد رمز لايعبر عن سلطة فعلية بينما السلطة أصبحت بيد ملوك فعليين ومثال ذلك ملوك العجم في المشرق ويقصد بهم ملوك خراسان وماوراء النهر .
بالتالي يتساءل الكاتب : اذا كان الحال هكذا فمن أين جاء ذلك التقدير والاحترام المبالغ فيه لمقام الخلافة ؟
ومن أين جاء مصدر قوة الخليفة المزعومة ؟
وهنا يعود الكاتب للتحليل الذي سبق أن بدأ به بطريقة تشبه الالتفاف ولوأنه استمر باستقامة لكان يكفيه ماقاله من أن الخلافة قد سقطت بعد العباسيين ولم يبق منها الا الاسم , وهل الاسم يستحق عناء بذل الجهد في بيان خوائه وانعدام جدواه؟
لكن الكاتب عاد في تحليل مفهوم الخلافة ليقول ان القوم قد ذهبوا في ذلك المفهوم مذهبين .
الأول : أن الخليفة يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته .
ويعود الكاتب للعهد الأموي والعباسي الذي سبق أن تجاوزه حين قرر أن مفهوم الخلافة سقط بعد العصر العباسي . فيسرد الأمثلة من الأشعار والأقوال التي تبين النظرة المقدسة للخليفة باعتباره سلطان الله في أرضه , فيقول : ” فتراهم – أي القوم – يذهبون دائما الى أن الله جل شأنه هو الذي يختار الخليفة ويسوق اليه الخلافة على نحو ماترى في قول الشاعر : جاء الخلافة أو كانت له قدرا ….كما أتى ربه موسى على قدر ” ولا يفوت الكاتب التأكيد أن تلك النظرة القدسية القديمة للخلافة تكرست خصوصا بعد القرن الخامس الهجري ويأتي بعدة أمثال لذلك لا نرى ضرورة لسردها منها ماكان يحيطه العلماء بالملوك والسلاطين في مطلع كتبهم حين يذكرونهم فيرفعونهم فوق صف البشر غير بعيد عن مقام العزة الالهية كما يقول الكاتب .
أما المذهب الثاني الذي نزع اليه بعض العلماء حسب الكاتب فهو أن الخليفة يستمد سلطانه من الأمة فهي مصدر قوته , وهي التي تختاره لهذا المقام .
فالخليفة بهذا المعنى وكيل وكلته الأمة في منصبه ليمارس صلاحيات محددة لمصلحة المجتمع , ويستشهد الكاتب في بيان ذلك المذهب بما نشرته حكومة المجلس الكبير الوطني بأنقره تحت عنوان ( رسالة الخلافة وسلطة الأمة ) ويشير الكاتب هنا “لوثيقة أنقرة ” التي صدرت عام 1922 المعروفة بوثيقة التفريق بين الخلافة والسلطة وعلى أساسها صوت المجلس الوطني الكبير على قرار كمال اتاتورك بالتفريق بين السلطتين تمهيدا لانهاء الخلافة العثمانية بصورة تامة لاحقا .
والغريب هنا أن الكاتب يستشهد بالعلمانية الأتاتوركية التي قضت على الخلافة في معرض تحليله للمفهوم الثاني للخلافة .
فاذا كان هكذا فكان الأولى أن يختصر الكاتب الطريق فليس الأمر بحاجة لكل ذلك الالتفاف .
لكن الكاتب يحرص أن يقف على مسافة من المذهبين فينهي الباب الأول بالقول ” نرجو أن يكون ماسبق كافيا لك في بيان معنى الخلافة عند علماء المسلمين ومعنى قولهم ” انها رئاسة عامة في الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم “
نعم لقد عرفنا أيها الشيخ علي أن للخلافة مذهبين عند علماء المسلمين بمن فيهم ” كمال أتاتورك” الذي صار عالما من علماء المسلمين حسب تصنيفكم !
اذن يخلص الباب الأول الى الآتي :
أولا : أن الخلافة بمعناها الأصلي اقتصرت على صدر الاسلام ثم تغيرت مع بقاء بعض وظائفها الدينية حتى نهاية العصر العباسي .
ثانيا : أنها انتهت بعد ذلك ولم يبق لها الا الاسم الذي لاقيمة فعليه له على الأرض .
ثالثا : يعود الكاتب بطريقة التفافية ليحلل مفهوم الخلافة فيذكر أن للقوم مذهبين فيه , الأول مذهب التقديس واعتبار سلطة الخليفة من الله وهو يطابق الملكية المطلقة كما قال الفيلسوف هوبز .
والثاني : فصل الخلافة عن السلطة الدنيوية وبالتالي اقتصارها على سلطة دينية كما جاء في وثيقة أنقره وكما اشتهر به الفيلسوف لوك .
لكن الكاتب لم يقف مليا عند مفهوم الخلافة الأصلي في الاسلام المرتبط بمفهوم العقد الاجتماعي ولم يعره الاهتمام , بل انه خلط في نهاية الباب بين شيء يشبه ذلك المفهوم وبين نظرية لوك وعلمانية أتاتورك .
فالخلافة أو لنقل بطريقة أوضح ” نظرية الحكم في الاسلام ” ليست مؤسسة على مبدأ ” الحق الألهي “
بل هي مؤسسة على مبدأ العقد الاجتماعي وذلك اختلاف جذري بينها وبين الملكية المطلقة .
وللتذكير فنحن هنا لسنا بصدد دراسة تاريخ الخلافة في الاسلام , لكننا بصدد دراسة مفاهيم الخلافة والخلط بين الأمرين يعادل الخلط بين المبادىء والمفاهيم وبين الممارسة البشرية في حقبة تاريخية محددة .
فأصول الحكم في الاسلام , أو نظرية الحكم في الاسلام لاعلاقة لها بمبدأ ” الحق الألهي ” ولا بالملكية المطلقة , ولا أعرف من هم العلماء المسلمون الذين يعتد برأيهم ممن استند اليهم علي عبد الرازق للقول بوجود مذهب في الاسلام يقول بالحق الألهي الملكي , وقد استشهد على ذلك بشعراء يمدحون السلاطين فهل اعتبرهم من علماء الأمة ؟ واستشهد بالتبجيل الذي كتبه نجم الدين القزويني في أول” الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية ” وهو مجرد مديح للسلطان لايقدم أو يؤخر ولا يصلح كمستند لنظرية الحق الألهي في الاسلام المزعومة ,يقول القزويني في مقدمة الكتاب متوجها للسلطان ” فأشار الى من سعد بلطف الحق ( كان من السعداء أن الله قد تلطف به ) وامتاز بتأييده من بين كافة الخلق ( أيده بتمكينه من السلطة ) ومال الى جنابه الداني والقاصي ( الناس تميل دائما لأصحاب السلطة والمال) وأفلح بمتابعته المطيع والعاصي ( يقصد باطاعته ) ونجم الدين فيلسوف من تلاميذ الطوسي وكلامه مجرد تملق للسلطان لايصح دليلا على شي أكثر من ذلك .
لقد اختزل الكاتب ” أصول الحكم في الاسلام ” بمفهوم ” الخلافة ” ثم اختزل مفهوم الخلافة وحرفه ليطابق مفهوم الملكية المطلقة بمغالطة منطقية وتاريخية .
وفي مايلي سنعرض بالتفصيل لذلك المبدأ الأساسي في أصول الحكم في الاسلام والذي يصنع الفارق الكبير بينه وبين الملكية المطلقة , بحيث لايعود هناك أي سبب للخلط بينهما .
ترتكز السلطة في دولة العقد الاجتماعي على رضى الطرفين الحاكم والمحكوم , ويستمر الحاكم في الحكم طالما كان يحوز على رضى المحكوم , فاذا فقد رضا المحكوم فقد شرعيته في الحكم , فهو ليس قدرا للمحكوم , ولاقدسية لحكمه , كما أنه ليس مطلق الصلاحية في الحكم , فكما أن حكمه مشروط برضى المحكوم فهو مشروط بانتهاجه المبادىء التي تحكم عمل أي حاكم للدولة وهي في الدولة الحديثة متضمنة في الدستور , وفي الدولة الاسلامية كما كانت عليه ” القرآن والسنة ” .
أما الأدلة على أن مفهوم الحكم في الاسلام يستند الى مبدأ العقد الاجتماعي وليس الجبر والغلبة والسيف فكثيرة . أولها الآية الكريمة :
(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ( الشورى – 38)
وقد أخطأ البعض في فهم تلك الآية حين فسرها بنصيحة الحاكم بمشاورة مستشاريه قبل أن يأخذ قراره , وحقيقة معناها أن من صفات المسلمين أن لاينفرد أحدهم بالقرارات الهامة بل أن تؤخذ بالشورى , فلفظ ” أمرهم ” هنا لاتعني شؤونهم ولكن بالتحديد ابرام قرارهم . وهذا هوأيضا تفسير ابن كثير , يقول ابن كثير : ” أي لايبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ” .
. فهو وصف لطبيعة الحكم من حيث هو أداة الأمة في اتخاذ القرارات الهامة وليست الشورى مجرد نصيحة للمسلمين كما فهم من ذلك البعض . وقد ترافق ذكرها في الآية مع اقامة الصلاة , فوجب أن تكون مماثلة لها من حيث الوجوب وليس الندب والاستحباب .
ومنها أن الملوك لم يرد ذكرهم في القرآن الا بموضع الذم ” ان الملوك اذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ” .
ومنها أنه جاء في الحديث : ” أن جبريل خير الرسول بين أن يكون ملكا أو عبدا رسولا فقال عليه السلام بل عبدا رسولا ” رواه أحمد .
ومنها أن أول خليفة للرسول بعد وفاته لم يغتصب السلطة وانما أمسك بها بالبيعة , والبيعة تعني اعلان من يمثل الأمة من ” أهل الحل والربط ” الذين ينقاد لهم الناس طوعا رضاهم بالخليفة علنا أمام الجمع , فاذا كان ذلك لايرقى للانتخاب الحر فهو اليه أقرب , كما أنه مقطوع الصلة بطريقة الجبر والغلبة والسيف في أخذ الحكم .
ومنها الخطبة الهامة لأبي بكر الصديق بعد تسلم الحكم وهي تعبر أصدق تعبير عن مفهوم الاسلام للحكم اذ يقول :
“يا أيُّها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حقٍّ فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني. أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإذا عصيتُه فلا طاعة لي عليكم. ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.”
فهو لم يدع السلطة لنفسه كحق , لكن يصفها كنتيجة لاتفاق القوم وبيعتهم . وهو لم يهدد من يخالفه الرأي , بل طلب منهم معارضته اذا أخطأ , وهو بعد ذلك قد أعلن بوضوح أن طاعته مشروطة وليست مطلقة .
وقد فصل الشيخ الجزائري الامام عبد الحميد بن باديس في مدلولات ومعاني خطبة أبي بكر الصديق وأهميتها الكبيرة في ارساء ” أصول الحكم في الاسلام ” كالتالي :
الأصل الأول : لا حقَّ لأحد في ولاية أمر من أمور الأمة إلا بتولية الأمة، فالأمة هي صاحبة الحق والسلطة في الولاية والعزل، فلا يتولَّى أحد أمرها إلا برضاها، فلا يورث شيء من الولايات، ولا يستحقُّ الاعتبار الشخصي. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: (وُلِّيت عليكم) أي: قد ولَّاني غيري، وهو أنتم.
الأصل الثاني: الذي يتولَّى أمرًا من أمور الأمة هو أكفؤها فيه، لا خيرها في سلوكه. فإذا كان شخصان اشتركا في الخيرية والكفاءة، وكان أحدهما أرجح في الخيرية، والآخر أرجح في الكفاءة لذلك الأمر- قُدِّم الأرجح في الكفاءة على الأرجح في الخيرية، ولا شكَّ أنَّ الكفاءة تختلف باختلاف الأمور والمواطن، فقد يكون الشخص أكفأ في أمر وفي موطن؛ لاتصافه بما يناسب ذلك الأمر، ويفيد في ذلك الموطن، وإن لم يكن كذلك في غيره فيستحق التقديم فيه دون سواه. وعلى هذا الأصل ولَّى النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص غزاة ذات السلاسل، وأمدَّه بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح، فكانوا تحت ولايته، وكلُّهم خير منه. وعليه عقد لواء أسامة بن زيد على جيش فيه أبو بكر وعمر. وهذا الأصل مأخوذ من قوله: (ولست بخيركم).
الأصل الثالث: لا يكون أحد بمجرَّد ولايته أمرًا من أمور الأمة خيرًا من الأمة، وإنما تُنال الخيرية بالسلوك والأعمال، فأبو بكر إذا كان خيرهم، فليس ذلك لمجرَّد ولايته عليهم، بل ذلك لأعماله ومواقفه، وهذا الأصل مأخوذ أيضًا من قوله: (ولست بخيركم). حيث نفى الخير عند ثبوت الولاية.
الأصل الرابع: حقُّ الأمة في مراقبة أُولي الأمر؛ لأنَّها مصدر سلطتهم، وصاحبة النظر في ولايتهم وعزلهم.
الأصل الخامس: حقُّ الوالي على الأمة فيما تبذله له من عون، إذا رأت استقامته فيجب عليها أن تتضامن معه وتؤيده؛ إذ هي شريكة معه في المسؤولية. وهذا –كالذي قبله- مأخوذ من قوله: (إذا رأيتموني على حقٍّ فأعينوني).
الأصل السادس: حقُّ الوالي على الأمة في نصحه وإرشاده، ودلالته على الحقِّ إذا ضلَّ عنه، وتقويمه على الطريق إذا زاغ في سلوكه. وهذا مأخوذ من قوله: (وإذا رأيتموني على باطل فسدِّدوني).
الأصل السابع: حقُّ الأمة في مناقشة أولي الأمر، ومحاسبتهم على أعمالهم، وحملهم على ما تراه هي، لا ما يرونه هم، فالكلمة الأخيرة لها لا لهم، وهذا كلُّه من مقتضى تسديدهم وتقويمهم، عندما تقتنع بأنهم على باطل، ولم يستطيعوا أن يقنعوها أنهم على حقٍّ. وهذا مأخوذ أيضًا من قوله: (وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني).
الأصل الثامن: على من تولَّى أمرًا من أمور الأمة أن يبيِّن لها الخطَّة التي يسير عليها؛ ليكونوا على بصيرة، ويكون سائرًا في تلك الخطَّة عن رضى الأمة. إذ ليس له أن يسير بهم على ما يرضيه، وإنَّما عليه أن يسير بهم فيما يرضيهم، وهذا مأخوذ من قوله: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم). فخطته هي طاعة الله، وقد عرفوا ما هو طاعة الله في الإسلام.
الأصل التاسع: …مأخوذ من قوله: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم). فهم لا يطيعونه هو لذاته، وإنما يطيعون الله باتِّباع الشرع الذي وضعه لهم، ورضوا به لأنفسهم، وإنما هو مكلف منهم بتنفيذه عليه وعليهم، فلهذا إذا عصى وخالف لم تبقَ له طاعة عليهم.
الأصل العاشر: الناس كلُّهم أمام القانون سواء، لا فرق بين قويِّهم وضعيفهم، فيطبق على القوي دون رهبة لقوته، وعلى الضعيف دون رِقَّة لضعفه.
الأصل الحادي عشر: صون الحقوق؛ حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، فلا يضيع حقُّ ضعيف لضعفه، ولا يذهب قويٌّ بحقِّ أحد لقوته عليه.
الأصل الثاني عشر: حفظ التوازن بين طبقات الأمة عند صون الحقوق. فيُؤخذ الحقُّ من القويِّ، دون أن يُقسى عليه لقوته، فيُتعدَّى عليه حتى يضعف وينكسر. ويُعطى الضعيف حقَّه دون أن يُدلَّل لضعفه، فيطغَى عليه، وينقلب معتديًا على غيره. وهذا الأصل واللذان قبله مأخوذة من قوله: (ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحقَّ له، وأضعفكم عندي القويُّ حتى آخذ الحقَّ منه).
الأصل الثالث عشر: شعور الراعي والرعية بالمسؤولية المشتركة بينهما في صلاح المجتمع، وشعورهما دائمًا بالتقصير في القيام بها؛ ليستمرُّوا على العمل بجدٍّ واجتهاد، فيتوجَّهان بطلب المغفرة من الله الرقيب عليهما، وهذا مأخوذ من قوله: (أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم).( المصدر: كتاب آثار ابن باديس- إعداد دكتور عمار الطالبي، الناشر الشركة الجزائرية- الطبعة الثالثة 1417هـ، المجلد الثاني – الجزء الأول ص 401)
ورحم الله العالم الجزائري بن باديس فقد فصل بوضوح ” أصول الحكم في الاسلام ” من خلال خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه , وهذه الخطبة هي حجر الأساس في نظرية الحكم في الاسلام , وتكمن أهميتها أيضا في أن قائلها هو أول خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , وأقرب الصحابة له , فلايمكن الشك في أن مفهومه للحكم نابع من صلب الاسلام وتعاليم الرسول الكريم .
ومنها : أن عمر بن الخطاب سار على ذات النهج , فتسلم الحكم بالبيعة وليس بالقوة والغصب , وقبل وفاته , جعل الشورى في ستة يختار من بينهم من يخلفه وهؤلاء الستة هم طلحة والزبير و عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعثمان وعلي . وليس معنى ذلك أن من ينتخبونه فله الولاية حكما , لكنه يصبح مرشحا لأخذ البيعة . وهكذا تم ترشيح عثمان رضي الله عنه وجرت عملية البيعة قبل استلامه الحكم .
وصحيح أنه تم الانحراف لاحقاعن نهج الخلافة الراشدة نحو الحكم الملكي الوراثي , لكن ذلك لايعني أن الانحراف هو ” أصول الحكم في الاسلام ” فقد سبق أن ارتسمت نظرية الحكم في الاسلام من القرآن والسنة وماأثبته الخلفاء الراشدون .
وحتى بعد التحول نحو الحكم الوراثي زمن الأمويين , بقي أثر الشورى والبيعة ولم يندرس , وكان يظهر بين وقت وآخر , فبعد موت معاوية الثاني ابن يزيد كاد الحكم أن يخرج من الأمويين , وبايع حكام الولايات في مصر والعراق عبد الله بن الزبير كما خضعت له الحجاز , وكادت الشام أن تلتحق بحكم عبد الله بن الزبير , ويقال ان مروان بن الحكم أوشك أن يبايعه لولا أن قبائل من الشام ساندته ودفعته للتمرد على عبد الله بن الزبير وعقد مؤتمر في الجابية على مقربة من دمشق .
الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية
في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة, وكان مؤتمر الجابية مؤتمرًا تاريخيًا يمكن أن يوصف بلغة السياسة بأنه كان مؤتمرًا دستوريًا, وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام, وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري, ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الآخرين للخلافة -غير بني أمية- قد عرضت للبحث, ولكن رجحت كفة مروان لعوامل, كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام, حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله, وقدمه في الإسلام, وهو كما تذكرون, ولكن ابن عمر رجل ضعيف, وليس بصاحب أمر أمة محمد الضعيف, وأمام ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير, ويدعون إليه من أمره فهو والله- كما يذكرون, إنه لابن الزبير, حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق, ذات النطاقين, وهو -بعد- كما تذكرون قدمه وفضله .
– ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين, يزيد وابنه معاوية بن يزيد, وسفك الدماء وشق عصا المسلمين, وليس بصاحب أمر أمة محمد منافق, وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام من صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع, وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار, وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل, وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير, ويستشبوا الصغير -يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية- فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد, ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الآراء وأرضت جميع الاتجاهات.
كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية، عدم مبايعة ابن الزبير, واستبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية, ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة, وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور, ومبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك, وأن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفويًا, والاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين أتباع ابن الزبير في الشام بادئ الأمر.
زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى
قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى, إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام, وبويع بإجماع الحاضرين, فكانت طريقة توليته, شورية دستورية اتخذتها المعارضة لتقوية صفها, وبذلك صار في العالم الإسلامي -إذ ذاك- خليفتان: عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة, ومروان بن الحكم الزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة, ولما كان لابد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الآخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة, فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير.
والدليل الآخر على أن الشورى والبيعة استقرت في ضمير الأمة كأصل للحكم , هو ما أثر عن رفض عمر بن عبد العزيز أن يتسلم الحكم ببيعة بدا له أنها فرضت بموجب وصية سليمان بن عبد الملك , فصعد المنبر وأعلن للناس أنكم في حل من تلك البيعة , ولم يرض أن يتسلم الحكم سوى ببيعة ثانية .
ورد في كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي أن عمر صعد المنبر بعد أن أخذ له رجاء بن حيوة البيعة فخطب الناس وقال : ” أيها الناس اني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه , ولا طلبة له , ولامشورة من المسلمين , واني قد خلعت مافي أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ” .
وفي حواره مع وفد الخوارج فقد أحرجه الخوارج بمسألتين الأولى كيف استلم الحكم ؟ هل بالشورى ورضا الناس أم اغتصبه اغتصابا , فتمكن من الرد عليهم كما سيأتي , والثانية بهل سيسلم الحكم بعده ليزيد بن عبد الملك أم سيتبع نهج الخلفاء الراشدين في الشورى والبيعة فلم يتمكن من الاجابة وقتها واعترف لاحقا أنهم غلبوه بهذا السؤال . وبدأ يظهر خشيته من ترك الحكم ليزيد كما سيرد .
وأورد هنا كامل حوار الخوارج مع عمر بن عبد العزيز لأهميته في القاء الضوء على مكانة الشورى والبيعة كركنين للعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم حتى بعد زمن الخلافة الراشدة بحوالي 60 عاما .
ففي سنة مئة للهجرة في عهد عمر بن عبد العزيز خرج (تمرد على حكم عمر) شوذب الخارجي واسمه بسطام في العراق في ثمانين رجلا ، فكتب عمر الى عامله بالكوفة عبد الحميد أن لايبادرهم بالقتال حتى يسفكوا دما أو يفسدوا في الأرض ، ثم ان عمر كتب الى بسطام قائلا : بلغني أنك خرجت غضبا لله ولرسوله , ولست في ذلك أولى مني ، فهلم الي أناظرك ، فان كان الحق بايدينا دخلت فيما دخل فيه الناس ، وان كان بيدك نظرنا في أمرك .
فارسل اليه بسطام : قد أنصفت ، وقد بعثت اليك برجلين يدارسانك ويناظرانك ،وأرسل اليه مولى حبشيا لبني شيبان اسمه عاصم ، ورجلا من بني يشكر ، فقدما على عمر بخناصرة ، فقال لهما : ما أخرجكما هذا المخرج ؟ وما الذي نقمتم ؟ قال عاصم : مانقمنا سيرتك ، انك لتتحرى العدل والاحسان ، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر ، عن رضا للناس ومشورة ؟ أم ابتززتم أمرهم ؟ ( يشير عاصم هنا للطريقة التي تسلم فيها عمر الحكم هل هي برضا الناس ومشورتهم أم أخذت غصبا بوصية من قبله من الأمويين ) فقال عمر : ما سألتهم الولاية عليهم ، ولا غلبتهم عليها ( لم آخذها غصبا بالقوة ) ، وعهد الي رجل كان قبلي ( يقصد سليمان ) فقمت ( قبلت تسلم المسؤولية ) ولم ينكر علي أحد ، ولم يكرهه غيركم ، وأنتم ( معشر الخوارج ) ترون الرضا بكل من عدل وأنصف ، من كان من الناس ( يقصد أن في معتقد الخوارج اعطاء البيعة لأي من الناس سواء كان عربيا أم أعجميا ، قرشيا أم غير قرشي ، من آل البيت أم من غيرهم ، فشرطهم أن يكون عادلا منصفا فقط ) فأنزلوني ذلك الرجل ( يقول لهم مادمتم لاتشترطون سوى العدل والانصاف فلماذا تنكرون علي منصبي ؟ ) فان خالفت الحق وزغت عنه فلاطاعة لي عليكم . ( ولاشك أنه أحرجهم بذلك احراجا كبيرا ) فقالا : بيننا وبينك أمر واحد ( يعني أنهم قبلوا ما قاله سوى أن لديهم شرطا ) قال : ماهو؟ قالا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم ،فان كنت على هدى وهم على ضلالة فالعنهم وابرأ منهم ، قال عمر : قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا ، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها ، ان الله عز وجل لم يبعث رسوله لعانا ، قال ابراهيم الخليل عليه صلوات الله وسلامه ” فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم ” وقال الله عز وجل ” اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ” وقد سميت أعمالهم ظلما ، وكفى بذلك ذما ونقصا ، وليس لعن أهل الذنوب فريضة لابد منها ، فان قلت انها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون ؟ ، قال ما أذكر متى لعنته ، قال : أيسعك أن لاتلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولايسعني الا العن أهل بيتي وهم مصلون صائمون ؟ ( وهكذا أقام عمر عليهما الحجة والدليل فأفحمهما ) لكن عاصم لم يستسلم فقال : أما هم كفار بظلمهم ؟ قال : لا ، لأن رسول الله دعا الناس الى الايمان ، فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه ، فان أحدث بعد ذلك حدثا أقيم عليه الحد .
ويمتد الحوار بين عمر بن عبد العزيز ووفد الخوارج حتى كاد أن ينتهي بما يشبه الصلح والاتفاق غير أن اليشكري من وفد الخوارج توقف أخيرا عند مسألة لمن سيسلم عمر الحكم عمر من بعده ؟ قال اليشكري : أرأيت رجلا ولي قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده الى رجل غير مأمون ( يقصد يزيد بن عبد الملك ) أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله عز وجل ؟ قال عمر : لا ، قال : أفتسلم هذا الأمر الى يزيد من بعدك وأنت تعلم أنه لايقوم فيه بالحق ؟ قال عمر : انما ولاه غيري ( يقصد وصية سليمان بن عبد الملك في تولية يزيد بعد عمر ) والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي ( يقصد أنه لايخرج عن وصية سليمان ثم يترك الأمر للمسلمين بعده ) فأجابه اليشكري اجابة لم يستطع لها جوابا اذ قال : أفترى ذلك من صنع من ولاه حقا ؟ ويتضح من سؤال اليشكري مدى ذكائه وقوة حجته ، فهو يسأل عمر سؤال انكار وليس سؤال استفهام : فيقول ما معناه : وهل حقا أنت تعتقد أنك بالتزامك بوصية سليمان وترك الأمور هكذا تبرأ نفسك من المسؤولية في تمكينه من الحكم ، بل أنت من تكون قد وليته ومكنته من الحكم . وهنا بكى عمر وقال : انظراني ثلاثا . اي ثلاثة أيام . (نهاية الأرب في فنون الأدب – الجزء 21 ص 219)
ويبدو أن تلك المسألة ظلت معلقة لفترة ، مع ذلك فقد أظهر عاصم شيئا من القبول وأقام عند عمر بن العزيز خمسة عشر يوما توفي بعدها ، أما اليشكري فأثنى على ماسمع من عمر بالاجمال لكنه طلب مهلة للعودة الى قومه وعرض الأمر عليهم ، أما عمر فكان يقول بعد ذلك : “أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه فاستغفر الله ” فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم وأن يخلع يزيد من ولاية العهد ، فوضعوا على عمر من سقاه سما ، فلم يلبث بعد ذلك ثلاثا حتى مرض ومات رحمه الله ” ( نهاية الأرب – الجزء 21 ص220)
كماصرح عمر بن عبد العزيز باحتمال قيامه بالعودة نحو الشورى في اجتماع له مع بني مروان .
جاء في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد ” أخبرنا علي بن محمد عن أبي عمرو الباهلي قال جاء بنو مروان إلى عمر فقالوا إنك قصرت بنا عما كان بنا من قبلك وعاتبوه فقال لئن عدتم لمثل هذا المجلس لأشدن ركابي ثم لأقدمن المدينة ولأجعلنها أو أصيرها شورى أما إني أعرف صاحبها الأعيمش يعني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق” (الطبقات الكبرى – الجزء الخامس – ص344) , وكأنه يريد أن يقول لهم , سأعيد الخلافة الى ماكانت عليه وفق مبدأ الشورى لا كما حرفتم أمرها حتى أصبحت ملكا متوارثا .
فأصل الحكم في الاسلام هو العقد الاجتماعي بين الحاكم والحكوم وليس الغلبة ولا السيف , وله شروطه , والحاكم ليس مطلق الصلاحية ولا مقدس المكانة وكما قال عمر بن عبد العزيز للخوارج ” فان خالفت الحق وزغت عنه فلاطاعة لي عليكم .” والشورى أحدى اركان ذلك العقد , والبيعة ركن آخر وقد تجاهل الكاتب كل ذلك ولم يعطه حقه , ومفهوم الحكم في الاسلام أوسع من مصطلح الخلافة .
الباب الثاني
حكم الخلافة :
يناقش الكاتب في الباب الثاني موضوع حكم الخلافة , وحسب رأيه فالخلافة ليس واجبة شرعا لعدم ورود نص صريح بها في القرآن والسنة , أما ما قيل عن الاجماع حول وجوبها فلايعتبره الكاتب كافيا للقول بوجوبها شرعا .
والمسألة هنا هي أن مفهوم الخلافة يتداخل مع مفهوم الحكم , وقد تطور ذلك المفهوم كثيرا حتى العصر الحالي , ولايجوز لمفكر متنور أي يهمل ذلك التطور , فالحكم أصبح جزءا من مفهوم أوسع هو مفهوم الدولة , وهناك الدستور , والقانون , ومؤسسات الدولة الحديثة التي أصبحت عامة حتى في أكثر الدول تخلفا , كالبرلمان , والوزارات , والقضاء المستقل الخ.. فكيف يمكن مناقشة موضوع الحكم خارج ذلك التطور؟
نحن نتفق مع الكاتب في أن مسألة الحكم لم تفصل في القرآن والسنة , ومعنى ذلك أنها ظلت مفتوحة لتغير الأزمنة والأمكنة , لكن المبادىء العامة التي ينبغي الاستهداء بها لم يخل منها القرآن وأهمها الشورى , كما أن ما أثر عن الخلفاء الراشدين منذ وفاة الرسول خاصة ماجاء في خطبة أبي بكر الصديق وطريقتهم في البيعة وفهمهم لطبيعة الحكم ووظيفة الحاكم والقيود عليه وشروط تنصيبه وعزله وقد سبق التفصيل في ذلك , كل ذلك يرسخ مبادىء الاسلام في الحكم . وهي مبادىء تلتقي مع المفاهيم الحديثة للدولة الديمقراطية من عدة أوجه .
كان على الكاتب أن يحرر مفهوم الحكم والدولة من مفهوم الخلافة الأضيق , وأن يتعرض لمسألة الحكم والدولة بصفتها مسألة مرتبطة بالعصر وظروف الزمان والمكان , وأن القرآن والسنة لم يرد فيهما تفصيل لتلك المسألة وأبقيت مفتوحة لكونها مسألة دنيوية في جوهرها , سوى ماكان منها متعلقا بمبادىء الاسلام وروحه ففي القرآن والسنة والخلافة الراشدة ما يكفي لانارة تلك المبادىء .
وحتى لاتبقى هناك ظلال حول الموضوع السابق فمبادىء الاسلام في الحكم هي :
أولا : أن الناس متساوون في الحقوق والواجبات والحكم للأصلح . ( لافضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود ..ألخ الحديث ) , ” كلكم لآدم وآدم من تراب ”
ثانيا : أن الحاكم خادم للشعب مشروط تنصيبه وبقاؤه بتوكيل الشعب له ورضاه به ( العقد الاجتماعي )
وفي خطبة أبي بكو الصديق عند توليه الخلافة وقد سبق الكلام حولها :
” مصادر رواية هذه الخطبة قال ابن كثير في البداية والنهاية “5/248″ و “6/301″: إسناده صحيح , ورواها البيهقي في سننه الكبرى ج6/ص353 حديث رقم: 12788, وابن جرير فى التاريخ (2/237) , وأخرجه ابن هشام في السيرة (6/82) عن ابن إسحاق , ورواه ابن حبان في السيرة 419
ثالثا : أن تداول السلطة ينبغي أن يكون بالشورى ( وذلك يتفق مع طريقة الانتخاب في العصر الحديث ) وليس بالغلبة ولا بالتوريث .
تلك هي مبادىء الاسلام بخصوص الحكم , وما عدا ذلك فهو موضوع للدساتير والقوانين المتغيرة بتغير الزمان والمكان .
والمسألة التي حام حولها علي عبد الرازق ولم يطرقها مباشرة بسبب الالتباس الحاصل في مفهوم الخلافة هي الآتي : هل يوجب الاسلام للمسلمين أن يكون لهم حاكم واحد في جميع أقطارهم ؟
والجواب على ذلك أن القرآن والسنة لم يوجبا ذلك , وأن ماقيل عن الاجماع مشروط بالعصر والزمان والمكان , فاجماع علماء الصحابة حين كان الاسلام محصورا في الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر والعراق لايوجب المسلمين اليوم والاسلام منتشر في كل بقاع العالم وتحت دول مختلفة في اللغة والثقافة وذات تنوع عرقي وديني .
ذلك عصر وهذا عصر آخر , فما معنى أن يكون لمسلمي الهند البالغ نسبتهم 10% من نسبة اجمالي السكان خليفة يطيعونه في دينهم ودنياهم ويأتمرون بأمره في السياسة والاقتصاد والدين وهو بعيد عنهم آلاف الكيلومترات في دولة أخرى ذات هموم اجتماعية واقتصادية مختلفة وثقافة ولغة وتاريخ مختلف ؟
والحقيقة أن عصر الخليفة – الحاكم قد سقط بالفعل بعد سقوط الدولة العباسية وربما قبل ذلك حين استقلت فعليا اقاليم مصر ( الفاطمية ) وخراسان ,بلاد الشام ( الحمدانيون والفاطميون ) حتى العراق ( الدولة السلجوقية ) ولم يبق للخليفة سوى بغداد .
أما الدولة العثمانية التي ينظر اليها كوريثة للخلافة الاسلامية , فقد كانت امبراطورية عالمية تركية وراثية تحت راية الاسلام , في مرحلة الامبراطوريات العالمية ماقبل القومية , كالامبراطورية النمساوية , والامبراطورية الروسية , وغيرها . وقد تفككت جميع تلك الامبراطوريات ونشأت داخلها الدول القومية الحديثة .
يمكن تصور هيئات عالمية لاجتماع المسلمين , بوظائف دعوية و ثقافية ودينية وأخلاقية – تربوية , لكن لايمكن تصور هيئة سياسية تحكم المسلمين في كل أنحاء العالم وتنظم شؤون حياتهم كما كان العهد بالخليفة – الحاكم أيام صدر الاسلام , والتفكير بذلك هو بالحقيقة ضرب من الخيال .
لايمكن للمرء لوم الشيخ علي عبد الرازق كل اللوم لعدم توضيحه الفكرة السابقة, فعصره وظروف مصر والمنطقة لم تكن تسمح بوضع الفكرة في اطارها السابق , لكن ذلك لايمنع من القول ان من الضروري اليوم التفصيل في المسألة السابقة التي طرح علي عبد الرازق جانبا منها ولم يتمكن من معالجة الجانب الآخر بالوضوح الكافي .
الباب الثالث
الخلافة من الوجهة الاجتماعية
يحتار المرء أثناء قراءة كتاب علي عبد الرازق في طريقته بالبحث والاستنتاج , فهو يتناول الموضوع من أطرافه , وبعد أن يأخذ جانبا منه ويخرج باستنتاجاته حتى تحسب أنه انتهى من ذلك الجانب , يعود في فصل آخر ليتناول ذات الموضوع أو ماجاوره وكأنه لم يقل فيه شيئا أبدا , فهو يلتف دائما حول مواضيعه في حركة لولبية , فلا يخرج من فكرة الا ويعود اليها ثانية , ولعله كتب كتابه في أزمنة متفاوتة ولم يبذل الجهد الكافي لتنسيق الأفكار فيه لتأتي مترابطة بين فقرة وأخرى وبين فصل وآخر . وقد ترك ذلك شيئا من التفكك في مجمل الكتاب .
وعلى أية حال فاننا نجده في الباب الثالث يستعيد الفكرة التي سبق أن أشبعها معالجة رغم أن معالجته بقيت ناقصة ومبتورة لكنه ختمها باستنتاجاته فاعتبرها بذلك ناجزة ومنتهية , ثم يعود هنا اليها ثانية من أطرافها , فهو يعود لفكرته السابقة في أن الخلافة التي صاحبت الشورى ( ويكاد لايقف عند مسألة الشورى ) والبيعة قد انتهت مع خلافة علي وصراعه الدامي مع معاوية , وأن الخلافة بعد ذلك أصبحت بالغلبة والسيف , وأن كل التاريخ الاسلامي قد انطبع بالصراعات العنيفة الدموية على الحكم , وكل ذلك سبق أن افاض به الكاتب , وسبق أن ناقشناه أيضا فلا داعي لمناقشته ثانية , أما الجديد فهو بداية تمييزه بين فكرة الحكومة أو الحكم وبين مفهوم الخلافة الضيق , وملاحظته أن الحضارة العربية – الاسلامية لم تكن غنية بالفكر السياسي كما كانت غنية بالأدب والشعر والطب ومختلف العلوم وهي ملاحظة صائبة , لكن تفسيرها كان قاصرا وهشا , فالكاتب فسر ذلك بطبيعة الحكم الاستبدادي وان لم يسمه صراحة باسمه , وربط بين تخلف الفكر السياسي وبين مفهوم الخلافة بطريقة غير مباشرة وبشيء من الحذر .
وللمفارقة فقد استشهد بحركات المعارضة في التاريخ الاسلامي ليخرج بأن ذلك الصراع الدامي المستمر عبر التاريخ بين الخلفاء والسلاطين وبين معارضيهم قد تسبب في قمع الفكر السياسي عند العرب وتحريمه , وبالتالي تخلف العلوم السياسية عن سائر العلوم والآداب والفنون التي تميزت بها الحضارة العربية الاسلامية
لكن الحقيقة أن مفهوم الحكم في الاسلام قد جرى الخروج عليه واستبدل بالحكم الملكي المطلق في تقليد لطريقة الحكم الفارسي التي سادت منذ العصر العباسي حتى العثمانيين , ولايبدل من ذلك الاضافات والتلوينات الاسلامية التي زينت أو بالأحرى أخفت وموهت عن الانحراف الحاصل عن جوهر مفهوم الحكم في الاسلام كما سبق لنا شرحه .
وللانصاف فان كثيرا من الخلفاء والسلاطين حملوا راية الدفاع عن الدين والأرض باخلاص وتفان , وواجهوا بشجاعة وبطولة حملات المغول والصليبيين والبيزنطيين وغيرهم ممن حاول احتلال أراضي المسلمين واستعبادهم , ولولاهم لكانت حال بلاد الشام ومصر والعراق والحجاز لاتختلف في مصيرها عن الأندلس وما آلت اليه بعد سبعة قرون من الحضارة العربية الاسلامية .
لكننا الآن بصدد تحليل طبيعة الحكم ومفهوم الحكم في الاسلام ولسنا بصدد محاكمة الحكام الذين تعاقبوا عبر مئات السنين وتقييم أعمالهم .
والقول بأن تخلف المسلمين في الفكر السياسي عائد لمفهوم الخلافة كما أراد أن يقول الكاتب مداورة ليس دقيقا .
فأول ما ينبغي ملاحظته هو أن مفهوم الحكم في الاسلام قد قضي عليه مع استبداله بالحكم الملكي الوراثي وبتأثير تقليد الحكم الفارسي , ومابقي منه فهو في ضمير الأمة وعند بعض العلماء الأحرار الذين لم تفسد مجاورة السلاطين أخلاقهم . ومن الظلم أن نعزي تخلف الفكر السياسي لمفهوم الحكم في الاسلام ونضع مصطلح الخلافة كدريئة للتصويب عليه متجاهلين أن الحكم في الاسلام شيء وتطور مصطلح الخلافة بالممارسة التاريخية شيء آخر .
هذه واحدة , الثانية أن الكاتب قد جعل من ذلك التبدل الذي طرأ على مفهوم الخلافة عبر الممارسة التاريخية نفيا تاما لمفهوم الحكم في الاسلام , فهو لاينسى أن يعرض لموضوع البيعة والشورى , لكنه ينظر باستهزاء كبير لتلك المسالة , فهو يريد القول أنها كانت مجرد لحظة تاريخية لم تؤسس لمفهوم في الحكم .
والحقيقة – ونحن هنا مضطرون للعودة لما سبق أن قلناه – أن مفهوم الحكم في الاسلام قد تأسس في مبادئه , وتثبت بفهم وممارسة الخلافة الراشدة , وفهم وممارسة الخليفة عمر بن عبد العزيز , وعلى من يريد معرفة رأي الاسلام في الحكم العودة اليه وليس الى المراحل اللاحقة التي تم فيها الخروج عليه .
وللننظر ماحدث للحضارة الغربية , فحين بدأت النهضة الأوربية في القرن الثالث عشر كانت أوربة تعيش تحت حكم ملكيات مطلقة تستند الى النبلاء الذين جعلوا من الفلاحين عبيدا لهم , وامتد ذلك الحل لمئات السنين , ثم عادت الحضارة الأوربية في نهضتها لحضارة اليونان وفلسفتهم , وشيئا فشيئا استعيدت فكرة المواطنة والديمقراطية , وفكرة العقد الاجتماعي على يد مونتسكيو و.., فما الذي يمنع من استعادة المفهوم الأصلي للحكم في الاسلام بما يتفق مع مبادىء الاسلام وروحه , ويتفق مع العصر أيضا .
وهنا تبرز أهمية تحرير مفهوم الحكم في الاسلام من مصطلح ” الخلافة ” وما لحق بذلك المصطلح عبر التاريخ من معاني الاستبداد والطغيان وتقييد الحريات .
واصرار علي عبد الرازق على التركيز على مفهوم ” الخلافة ” وفق الممارسة التاريخية خاصة منذ العصر العباسي وحتى العثمانيين يعني اسقاطه لمفهوم الحكم في الاسلام الأصلي وكأنه لم يكن
الكتاب الثاني
الحكومة والاسلام
الباب الأول : نظام الحكم في عصر النبوة
يسترسل الكاتب في هذا الباب في ذكر الأخبار ( المتضاربة ) حول حقيقة القضاء في الاسلام من حيث وجوده أو عدمه , وحقيقة بعث الرسول عليه الصلاة والسلام لعلي الى اليمن هل بعثه قاضيا أم غازيا أم معلما و كذا ألأمر بالنسبة لمعاذ بن جبل وغيره فالكاتب هنا لايريد اثبات أمر معين ولا نفيه وكل ما يهدف اليه هو وضع اشارة استفهام كبيرة حول وضع القضاء في زمن النبوة وذلك تمهيدا لما سيرد لاحقا في الباب الثاني .
ونقد هذه الفقرة من الكتاب يتلخص في شيئين :
الأول : أن ( نظام الحكم ) ليس مطابقا للقضاء لافي عهد النبوة ولافي أي عهد من العهود القديمة والحديثة , فالقضاء هو ركن من أركان الدولة لكنه ليس الدولة وليس الحكومة أيضا , فمفهوم الحكم الذي يخالط في العصور القديمة مفهوم الدولة يتضمن أركانا أخرى أكثر أهمية مثل قرار الحرب والسلم وابرام المعاهدات واعداد الجيوش وقيادتها وجباية الضرائب وتأمين السكان من الاعتداءات الخارجية أو الأعمال الاجرامية في الداخل ( الشرطة ) ورعاية مصالحهم في التجارة والزراعة ونشر التعليم وغير ذلك .
واختيار بند واحد من وظائف الحكم والنظر فيه باعتباره يمثل الحكم هو مغالطة لاتتسم بالأمانة .
الثاني : أن الاستغراق في ايراد الأقوال المتضاربة حول حقيقة بعثة علي بن أبي طالب لليمن وبعثة معاذ بن جبل أيضا وغيرهما في وظيفة القضاء دون مقابلة تلك الأخبار بعضها مع بعض ومع الحقائق التاريخية الأخرى والخروج بنتائج كما ينبغي لأي بحث علمي موضوعي يعني أن الهدف الوحيد للكاتب هومجرد التشكيك بمسألة وضع القضاء في عصر النبوة وهو هدف لايتفق مع المبادىء الأخلاقية ولا أستطيع تبريره بخوف الكاتب وحذره الشديد الذي صرح به ولم يخفه في مقدمة الكتاب حين قال : ” وقد أكون قد اكتفيت أحيانا باشارات ربما خفيت على صنف من القارئين جهتها , وبتلويحات قد تفوتهم دلالتها , وبكنايات توشك أن تصير عليهم ألغازا …” وكل مايمكن قوله لانصاف الكاتب هو أنني أتفهم الظروف والمخاوف التي جعلته يسلك طريقة ادخال الشك في القارىء دون الخروج باستنتاج محدد في بعض فقرات الكتاب .
وردنا على رأيه السابق أن القضاء ليس الحكم , بل هو فرع من فروعه , ووظيفة من وظائفه , ولايمكن استبدال الكل بالجزء في ادراك وجود الكل , فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حاكما ورسولا بذات الوقت , وكان أيضا قاضيا في المدينة , وقد قضى بين المسلمين وبين أهل الكتاب , فقضاؤه بين المسلمين معروف ومشهور .
فعن أم سلمة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” انكم لتختصمون الي , ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض ( يقصد ربما يكون أحد الخصمين أكثر مقدرة للجدال وبيان الرأي بغض النظر ان كان الحق معه أو لا ) , فأقضي له بنحو ما أسمع , فمن قضيت له بحق أخيه فانما أقطع له قطعة من النار ” ( متفق عليه ) وفي رواية ” وانما أنا بشر “
فكان رسول الله يحكم في جميع المسائل التي تلقى اليه وفق الدليل الظاهر ويقول ( أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) .
وكذلك قضاؤه بين أهل الكتاب وفي ذلك نزلت الآيات ” إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” (المائدة))
“عن ابن عباس أن الآيات فيما سبق إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف ، تؤدى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يودون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء – والله أعلم”.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق
فعصر النبوة شهد القضاء , ويكفي ماسبق دلالة على ذلك , ومادام أن الرسول كان يقضي في المدينة فمن المتوقع أن يقضي من يمثله في الأمصار البعيدة كاليمن وغيرها , ولا ينبغي أن يعتبر ذلك مجالا للجدال فضلا عن التشكيك .
الباب الثاني : الرسالة والحكم
ليست الفقرة السابقة سوى تمهيد للفقرة الحالية فقد حاول فيما سبق التقليل من شأن مظاهر الحكم في زمن النبوة بطريقة لاتتصف بالاستقامة والوضوح , وهي أيضا غير مقنعة ولامتطابقة مع التاريخ المدون لتلك الفترة , أما في الفقرة الحالية فهو يغوص في ذات الفكرة الى أبعد مما سبق , فيضع التساؤل الكبير كمحور للنقاش : هل كان الرسول ملكا أم لا ؟ وهل أسس دولة في المدينة أم لا ؟ وهل كان تأسيس الدولة جزءا من الرسالة أم لا ؟
وهو هنا يقوم باستعراض آراء متعددة , فيمر على كل منها مرور الكرام , دون أن يتكلف المضي حتى النهاية في البرهان على أي منها أو دحضه , وحين ينتهي من ذلك الاستعراض , يحيل الى الفقرة التالية التي تتضمن رأيه النهائي .
فوظيفة الفقرة الحالية هي عرض آراء مختلفة , تتضارب مع بعضها , بحيث يصاب القارىء بالدوار , وتستولي عليه الحيرة , فيصبح متلهفا لحبل خلاص ينقذه من حيرته , وذلك كل مافي الأمر .
من أجل ذلك فلن أتابع الكاتب هنا في عرض مختلف الآراء المتضاربة بل سأذهب مباشرة للفقرة التالية التي يعرض فيها رأيه بصورة أكثر وضوحا , فذلك مايستحق الوقوف عنده .
الباب الثالث : رسالة لاحكم , ودين لادولة
يصرح الكاتب بطريقة قطعية برأيه في المسألة التي سبق أن طرحها سابقا بالقول : ” ثم لم يبق أمامك ( يتوجه للقارىء ) بعد الذي سبق ( يريد القول بعد حيرتك في تضارب الآراء السابقة ) الا مذهب واحد ….هو القول بأن محمدا (صلى الله عليه وسلم ) ماكان الا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين , لاتشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة , وأنه لم يكن للنبي (ص) ملك ولا حكومة ….وماكان ملكا , ولا مؤسس دولة , ولا داعيا الى ملك “
حسنا , ياشيخ علي , ذلك رأيك , لابأس , لكن الأكثر أهمية هو كيف توصلت اليه بين تلك الآراء المتضاربة ؟
هنا يسوق الكاتب أفكاره التي يفترض أن تسوغ رأيه وتبرهن عليه كالتالي :
أولا : الفرق بين زعامة الأنبياء وزعامة الملوك , فزعامة الرسول محمد (ص) هي زعامة نبي تقوم على الاقناع والمحبة والهيبة والعلاقة الروحية وكذلك بميزات تتمثل بالقوة الجسدية والنفسية والأخلاقية . وسلطته على أمته سلطة روحية مستمدة من سلطة الرسالة وقوة النبوة وليست في شيء من معنى الملكية أو السلطنة فتلك زعامة دينية وهذه ( الملكية ) زعامة سياسية .
ثم يقر الكاتب بطريقة لاتخفي تناقضه بالقول أنه كانت هناك وحدة دينية ( يقصد وحدة اجتماعية في الحقيقة ) ويقول : ” من كان يريد أن يسمي تلك الوحدة الدينية دولة …والنبي ملكا أو خليفة أو سلطانا ألخ .. فهو في حل أن يفعل فان هي الا أسماء لاينبغي الوقوف عندها ..؟؟”
ولا أدري كيف يمكن أن يجتمع ذلك مع رأيه القاطع الذي قدم به تلك الفقرة من كتابه حين قال : ” ماكان محمد (صلى الله عليه وسلم) الا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين , لاتشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة , وأنه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة ….وماكان ملكا , ولا مؤسس دولة , ولا داعيا الى ملك”
يبدو لي أن الكاتب لايهتم كثيرا أن لايناقض نفسه , لقد كان عليه أن لايضع استنتاجه السابق بهذه الصيغة التقريرية القطعية في بداية هذه الفقرة بل بصيغة أخرى أكثر تواضعا كالقول بترجيحه لذلك الرأي كي يفسح الطريق أمام وجود حقائق تاريخية لاتتسق مع ذلك الرأي .
ولكي يخرج الكاتب من ذلك الاحراج يلجأ للنص القرآني فيستشهد بآيات منها ” وكذب به قومك وهو الحق , قل لست عليكم بوكيل ” ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ” ” انا أنزلنا اليك الكناب للناس بالحق , فمن اهتدى فلنفسه , ومن ضل فانما يضل عليها , وما أنت عليهم بوكيل ” ……..وآيات أخرى .
ويقول : ” ومن لم يكن وكيلا على الأمة فليس بملك أيضا “
هكذا يعتقد الكاتب أنه وجد في النص القرآني الدليل والحجة التي لم يستطع أن يجدها في التاريخ المدون للاسلام في المدينة ,ثم يحاول الكاتب الفصل بين ماهو ديني , وما هو دنيوي سياسي عطفا على ماجاء في النص القرآني , والعجيب أنه يأتي على ذكر الجهاد – الذي هو من أعمال الدول والحكومات – باعتباره جزءا من الدين مع نفيه لصفة الحاكم عن الرسول ونفيه لوجود الدولة في المدينة ولا يجد حرجا بعد ذلك وفي نهاية الفقرة بالقول ” هيهات هيهات , لم يكن ثمة حكومة , ولا دولة , ولاشيء من نزعات السياسة , ولا أغراض الملوك والأمراء ” .
الكتاب الثالث
الخلافة والحكومة في التاريخ
الباب الأول : الوحدة الدينية عند العرب
لعل الكاتب قد أحس بأن ما وضعه بصيغة رأي قاطع حاسم استنادا الى النص القرآني لايكفي لاقناع القارىء في مسألة هو ذاته قد سبق بقوله عنها انها ليست مسألة دينية بل يمكن الجدال فيها والأخذ والرد دون الخوف من كون ذلك خروجا عن الاسلام . ومن أجل ذلك رجع في الفصل التالي ( الكتاب الثالث ) ( الخلافة والحكومة في التاريخ ) ليحاول استدراك النقص الحاصل في ضعف استناد رأيه على التاريخ , واستناده أساسا على النص القرآني في تقرير النتيجة التي قررها بطريقة قاطعة في بداية الفقرة السايقة ونهايتها وهي أنه لم تكن ثمة حكومة ولا دولة ولا شيء من صفات السياسة في عصر النبوة وأن النبي لم يمارس الحكم بصورة مطلقة .
وملخص هذه الفقرة أن العرب كانوا متفرقين بقبائل متباينة اللهجات متباعدة المسافات بعضها كان خاضعا للدولة الرومية وبعضها كان مستقلا بذاته , وأن الاسلام قد وحدهم في وحدة دينية وليست سياسية , ولاكان فيها معنى من معاني الدولة والحكم .
وقد أورد الكاتب تلك الفكرة دون أن يدرك أنها لاتفيد في تدعيم رأيه الذي سبق أن أدلى به بطريقة صارمة وقطعية , بل ربما تصب في نقض ذلك الرأي , اذ كان من مصلحته التفريق بين الحاجة التاريخية الدنيوية لنشوء الدولة العربية وبين الاسلام كدين لكل زمان ومكان , والقول على سبيل المثال ان بوادر انشاء الدولة العربية ظهرت بصورة مستقلة الى حد ما عن الاسلام فذلك ماينسجم مع فكرته الأصلية , وبذلك كان يمكن أن يضع فاصلا بين مرحلة الدعوة الاسلامية في المدينة , وبين مرحلة انشاء الدولة بعد وفاة الرسول (ص) , لكن ما يقوله في هذه الفقرة هو نقيض ذلك تماما , فهو يقول بأن الاسلام هو الذي وحد العرب , وهو أساس دولتهم , ولم يبق الا أن يقول ان الاسلام قد تجلى بصورة دولة , فاذا كان الأمر كذلك فقد كانت هناك دولة وحكومة بعصر النبوة وبالتالي فقد مارس النبي الحكم وذلك نقيض رأيه تماما .
الباب الثاني : الدولة العربية
يتراجع الكاتب قليلا هنا , فيأتي على ذكر الدولة العربية التي خرجت للوجود بعد وفاة الرسول , لكن الحقيقة التي يخفيها بكثير من الحرص أن تلك الدولة العربية لم تنشأ من العدم , بل ولدت في المدينة قبل وفاة الرسول (ص) , فالخلاف الذي حصل في سقيفة بني ساعدة لم يكن حول انشاء دولة وحكم , بل كان حول وراثة الدولة الوليدة , ويؤشر لذلك تسمية أبي بكر بخليفة رسول الله لأول مرة , فرسول الله كان الحاكم الأول , وأبو بكر كان خليفته في الحكم , بخلاف ما سبق أن قرره علي عبد الرازق من أنه ” لم تكن ثمة حكومة ولا دولة ولا شيء من صفات السياسة في عصر النبوة” .
ونتفق مع الكاتب في أن حكومة لدولة سياسية قد اضطلع بها أبو بكر , فعهد النبوة قد انتهى بوفاة الرسول , والمهمة الرئيسية للخليفة كانت ارساء دعائم الدولة , وقراره بحروب الردة كان متأثرا بنظرته نحو توحيد الجزيرة العربية بحكم مركزي الى درجة كبيرة دون اغفال العامل الديني الذي لاينبغي اسقاطه من الاعتبار , فتداخل ماهو سياسي مع ماهو ديني كان حاضرا في خلافة أبي بكر مثلما كان حاضرا بعدها , ولايمنع ذلك من ادراك الطبيعة المدنية – السياسية للحكم وتوجهه نحو بناء الدولة العربية .
الباب الثالث : الخلافة الاسلامية
يضطر الكاتب في بداية البحث الى الاعتراف بأن النبي كان زعيما سياسيا للعرب في حياته , مما لايتفق مع ماذهب اليه سابقا من القول أن لاشيء من صفات السياسة في عصر النبوة , وقد جاء اعترافه في سياق تفسير اللقب الذي أطلق على أبي بكر بعد وفاة الرسول (ص ) ومبايعته وهو خليفة رسول الله , فكما قلنا سابقا فهو خليفته كحاكم سياسي للدولة العربية الناشئة تحت راية الاسلام من حيث الجوهر , وبديهي أن خليفة الحاكم حاكم يتمتع بذات صلاحياته , وذلك يؤكد الصفة السياسية للرسول (ص) خلال حياته , وأن مشروع بناء الدولة قد بدأ في عهده , وتسلمه منه بعد وفاته أبو بكر الصديق .
وقد واجه مشروع بناء الدولة معارضة من القبائل العربية التي لم تعتد الانصياع لحكم مركزي , وبعضها نظر للأمر من زاوية قبلية فرأى فيه استيلاء قبيلة قريش على ( ملك العرب ) , وربما كان يرى في قبيلته الجدارة في الرئاسة لسبب من الأسباب , فكانت حروب الردة حروبا سياسية في جوهرها , هدفها توحيد الجزيرة العربية واخضاعها لحكم مركزي لأول مرة في تاريخها , ضمن مشروع بناء الدولة . وفي مقدمة بن خلدون أن العرب ممن تأخر اسلامهم كانوا يدعون النبي “أمير مكة وأمير الحجاز “
ولايناقض ذلك ما اصبغت به تلك الحروب من ملامح دينية , والثابت أن بعض القبائل شهدت خروج أدعياء للنبوة , لكن السبب الأكثر شهرة هو منع أداء الزكاة لمركز الخلافة , وربما لم يكن الأمر انكارا للزكاة بل انكارا لتوصيلها لمركز الخلافة بما يشبه نزعة نحو ادارة ذاتية مستقلة عن المركز , لكن ذلك كان بالنسبة لأبي بكر بادرة انشقاق عن الدولة لايجب التساهل معها . ومشهور أيضا أن خلافا وقع بين أبي بكر وعمر بن الخطاب حول محاربة من امتنع عن ارسال الزكاة , وذلك يكفي للنظر للأمر بخلفيته السياسية , ولو كان مسألة دينية بحتة لما خالف فيه عمر أبا بكر وهما أقرب الصحابة لرسول الله (ص) , وجواب أبي بكر لعمر يزيد في وضوح الطابع السياسي حين يقول : ” والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه ” فالمسالة كما رآها أبو بكر ليست في قيمة الزكاة وتوصيلها للخلافة لكن في أن ذلك بداية خروج عن الدولة لايمكن التساهل معه في مرحلة حرجة كتلك التي كانت بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم).
وقد أصاب الكاتب التحليل في هذه الفقرة من الكتاب , ومن ذلك ذهب الى أن منصب الخلافة هو منصب سياسي اساسا , وأن اضافة الطابع الديني عليه جاء مقصودا لاعطاء السلاطين صفة مقدسة تحميهم وتزيد من صلاحياتهم وأن ذلك تسبب في جعل ” الخلافة ” تلتصق بالأفكار الدينية وتدرس مع عقائد التوحيد , وهكذا تم تحريم العلوم السياسية , وتكرس الاستبداد , وأصيب الفكر الاسلامي بالشلل .
وينهي الكاتب كتابه بالقول ان الخلافة ليست جزءا من الدين بل هي مسألة دنيوية سياسية , شأنها في ذلك شأن العلوم الدنيوية الأخرى التي ترجع للعقل والتجريب .وأن المسلمين أحرار في أن يبنوا دولهم وأنظمتهم وفقا لأحدث ما أنتجته العقول البشرية ودلت عليه تجارب الأمم .
والفكرة في هذه الفقرة مقبولة الى حد ما لكنها جاءت مبتورة أيضا , فالسلطة تتأثر بالفكر السائد كما تؤثر به , فهي سبب ونتيجة في آن معا , ولايمكن اهمال انتصار أهل النقل على أهل الرأي في القرن الثالث للهجرة , وانتصار مدرسة الغزالي المحافظة على المدارس الفكرية الأخرى , وهزيمة فكر ابن رشد التنويري وحرق كتبه وتحريمها وطمسها ,فكل ذلك أسفر عن هيمنة التفكير المحافظ على المجتمع , وساعد السلاطين والحكام في بسط حكمهم الاستبدادي دون عائق كبير , كما أن الكاتب لم يستند الى وجهة النظر الاسلامية الأصلية في الحكم , فجاءت فكرته السابقة مستقلة بذاتها , وذلك يرجع للقصور الحاصل في عرض رؤية الاسلام للحكم , بما تتضمنه من تناقض مع الحكم الملكي المطلق , وتأسيس لمبدأ العقد الاجتماعي بين الحاكم والحكوم , ذلك المبدأ الذي سبق فيه الاسلام الثورة الفرنسية وأفكار الفيلسوف منتسكيو بأكثر من ألف عام . وهناك أيضا التحفظ على القول بأن استبداد السلاطين وماخلعوه على مناصبهم من صفة دينية قد أفقر الفكر السياسي العربي , فالفكر السياسي لايرتبط بالضرورة بمناهضة الاستبداد كتابع بسيط , ومثال ذلك أن أهم مفكر سياسي في عصر النهضة الأوربية وهونيكولاميكيافلي قد وضع مؤلفه الشهير ” الأمير ” والذي يحلل فيه بطريقة عبقرية القوانين الداخلية للسياسة , ويعتبر على نطاق واسع أول ماكتب في علم السياسة الحديث انما كتب اهداء لأحد أمراء فلورنسا ( لورنزو ميدتشي ) وهو من أسرة ميدتشي التي أقامت حكما استبداديا في فلورنسة , وأنا هنا لا أرغب في نفي حقيقة تدهور الفكر العربي الاسلامي بعد العصر العباسي , ولانفي علاقة ذلك بالاستبداد السياسي الذي استغل لتكريسه أفكارا التصقت بالعقل الجمعي العربي باعتبارها أفكارا دينية . لكن كل ذلك ينبغي ألا يؤخذ كمسلمات بسيطة من ناحية , وأن لانهمل العلاقة المتبادلة التأثير بين السلطة السياسية والفكر السائد في المجتمع .
خاتمة
ان النص القرآني الكريم لايأتي على ذكر السياسة والحكم الا نادرا , وقد جاء فيه الاشارة لمسألة الشورى والتي هي نفي للحكم المطلق ” وأمرهم شورى بينهم ” , وهو يذم الملكية المطلقة وطغيانها متمثلة في فرعون ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ” , ويذم الملوك : ” قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ”
وأما ماجاء فيه :
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )
فهو متعلق بالقضاء بين خصمين احتكما للرسول كما جاء في تفسير ابن كثير , وذلك لايعني سوى القضاء وهو مختلف تماما عن مصطلح الحكم السياسي كما يفهم منه اليوم .
ومثل ذلك يقال عن السنة الشريفة فيكاد المرء يعجز عن أن يأتي بحديث صحيح يفصل في طريقة الحكم السياسي , وكل ماجاء حول مسألة الامام والامامة فهو مطعون فيه متهافت المصدر من جهة وهو يناقض مبدأ الشورى والبيعة من جهة أخرى .
والخلاصة أنه يمكن القول أن الاسلام كدين قد ترك مسألة الحكم السياسي مفتوحة لتطورالزمان وتغير المكان , وأن المبدأ الذي يتفق مع ماجاء في القرآن وما سنه الرسول حين لم يعين خليفة بعده هو مبدأ الشورى المرتبط بالبيعة , مما يناقض الحكم الملكي والوراثي .
وماحصل بعد وفاة الرسول على عهد الخلفاء الراشدين قد أكد ذلك , وأقوال الخلفاء الراشدين وأفعالهم تصب في مبدأ العقد الاجتماعي الذي هو مضمون الشورى والبيعة وذلك واضح في خطبة أبي بكر الصديق بعد تسلمه الحكم .
أما تزاوج ماهو سياسي مع ماهو ديني منذ عهد النبوة فقد جاء عبر ضرورة تاريخية , فالعرب كانوا يتطلعون لكيان مستقل لهم يبرز هويتهم التي تبلورت قبل الاسلام , وقد جاء الاسلام رابطا لتلك القبائل المتفرقة التي نادرا ما اجتمعت ضمن ارادة سياسية واحدة كما حصل في معركة ذي قار قرب الكوفة وقد جرت بعد البعثة النبوية على غالب قول المؤرخين حين واجهت عدة قبائل عربية أبرزها قبيلة بكر بن وائل الفرس فهزمتهم , وكان الفرس يستخدمون قبيلة اياد العربية في جيشهم فانحازت الى قبيلة بكر عند التحام الجيشين وكان لذلك أثر هام في انكسار الفرس , أخرج البخاري عَنْ يَزِيدَ بْنِ بَشِيرٍ الضَّبْعِيِّ ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ذِي قَارٍ : ” الْيَوْمَ انْتَصَفَ الْعَرَبُ فِيهِ مِنَ الْعَجَمِ ” وورد مثل ذلك عن الرسول في كتاب الكامل في التاريخ , ومن ذلك أيضا نرى أن الهوية العربية التي تشمل شبه الجزيرة العربية واليمن وبلاد الشام والعراق كانت في طور المخاض نحو الصعود بمواجهة امبراطوريتين عالميتين كانتا تشكلان فكي كماشة في محاصرة مشروع الكيان العربي .
ويشبه صعود الهوية العربية مع فجر الاسلام صعود الهوية الاغريقية التي كانت تشمل قبائل متناحرة , وامارات لاتنفك تتصارع فيما بينها مثل أثينا واسبرطة , فهناك الشعور بالهوية الحضارية – الثقافية التي تميزهم رغم صراعاتهم الداخلية والفروق بين لهجاتهم وصفاتهم المحلية , وتشمل الهوية العربية مراكز حضرية شهدت حضارات متتابعة كاليمن وحضرموت في جنوب الجزيرة العربية ( السبئيون والمعينيون والحميريون ) والأنباط ومملكة تدمر والغساسنة وكندة ومملكة الحيرة في الشمال , وقد تطور الخط العربي الحالي عن الخط النبطي , وقبل ذلك كانت هناك موجات من الهجرة من الجزيرة العربية باتجاه الشام والعراق , وكما يقول المطران بولس بهنام في دراسته التي نشرتها المؤسسة الأمريكية للدراسات السريانية فالآراميون والعرب من أصل واحد وقد نزح الآراميون من شبه الجزيرة العربية نحو الهلال الخصيب في الفرات الأوسط وشمال ووسط بلاد الشام , وذلك في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد , غير أن موجات الهجرة لم تتوقف بعد ذلك , وعشية الفتح العربي – الاسلامي لبلاد الشام كان العرب يشكلون عنصرا رئيسيا من السكان في البوادي والمدن أيضا بينما يشكل الآراميون السريان العنصر الرئيسي الآخر .
ومنذ الهجرة للمدينة بدأت ملامح ولادة الدولة العربية , وقد امتزجت ولادتها مع الدعوة الاسلامية بطريقة لاتقبل الانفصال , فلم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم بد من الاضطلاع بالمسؤوليتين الدينية والسياسية معا , لكن ذلك لايعني أن تأسيس الدولة هو من صلب الدين الاسلامي ذاته , بل هي بالأحرى الضرورة التاريخية تلك التي جمعت بينهما على صعيد واحد . فالقرآن الكريم يؤكد في أماكن متعددة على الصفة الرسولية التبشيرية للنبي صلى الله عليه وسلم ” انا أرسلناك مبشرا ونذيرا ” و ” فذكر انما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ” ” وما انت عليهم بجبار ” ” فان تولوا فانما عليك البلاغ ” وهي صفة لاتتفق مع صفة الحاكم والملك , وذلك يدعم القول ان الاضطلاع بالحكم السياسي في المدينة للرسول كان ضرورة تاريخية – دنيوية , محكومة بالزمان والمكان , ولم يكن من صلب الرسالة .
وقد استفاد الحكام المسلمون من تلك الحقيقة التاريخية عبر كل العصور اللاحقة في اعطاء الطابع الديني لحكمهم , لكنهم لم يلتفتوا الى أن الاسلام قد وضع مبدأ ” العقد الاجتماعي ” أيضا وأنهم اذا أرادوا أن يمثلوا الاسلام حقا فعليهم أن يبتعدوا عن الحكم المطلق ويقبلوا بجعل الحكم مستندا لمبدأ الشورى والبيعة لمن هو الأصلح للحكم ممن يرضى به المسلمون , وأن يكون نقده متاحا غير محرم , وأن يكون عزله ممكنا لايحتاج لثورة دامية حين يخرج عن شروط البيعة .
لقد كتب علي عبد الرازق كتابه في مطلع القرن العشرين , ورغم غموض أفكاره , وتشتت بعضها , فقد جاءت بنمط مختلف من التفكير , وأشارت الى ضرورة اعادة النظر في موضوع ” الخلافة ” و ” الحكم في الاسلام ” وقد كانت الجرأة في طرح تلك المواضيع الهامة والمصيرية أهم انجازات كتابه الصغير , ورغم أن تناول تلك المواضيع كان قاصرا , وملتبسا , وتجاهل أهم ميراث للاسلام في مسألة الحكم وأعني به فكرة العقد الاجتماعي التي جاءت مع مبدأ الشورى والبيعة وتراث الخلفاء الراشدين وتراث الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز , فقد ألقى الضوء على ضرورة مراجعة الأفكار التقليدية التي اعتبرت لزمن طويل مسلمات للعقل العربي في مقاربته لمسائل السياسة والحكم .
نقد محاكمة الكتاب والكاتب
كما أنه قمنا فيما سبق بنقد الكتاب , فسنقوم أيضا بنقد محاكمته وما أسفر عنها وقد كانت بمجملها انتكاسة كبيرة لحركة تجديد الفكر الاسلامي , ومن الواضح أن نتائجها لم تقتصر على انكفاء الشيخ علي عبد الرازق , وما قيل عن ندمه لكتابة ” أصول الحكم في الاسلام ” وعودته الى هيئة علماء الأزهر والتي لايمكن المرور عليها سوى بالتساؤل عن الثمن الذي دفعه الشيخ علي مقابل رد الاعتبار له وشطب القرار الذي اتخذ بحقه وحرمه من شغل أي وظيفة عمومية, حيث عاد للتدريس في جامعات مصر ؟
لقد كانت تلك المحاكمة أيضا درسا لكل من تسول له نفسه من طلاب وأساتذة الأزهر ومن حولهم الخروج عن مسلمات الفكرالاسلامي التقليدي المتوارث , ولم نشهد بعد ذلك التاريخ أية محاولة جادة من داخل الأزهر لتجديد الفكر الاسلامي .
انعقدت ” هيئة علماء الأزهر ” في 5 أغسطس ( آب) 1925 بموجب المادة رقم 101 من قانون الأزهر رقم 10 الذي أصدره الخديوي عباس حلمي عام 1911 لاخضاع الأزهر للسلطة السياسية وضمان عدم تمرده عليها وعلى استسلامه للاحتلال البريطاني . برئاسة شيخ الأزهر محمد أبو الفضل بصورة ” هيئة تأديبية ” ووجهت الهيئة للشيخ علي عبد الرازق سبعة تهم :
1- جعل الشريعة الاسلامية روحية محضة لاعلاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا .
2 – وأن الدين لايمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين , ولا لابلاغ الدعوة للعالمين .
3- وأن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو ابهام , أو اضطراب أو نقض , وموجبا للحيرة .
4 – وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ .
5 – وانكار اجماع الصحابة على وجوب نصب الامام , وأنه لابد للأمة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا .
6 – وانكار أن القضاء وظيفة شرعية .
7 – وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت حكومة لادينية .
حضر الشيخ علي عبد الرازق وطلب تأجيل الجلسة اسبوعا لتحضير رده , فتأجلت حتى 11 أغسطس 1925 , ثم انعقدت في ذلك التاريخ , وبعد قليل من المداولات صدر الحكم باجماع شيخ الأزهر وتسعة عشر عالما معه باخراج علي عبد الرازق من زمرة العلماء ولايقبل الطعن بهذا الحكم ويترتب على ذلك محو اسم الحكوم عليه من كافة سجلات الأزهر والمعاهد الأخرى , وطرده من كل وظيفة , وقطع مرتباته من أي جهة كانت , وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية وغير دينية .
ويعني ذلك القضاء على مستقبل الرجل وعلى مصدر رزقه وحياته وليس فقط معاقبته بعقوبة جزئية , وذلك كله مقابل نشره لآرائه في ” الخلافة ” وما حولها .
لم تدرك هيئة علماء الأزهر أنهم بمحاكمتهم المشينة تلك انما يحولون الأزهر من مكان للعلم والاجتهاد وتجديد الفكر الاسلامي الى زنزانة لذلك الفكر , وما نجده اليوم من تهافت لمشايخ الأزهر وفتاوى ” حسب الطلب ” انما هو نتيجة قتل روح الحرية والاستقلال في التفكير , والحاقه بالسلطة السياسية وخضوعه لرغباتها , وانتصار للجمود والتخلف .
ولو أن الأزهر اقتصر على اعلان معارضته لآراء علي عبد الرازق , وأن تلك الآراء لاتمثله كمؤسسة دينية مرجعية , لكان ذلك كافيا لابعاد شبهة كون الأزهر يتبنى آراء الشيخ علي , كما كان بالامكان نقد تلك الاراء وتفنيدها بكتاب صادر عن علماء الأزهر , فالرأي يجابه بالرأي والحجة وليس بقطع الأرزاق !
لقد أنهى الأزهر بتلك المحاكمة دوره الذي سبق أن لعبه كممثل عن الشعب في وجه طغيان السلطة , وبالتالي كجهة حرة مستقلة متضامنة مع مشاعر الناس , وتحول الى شرطي وحارس على الأفكار في خدمة السلطة أولا والفكر التقليدي ثانيا .
ملحق
الفلسفة والسياسة
ثمة ترابط بين الفلسفة والفكر السياسي , فمكيافلي الذي يعتبر كتابه الأمير مرجعا لعلم السياسة الحديث , هو ابن عصر النهضة الأوربية , وقد كانت كتب الفلسفة اليونانية قد ترجمت الى اللاتينية , وما يتصل بها من فكر سياسي , وقد تأثر بها مكيافلي كما تأثر بالتاريخ الروماني , أما المفكرون السياسيون في عصر التنوير أمثال جان جاك روسو , ومونتسكيو , وجون لوك , وآدم سميث , وغيرهم فقد دخلوا للسياسة من باب الفلسفة , محاولين عقلنة السياسة , وجعلها في خدمة المجتمع والأخلاق .
وفي التاريخ العربي – الاسلامي , وبعد أن ترجمت كتب الفلاسفة اليونانيين الى العربية , فقد تأثر بها الفكر العربي – الاسلامي , ونشأت داخله عدة تيارات ,وبلغ التأثر بها أن أبا حامد الغزالي الذي اشتهر بعدائه للفلسفة , واعتبر حتى اليوم من أهم أئمة تيار المحافظة ضمن أهل السنة والجماعة , والذي كتب مؤلفه الشهير” تهافت الفلاسفة ” , قيل عنه : ” انه بلع الفلسفة ثم حاول أن يتقيأها فما استطاع ” .
أما المدارس الأخرى فأهمها مدرسة المعتزلة , التي حاولت ادخال الفلسفة في الاسلام , مع حرصها الشديد عن الاستقلال عن الفلسفة اليونانية والبقاء في دائرة الاسلام , أما الاسماعيلية فهي قد جمعت بين الفلسفة اليونانية والفلسفات الشرقية الغنوصية العرفانية, وابتعدت عن تيار السنة والجماعة , وقرنت بين السياسة والفكر . فالمدرستان الفكريتان المعتزلة والاسماعيلية كانتا وثيقتي الصلة بالسياسة , وبينما تلاشى تيار المعتزلة بعد العصر العباسي , ولم يعد له وجود فكري أو سياسي , فقد بقيت الاسماعيلية حتى اليوم سوى أنها تعرضت للكثير من التعديلات .
وقد تميز المفكرون المغاربة والأندلسيون المسلمون بالانفتاح أكثر على الفلسفة اليونانية , والفصل بينها وبين الدين على خلاف المفكرين المشرقيين , ومنهم ابن باجه وابن الطفيل وأشهرهم على الاطلاق الامام القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد …ابن رشد , وبفضل شرحه لكتب أرسطو , تعرف الغرب على الفلسفة اليونانية ,وقد حاول ابن رشد الجسر بين الدين والفلسفة وليس ادخال الفلسفة في الدين , وذلك بالقول ان الفلسفة طريق العقل للوصول للحق والفضيلة , وباعتبار أن ذلك الهدف هو هدف الدين أيضا فهما يلتقيان عند الهدف النهائي , وبالتالي ليس من مبرر للفلسفة لتعادي الدين , كما ليس من مبرر للدين ليعادي الفلسفة , وفضلا عن ذلك فالناس بحاجة للفلسفة مثل حاجتهم للعلوم الأخرى , فبفضلها يتمكن العقل من العمل على أفضل وجه , وذلك ما أمر به الشرع , وصرح به القرآن الكريم في عدة أماكن كقوله تعالى ” قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ” وقوله ” لو كنا نسمع أو نعقل ماكنا من أصحاب الجحيم ” وقوله ” إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألقينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون” . يرى ابن رشد ” وجوب استعمال القياس العقلي أو العقلي والشرعي معا ” , ” فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بأفضل أنواع القياس وأتمها وهو المسمى برهانا ” , ونحن نستعين بآلات العمل في شؤوننا اليومية والدينية , دون أن نتحرى في ذلك ما اذا كان منشؤها وصانعها مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك , نحن نذبح ذبائحنا وأضحياتنا مثلا بسكاكين لانتحرى فيها أن تكون من صنع مشارك لنا في الملة , بل نتحرى فيها فقط شروط الصحة , وهي أن تكون نظيفة غير نجسة وحادة لاتعذب الحيوان ..الخ.. واذا كنا نفعل هذا في حياتنا العملية , الدينية وغير الدينية , فلماذا لانفعل الشيء نفسه في حياتنا الفكرية ؟ يجب اذن أن نضرب بأيدينا في كتب القدماء فننظر فيما قالوه من ذلك فان كان صوابا قبلناه منهم , وان كان فيه ماليس بصواب نبهنا عليه ” ( كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ) .
ولو ساد منطق ابن رشد بعقلانيته الفكر العربي – الاسلامي , لتغير الكثير في التاريخ العربي , أفلا يستحق التأمل أننا بعد حوالي /900/ عام من حياة ابن رشد نجد أنفسنا بحاجة للعودة اليه والبناء على فكره لتحفيز العقل العربي ومواجهة نزعة الجمود المتحكمة فيه ؟
ولما كانت الفلسفة تفتح الباب أمام الفكر السياسي , كما تفتح الباب أمام مراجعة المسلمات التي التصقت بالدين حتى أصبح التعرض لها من المحرمات , فقد تعرضت الابن رشدية للمحاصرة والاهمال , وأحرقت كتب ابن رشد في حين كانت تدرس في جامعات أوربة , ومع انحسار الابن رشدية , انحسرت العقلانية العربية , وفقد الفكر العربي – الاسلامي نافذة التنوير , فلم يعد أمامه سوى أن يغرق في ظلام التكرار والنظر للخلف . وشمل ذلك مختلف جوانب الفكر , ومنها الفكر السياسي .
محمد عبده وأصول الحكم في الاسلام
ولد الامام محمد عبده في قرية ” محلة نصر ” بمحافظة البحيرة بمصر سنة 1849 م , درس في الأزهر واتصل بجمال الدين الأفغاني , نال شهادة ” العالمية” من الأزهر عام 1877 , ساند بقوة الثورة العرابية حتى هزيمتها عام 1882 , ذهب لبيروت منفيا , ثم ذهب لباريس حيث التحق بجمال الدين الأفغاني وشاركه في انشاء جمعية ” العروة الوثقى ” وجريدة “العروة الوثقى ” وكان اهتمام الجمعية منصبا على تحرير الشرق من الاستعمار ونهضته بتكوين التنظيمات السياسية , ويبدو أن ذلك المشروع قد واجه الفشل سريعا , فغادر الى بيروت عام 1985 , وفي بيروت بدأ تفكيره ينحو باتجاه الاصلاح الفكري والتربوي , ثم عاد لمصر عام 1889 , وضعفت علاقته بأستاذه جمال الدين الأفغاني , عين مفتي الديار المصرية في عام 1899 , توفي عام 1905 عن 57 عاما . تمثل مساهماته في تجديد الفكر الاسلامي محطة بارزة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وأبرز أعماله كتاب ” رسالة التوحيد ” , كتاب ” الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ” مقالاته العديدة في جريدة العروة الوثقى وفي ” الوقائع المصرية” الرد على طعون هانوتو ورينان ضد الاسلام , تحقيق كتب التراث العربي – الاسلامي , تفسير القرآن الكريم , وضع لائحة اصلاح التعليم العثماني , لائحة اصلاح القطر السوري , اصلاح التربية بمصر , تحديث الأزهر , اصلاح المحاكم الشرعية , وغيرها .
تأثر الشيخ علي عبد الرازق بأستاذه الشيخ محمد عبده في موقفه من الخلافة ونظرته للحكم في الاسلام , ولعل كتابه حول ذلك كان محاولة منه في استكمال الطريق التي فتحها قبله الشيخ محمد عبده , سوى أن محمد عبده كان أكثر وضوحا وانسجاما في فهمه لرؤية الاسلام للحكم , فقد توقف مليا عند الاختلاف بين المبدأ الاسلامي في اعتبار أن أساس الحكم هو العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم خلافا للشيخ علي الذي مر على تلك الفكرة الأساسية مرور الكرام , ثم أهملها في بقية بحثه , يقول محمد عبده : ” فالأمة أو نائب الأمة ( يقصد نواب الأمة ) هو الذي ينصبه ( الحاكم ) والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه , وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها , فهو حاكم مدني من جميع الوجوه , ولايجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الافرنج ثيوكراتيك أي سلطان الهي , فان ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله, وله حق الأثرة في التشريع , وله في رقاب الناس حق الطاعة , لا بالبيعة وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة , بل بمقتضى الايمان , فليس لمؤمن , مادام مؤمنا أن يخالفه ….لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله ..هما دين وشرع , ويمضي محمد عبده فيصف أعمال الفتوحات الاسلامية بأنها أعمال سياسية حربية , تتعلق بضرورات الملك ( الدولة ) ومقتضيات السياسة ومن ثم فهي ليست بالحروب الدينية ” ( كتاب محمد عمارة الامام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين – ص 92) ويتطابق هذا الرأي مع ما ذهبنا اليه أن الأساس في نظرية الحكم في الاسلام هو العقد الاجتماعي بين الحاكم والحكوم وليس الحق الألهي . وأن البيعة والشورى تتفرع عن ذلك الأساس , ولايغير ذلك المبدأ ما جرى بعد الخلافة الراشدة من انحراف عنه .
ومن مبدأ العقد الاجتماعي كأساسس للحكم توصل الشيخ محمد عبده الى أن الدولة التي تتفق مع الاسلام هي الدولة المدنية وليست الدولة الدينية التي تحكم باسم الدين , جاء في كتاب محمد عمارة ( محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين ) الآتي : ” …موقف الرجل هذا قد قاده الى الايمان بمدنية السلطة في المجتمع , ومدنية مؤسسات هذا المجتمع ( يقصد مؤسسات الدولة من برلمان ووزارات ..الخ ..) ومن ثم الى اتخاذ الطابع القومي – المدني الذي لايفرق بين المواطنين بسبب الاعتقاد الديني ..ونحن نقدم له في هذا الباب نصين على جانب كبير من الأهمية في تقرير موقفه هذا من الطابع القومي للسلطة في البلاد ( يقصد المدني ) , ففي المادة الخامسة من برنامج الحزب الوطني المصري الذي صاغه الشيخ محمد عبده في ديسمبر / كانون الأول سنة 1881 م . يتخذ هذا الموقف الفكري , وحتى يؤكد أنه موقفه هو الخاص وزملاءه من علماء الأزهر , وليس فقط موقف الحزب , ينص في هذه المادة على أن “هذا الأمر مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ” أما نص هذه المادة الهامة من برنامج الحزب فيقول : ” الحزب الوطني حزب سياسي لاديني , فانه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب , وجميع النصارى واليهود , وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها لأنه لاينظر لاختلاف المعتقدات ..”
وانسجاما مع نظرته للحكم بوصفه عقدا اجتماعيا ونظرته لمدنية الدولة , فقد نفى الشيخ محمد عبده بل واستنكر أن تكون للحكم سلطة دينية , تفتش في عقائد الناس وأفكارهم وتطبيقهم للعبادات ونحو ذلك .ويقول :” ان الاسلام لم يجعل لهؤلاء ( أركان الحكم والدولة ) أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام ….ولايسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على ايمان أحد , أو عبادته لربه , أو ينازعه في طريقة نظره ..”
الديمقراطية والاسلام
لم تعد القضية الراهنة بالنسبة للمسلمين قضية ” الخلافة ” بمعناها الضيق , لكنها اليوم قضية الديمقراطية وموقف الاسلام منها , وأفضل مقدمة لتناول تلك القضية ماقاله ابن رشد في الموقف من دراسة الفلسفة اليونانية , فنحن نستورد جميع الآلات والأجهزة الضرورية في حياتنا المعاصرة , فلماذا لانستورد ” الديمقراطية ” كأداة لتحقيق مبدأ الاسلام في الشورى , والانتخاب كأداة لتحقيق مبدأ الاسلام في البيعة في ظروف العصر ؟ .
هل يجب علينا أن نعادي الديمقراطية فقط لأنها آتية من الغرب ؟
فأين نحن من الحديث الشريف ” الحكمة ضالة المؤمن فأينما وجدها فهو أحق بها “؟ . رواه الترمذي في سننه.
والديمقراطية كأداة للحكم تستند الى ثلاثة مرتكزات : المواطنة , الحريات العامة , المؤسسات الديمقراطية , واذا توقفنا قليلا عند كل واحدة من تلك المرتكزات وتأملنا في علاقتها بالاسلام نجد التالي :
أولا : في المواطنة :
يتضمن مفهوم المواطنة تحديد علاقة أفراد الشعب بالدولة من حيث الحقوق والواجبات , فالمواطن هو الشخص المقيم على أرض الدولة اقامة دائمة منذ زمن ( يتحدد بالدستور ) والذي له كافة الحقوق وعليه كل الواجبات , وتتمثل أهم واجباته في الدفاع عن الوطن , ودفع الالتزامات المالية من ضرائب وغيرها , والالتزام بالقوانين .
وفي المقابل فله كافة الحقوق , ومنها حقه في الانتخاب وفي أن يصل الى أعلى مراتب السلطة .
ادخل ارسطو تعريفا للمواطن في الجزء رقم 3 من ( السياسات ) كالتالي : ( المواطن الصالح يجب أن يعرف ويكون لديه القدرة على أن يحكم هو أو أن يحكم من قبل الآخرين وتلك بالضبط هي الفضيلة في المواطنة )
– المواطنة في التراث الغربي :
“هناك نوعان للمواطنة والصيغ المتباينة للقوانين لدى كل منها كافية لتبرير مثل ذلك التصنيف . المواطنة الاولى استمرت من زمن المدينة – الدولة الاغريقية حتى الثورة الفرنسية . أما المواطنة الثانية فهي تلك التي مازالت مستمرة حتى الآن منذ الثورة الفرنسية ” ( كتاب المواطنة في التراث الغربي من أفلاطون الى روسو لبيتر رايسنبرغ ).
نشأت المواطنة الأولى في الأصل في اليونان , وكانت تمثل امتيازا لطبقة محددة من الشعب , وهي طبقة المحاربين الذين برزوا في المعارك فأعطيت لهم الأملاك , واعترفت بهم الحكومة كنبلاء يستحقون التكريم , وهم وحدهم كان لهم حق التدخل في الأمور السياسية , وعقد الاجتماعات في الهيئة التي كانت أساس الديمقراطية اليونانية (مجلس المدينة) أو: الـ (CIVITAS)
لكن تلك الميزة ( المواطنة ) توسعت بعد ذلك , فشملت كبار التجار الذين اعتمدت عليهم الدولة في تمويل الجيوش , كما أن طبقة ملاك الأراضي توسعت أيضا , فلم تعد تقتصر على المحاربين أنفسهم بل تشمل أولادهم وأحفادهم ..الخ . ومع ان ارسطو سمح بامكانية ان يصبح العامة مواطنين فهم لايمكن ان يصبحوا مواطنين اصليين , فمواطنه الحقيقي ينبغي أن يكون حرا ولديه من الاملاك ما يمنحه الوقت الكافي للمشاركة في الشأن العام .
لقد عملت المواطنة الأولى في بيئة محدودة ووجها لوجه , كما ان المواطنين كانوا اقلية ضمن اجمالي السكان وقد عاشوا ضمن مساحات جغرافية محدودة , كانوا يعرفون بعضهم جيدا , فالمواطنة الأولى كانت دائما نخبوية , ويتناسب ذلك مع الحجم الصغير للدولة – المدينة في ذلك العصر .
ولا يكفي للاحتفاظ بالمواطنة وجود تاريخ ناصع للمواطن في ميدان الحرب , اذ كان العمل السياسي يتكثف بين الفترة والأخرى , ولم يكن الفرد معترفا به كمواطن حتى يشاهد مشاركا بالعمل السياسي , وبصورة نظرية لم يكن هناك مكان لمن يعزف عن الانخراط في العمل السياسي بسبب أن ازدهار المجتمع وبقائه يعتمد على المساهمة الشخصية لكل مواطن من المواطنين الأقلاء فيه . وبين الحين والآخر كانت تلك المساهمة تأخذ طابع العمل العسكري والتضحية بالموت في ميدان القتال .
فاذا انتقلنا نحو المواطنة الثانية التي بزغت مع الثورة الفرنسية وترسخ مفهومها النظري بمؤلفات روسو ومنتسكيو , والتي مازالت حية حتى اليوم .
فمنذ اواخر العصور الوسطى حصل اعادة انتاج لمفهوم المواطن بادخال تغيير للموضوع من شخص فعال سياسيا الى شخص خامل سياسيا , وبالرغم من ان الثورات العظيمة في نهاية القرن الثامن عشر أنجزت تغييرا في مصطلح المواطن بالعودة لمفهوم المواطن الفعال سياسيا , لكن ذلك التغيير كان مؤقتا من حيث الفعالية الواقعية , واستطاعت البورجوازية استبعاد شرائح واسعة من الشعب في وقت لاحق , كما أعادت عمليا للحياة ( ديمقراطية النخبة ) سوى أن النخبة هنا لم تعد المحاربين وملاك الأراضي , بل أصبحت كبار التجار وأصحاب المشاريع الصناعية والبنوك . وعلى أية حال فقد أرست المواطنة الثانية – حقوقيا على الأقل – مبدأ المساواة التامة بين أفراد الشعب , فأصبح الجميع مواطنين دون استثناء , لهم ذات الحقوق كما أن عليهم الواجبات ذاتها . وما قاله أرسطو كتعريف للمواطن من كونه ذلك الذي يحكم ويحكم أصبح يشمل جميع أفراد الشعب وليس فئة محدودة منهم .
المواطنة في التراث الاسلامي :
– عقد المدينة :
في السنة الأولى للهجرة عقد الرسول مع يهود المدينة معاهدة أهم بنودها :
1 – “أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم” ، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف ..الخ ..
والعبارة الأولى هامة للغاية ( أن اليهود أمة مع المؤمنين ) أي أن اليهود مع المؤمنين وفق أسس هذه المعاهدة يشكلون وحدة اجتماعية – سياسية ( أمة ) وهذا يطابق في المفاهيم الحديثة مصطلح ( الدولة ) فدولة المدينة التي وضعت المعاهدة دستورها ليست دولة المسلمين ولا دولة اليهود بل هي دولة مواطنة للمسلمين واليهود معا , فهي ترسي مبدأ دولة المواطنة التي تتسع لأديان ومذاهب مختلفة بحيث تتحدد علاقة الفرد فيها ( المواطن ) بالدولة بناء على ( الدستور ) أو كما كان في عصر النبوة ( المعاهدة ) .
2- ” أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ” وهو شيء يشبه الادارة الذاتية لكل جزء من أجزاء الدولة .
3- أن الدفاع عن المدينة مسؤولية مشتركة للمسلمين واليهود معا , وهذا يؤكد أننا أمام دولة مواطنة واحدة لها نظام دفاعي واحد يشمل دفع تكاليف الحرب والمشاركة فيها ضد أي اعتداء خارجي .
تلك هي أهم بنود المعاهدة و تكفي تلك المعاهدة للاستنتاج بأن الاسلام لايعادي دولة المواطنة , بل يقرها عندما يكون البلد متعدد الأديان , والعبرة هنا في الواقعة ذاتها ولايغير من قيمتها ماحدث بعد ذلك من انهيار لتلك الدولة – المعاهدة , والمعارك التي نشأت حين خرق اليهود المعاهدة بالاتفاق مع قريش على قتال المسلمين .
يقوم مفهوم المواطنة الحديث على مبدأ المساواة التامة للمواطنين الأحرار , وقد قرر الاسلام ذلك المبدأ قبل الثورة الفرنسية بنحو الف ومئة من السنين , في القرآن الكريم ” يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ” والخطاب هنا للناس كافة وليس للمسلمين فقط .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله من أكرم الناس قال أتقاهم “
فاذا جئنا للمواطنة حسب تعريف أرسطو من أن المواطن هو الفرد المعرض أن يكون حاكما أو محكوما , فاننا نجده ( المواطن ) في مفهوم العقد الاجتماعي في الاسلام وتطبيقه في الشورى والبيعة في زمن الخلافة الراشدة وتراث الخليفة عمر بن عبد العزيز . ونعود هنا خطبة أبي بكر ” اني قد وليت عليكم ولست بخيركم ” يعني بذلك أنه قد يكون بينكم من هو أحق مني بالولاية , فهو هنا مقر بأن الولاية من حق أي رجل من المسلمين يصلح لها , وفي حوار عمر بن عبد العزيز مع وفد الخوارج قال عاصم : مانقمنا سيرتك ، انك لتتحرى العدل والاحسان ، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر ، عن رضا للناس ومشورة ؟ أم ابتززتم أمرهم ؟ فيجيب عمر بن عبد العزيز: ما سألتهم الولاية عليهم ، ولا غلبتهم عليها ( لم آخذها غصبا بالقوة ) ……الخ ..كما ورد سابقا, فهو ينفي تلك التهمة عن نفسه , فهو ضمنا يعود الى أصل الحكم في الاسلام كما بينه أبو بكر في خطبته . ويلقي ذلك مزيدا من الضوء على النقاش الدائر حول مفهوم الاسلام للمواطنة كونها تؤهل أي فرد للحكم ان كان صالحا له دون استثناء .
ولأن عمربن عبد العزيز مقر ضمنا بذلك , فهو يجادلهم بأحقيته في الحكم ليس من كونه ورثه عن سليمان بن عبد الملك ولكن من كون الناس قد رضوا به طواعية من جهة , وأيضا من كونه يقيم العدل فهو رجل صالح للحكم بغض النظر عن أي اعتبار آخر .
ثانيا : في الحريات العامة :
لايمكن تصور الديمقراطية بدون حريات عامة , كما لايمكن تصور الحريات العامة بدون الحكم الديمقراطي , والدليل على ذلك أن بعض دساتير الدول زاخرة بالتأكيد على الحريات العامة , لكن بسبب عدم وجود حكم ديمقراطي أصبح من السهل وضع كل تلك التأكيدات على الحريات العامة في الثلاجة , ومخالفتها في الممارسة الى أقصى الحدود , وكل من يتحدث عن الحرية دون أن يقرن ذلك بضرورة وجود نظام ديمقراطي فهو يخدع نفسه قبل أن يخدع الآخرين .
وبدون الحريات العامة ( حرية الرأي , والتظاهر , والصحافة والاعلام , وحرية النقابات والأحزاب ..الخ ..) فان كل المؤسسات الديمقراطية مهددة أن تفقد جدواها وفعاليتها , وتتحول الى هياكل فارغة لاتصلح سوى كديكورات لمسرح يحركه الطغاة دون حسيب أو رقيب , فالحريات العامة هي اساس البناء الديمقراطي , وهي أحد أهم المعايير لوجود الديمقراطية أو غيابها .
لايمكن استخراج نظرية لبناء النظام الديمقراطي من التراث الاسلامي , فكما قلنا سابقا , فمصادر التشريع من قرآن كريم وسنة نبوية لاتمدنا سوى بمبادىء عامة مستمدة من قيم الاسلام ومقاصده , وعلينا أن نقبل الأخذ بالأنظمة الديمقراطية الحديثة التي تعارفت عليها البشرية , وأصبحت عالمية الطابع منذ زمن طويل .
وحين نرجع الى تراث الخلافة الراشدة, فليس الهدف استخلاص نظام ديمقراطي اسلامي , فذلك غير ممكن , لكن الهدف هو ابراز حضور المعاني الديمقراطية فيه ومنها الحريات العامة وذلك في الممارسة في عهد الراشدين .
الحريات العامة في عهد الخلافة الراشدة :
في عهد الخلفاء الراشدين كان النقد أو النصح للحاكم مفتوحاً على مصراعيه، ففي خطبة ولاية أبي بكر : ” فان أحسنت فأعينوني وان أسأت فقوموني ” , وقد قام الفاروق رضي الله عنه يخطب فقال: أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام له رجل وقال: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: “الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم اعوجاج عمر بسيفه .”
وقد جاء في خطبة عمر لما تولى الخلافة: “أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة”.
وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: اتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: “لا خيرفيكم اذا لم تقولوها ولاخير فينا اذا لم نسمعها .”
وخطب ذات يوم، فقال:” لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي القصة -يعني يزيد بن الحصين- فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة معترضة على ذلك: ما ذاك لك قال: ولم؟ قالت: لأن الله تعالى قال: ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (النساء،آية:20). فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ “( يعني نفسه ) .
ووقف ذات يوم يخطب في الناس فما كاد يقول: “أيها الناس اسمعوا وأطيعوا, حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر، فقال عمر بهدوء: لم يا عبد الله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد الله بن عمر، فشرح عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين”.
وقد سبق القول ان ” أصول الحكم في الاسلام ” لاتؤخذ من ممارسات الحكام والسلاطين بعد أن تحول الحكم من الشورى الى الحكم المطلق الوراثي , ولكن تؤخذ من القرآن والسنة والممارسة في عصر الخلافة الراشدة وارث الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز .
ثالثا : في المؤسسات الديمقراطية :
الدستور :
يأتي الدستور في مقدمة المؤسسات الديمقراطية , وهو قانون القوانين , ويحدد شكل الدولة , كما يكون هاديا ومرجعا أعلى للقوانين في كل حقل , وفي الدولة التي يشكل المسلمون غالبيتها عبر التاريخ الطويل , ولكون الاسلام لم يكن دينا فقط من وجهة نظر تاريخية بل دينا وحضارة وثقافة , فلابد أن يجد ذلك مكانا في الدستور , ولايعني ذلك أن تكون الدولة دولة دينية للمسلمين بل دولة مواطنة للاسلام فيها مكانته الطبيعية كمكون رئيسي للهوية الحضارية للدولة .
القضاء :
وثاني المؤسسات الديمقراطية هو القضاء المستقل , وتتميز الدول الديمقراطية بوجود قضاء مستقل , قادر على محاكمة أي مسؤول في الدولة مهما علت مرتبته , وأهم ما يحدد استقلال القضاء هو طريقة تعيين أو انتخاب هيئاته العليا , وعلاقته بالسلطة التنفيذية , واستقلاله المالي والاداري .
القضاء في الاسلام :
وتاريخ القضاء في الاسلام تاريخ حافل , وقد أخذت أوربة الكثيرعن القضاء الاسلامي , وأرفق في نهاية هذا البحث دراسة عن القضاء في بلاد الشام في الفترة الأولى للدولة العثمانية , وبدون شك فقد ورثت الدولة العثمانية عن المماليك نظام القضاء , وربما جرى ادخال بعض الاصلاحات أو التعديلات عليه لاحقا
وقد كان للقاضي سلطة موازية لسلطة الوالي , وعلاقته بالباب العالي مستقلة عن الوالي فهي تمر فقط عبر قاضي القضاة الذي يقيم في استانبول ويتصل قاضي القضاة بالسلطان العثماني مباشرة , وقد يحدث أن يرسل القاضي توصية بعزل الوالي اذا كثرت شكاية الناس عليه , فكان الوالي يحذر من القاضي ويحسب له حسابا , أما مالية القضاء فقد كانت مستقلة تماما عن الوالي , وكانت المحاكم تمول نفسها بنفسها من الرسوم التي تجبى من أية دعوى تقام , وقد تمتع القضاة بدخول عالية بفضل ذلك , فكان القاضي يعيش برفاهية ويعتبر من الفئات الغنية بالمجتمع .
ولسنا هنا بمعرض استعراض تاريخ القضاء في الاسلام , لكن للقول فقط بأن تراثنا الاسلامي يمكن أن يكون مفيدا في بناء نظام قضاء مستقل وحديث يكون دعامة رئيسية من دعائم الديمقراطية . وقد أوردت في نهاية الكتاب بحثا عن القضاء في بلاد الشام في مطلع الدولة العثمانية لالقاء الضوء على تلك المؤسسة الهامة وكيف عملت في بلاد الشام بفعالية مدهشة في تلك الحقبة الزمنية البعيدة وغني عن القول أنها انبثقت عن التقاليد والأفكارالاسلامية , قبل أن تخرج القوانين الوضعية والقضاء الحديث للنور بمئات السنين .
البرلمان
البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب هو المرجع لشرعية الحكومة وهو من يوافق على تشكيلها وعزلها اذا تطلب الأمر , ومحاسبتها أيضا , وربما يكون هناك بعض التنازع على السلطة بينه وبين رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي , لكن من المفترض أن تكون له اليد العليا في النهاية في حسم القرارات المصيرية .
يمكن عقد مقارنة بين البيعة بصيغتها الأصلية والموافقة على الحكومة من قبل ممثلي الشعب في البرلمان , فالبيعة صورة مصغرة ومبسطة عن التصويت على الحكومة , ومن المعروف أن من يقوم بالبيعة هم ” أهل الحل والربط ” وهم في الغالب أعيان البلد الذين تنقاد لهم الجماعات بتأثير جاذبيتهم الشخصية ومكانتهم الاجتماعية ( القبيلة , الأسرة ) أو نفوذهم المالي أو نفوذهم الديني , وفي المراحل اللاحقة من التاريخ الاسلامي بدأت تنحصر تلك الدائرة وتضيق لتضم أركان الدولة من قادة للجيش , وأمراء من الأسرة الحاكمة , ورجال دين بارزين , والوزراء , بانفصال شبه كامل عن المجتمع الذي لم يعد يشارك بأية طريقة في اختيار الحاكم ومحاسبته . وبهذا التحول فقدت البيعة معناها الأصلي .
في حين ترك القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع الحكم السياسي مفتوحا لتطور الزمان والمكان , فقد فشل المسلمون في تطوير نظام للحكم وفق المبادىء التي حددها الاسلام ( العقد الاجتماعي , الشورى , البيعة ) مع انتهاء عصر الخلافة الراشدة بحيث يؤمن مثل ذلك النظام تداول السلطة بطريقة سلمية , ومنح الشرعية للحاكم , ومراقبته وعزله حين يخرج عن شروط الحاكم كاقامة العدل والسير حسب مبادىء الاسلام والاستمرارفي نظام الشورى وتطويره بدل الحكم الفردي المطلق , وتسبب ذلك الفشل في الدخول بحروب متواصلة موضوعها السلطة أنهكت المجتمع الاسلامي لفترة طويلة .
وبدون شك فقد لعب الانقسام بين السنة والشيعة دورا في اجهاض أي تطوير لنظام الحكم في الاسلام , وتمثل نظرية الامامة التي تقول بحصر الحكم بيد أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من فاطمة خروجا على مبدأ العقد الاجتماعي, وتشريعا لنظام سياسي يجمع السلطات الزمنية – الدنيوية والسلطات الدينية معا في شخص الامام المحدد سلفا بأحد أحفاد ” آل البيت ” ثم تطور الأمر الى نائبه المعصوم , ورغم أن التيار الآخر في الاسلام , وأعني به تيار السنة والجماعة لم يقتنع بنظرية الحكم تلك , لكنه تراجع فعليا عن مبادىء الحكم في الاسلام القائمة على العقد الاجتماعي والشورى والبيعة .
في العصر الراهن يمكن القول ان البرلمان المنتخب مباشرة من الشعب قد حل محل أهل الحل والربط , وأن البيعة انتهت تاريخيا لتحل مكانها موافقة البرلمان على الحكومة المقترحة . مثلما أن مبدأ الشورى أصبح يتحقق على نحو أوسع وأكثر فعالية بما لايقاس عبر الديمقراطية .
القضاء في بلاد الشام في نهاية العصر الوسيط: حماة نموذجا
لم تحصل مؤسسة القضاء في التاريخ العربي – الاسلامي على مكانتها من التقدير والاهتمام، ونظر اليها على الأغلب بوصفها مؤسسة دينية أكثر من أي شيء آخر، وفي المقابل ثمة فكرة شائعة عن (العدالة) كمفهوم غربي المنشأ، فالعدالة والمساواة وتطبيق القوانين بنزاهة لا تنسب للشرق الا فيما ندر، ووفق نظرة رائجة لم يكن الشرق سوى مرتع للاستبداد والطغيان.
دحض هذه الفكرة الرائجة لا يمكن ان يتم الا عبر تفحص نماذج واقعية، ومن تلك النماذج صورة مؤسسة القضاء كما نقلت الينا بطريقة موثقة عبر سجلات المحكمة الشرعية بحماة والعائدة للقرن السادس عشر الميلادي..
في البداية لابد من اعطاء فكرة عن ملامح حماة في مطلع القرن السادس عشر والتي يوافق نهاية عصر المماليك وبداية عصر الدولة العثمانية.
فقد امتد حكم الأيوبيين في حماة لفترة طويلة بعد ان انحسرت ممالكهم في بلاد الشام لصالح المماليك (بالتحديد من عام 1178-1340) ميلادي.
أي حتى منتصف العهد المملوكي، وحاولوا جعلها حاضرة من حواضر ملكهم كالقاهرة ودمشق وكانت تسمى بمملكة حماة، وفي تلك الفترة الذهبية كانت حماة تتقدم باضطراد لتصبح احدى أمهات الشام على حد قول المؤرخ القلقشندي (حماة احدى أمهات الشام الرفيعة ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق والجمال الفائق، وبها الأسواق الحافلة والحمامات الحسان والفواكه الكثيرة – القلقشندي – ص236))
استمر ازدهار حماة حتى نهاية العصر المملوكي، وفي نهاية عهد السلطنة المملوكية كانت بلاد الشام مقسمة الى ست (نيابات)
هي حسب الأهمية :
نيابة دمشق – نيابة حلب – نيابة طرابلس – نيابة حماة – نيابة صفد – نيابة الكرك، وكانت نيابة حماة تمتد من المعرة شمالا حتى الرستن جنوبا ومن السلمية شرقا حتى مصياف غربا..
حين فتح العثمانيون بلاد الشام بعد معركة مرج دابق الشهيرة مع المماليك عام 1516 م قسموها الى ولايتين كبيرتين حلب ودمشق تتبعهما ثمانية ألوية أو كما تسمى أيضا (سناجق)، واتبع لواء حماة الى ولاية حلب .
أعاد السلطان سليمان عام 1524 تنظيم الادارة في بلاد الشام فقسمت الى ثلاث ولايات كبيرة حلب ودمشق وولاية طرابلس حيث ضمت الأخيرة ألوية حماة وحمص وجبلة والسلمية واللاذقية، وبقيت حماة تابعة لولاية طرابلس حتى منتصف القرن التاسع عشر 1868 بعدها الحقت بولاية دمشق ..
في عام 1579 كان مجموع دورها (الدار كانت تشمل عدة عوائل حيث يتم تزويج الأولاد ضمن الدار الواحدة) 3465 خانة وهو رقم كبير وفق عدد السكان المقدر في بلاد الشام في ذلك الوقت ..
تمتعت حماة باقتصاد قوي ومتنوع يشمل الزراعة والتجارة ورعي الأغنام والإبل والأبقار وعددا كبيرا من الحرف والصناعات من أهمها القطن الحموي المغزول، والذي كان مصدر جذب كبار التجار الأوربيين خاصة من فرنسا وايطاليا (البندقية)، وكذلك النسيج وصنع البارود واستخراج الزيوت وغيرها.
لكن أهم ما يسترعي الانتباه هو ذلك التنظيم المديني الاجتماعي (طوائف الحرف، الأحياء، نظام الحسبة، وفي قلب ذلك التنظيم تأتي مؤسسة القضاء .
لقد كان القضاء بحق سلطة موازية ومستقلة تمام الاستقلال (والحديث هنا يدور حول فترة محددة هي النصف الأول من القرن السادس عشر اذ تدهورت الأوضاع العامة بعد ذلك ومنها القضاء) .
شكلت سلطة القضاء مرجعية عليا كان بامكانها أن تستقبل الشكوى حتى ضد أمراء اللواء وتطلب منهم المثول أمامها وحين لايظهر الأمراء انصياعا كافيا ترفع القضية الى السلطان عن طريق قاضي القضاة ليتم عزلهم واستبدالهم بامراء آخرين
يمكن تمييز السلطات الرئيسية الآتية في المجتمع في مطلع القرن السادس عشر :
أولا: السلطة السياسية التي تتبع هرم الدولة العثمانية
وتتكون من: 1- أمير اللواء ثم والي الولاية ثم السلطان، وتمارس تلك السلطة نفوذها اعتمادا على جهاز أمن داخلي كان يعرف باسم الصوباشية نسبة للصوباشي الذي هو وكيل أمير اللواء لحفظ الأمن (مايشبه قائد الشرطة في المحافظة حسب التقسيمات الادارية الحالية)، وكان للصوباشي جهاز أمن داخل المدينة لملاحقة المجرمين وفرض الغرامات على المخالفين يتم تمويله من جباية الرسوم والغرامات الا ان الوجه السلبي لهذا النظام تمثل في توظيفه لجلب الأموال لخزينة الدولة العثمانية، فتحولت وظيفة الأمن العام الى موضوع للمقاولة يتم ارساؤها من قبل الصوباشي المعين من طرف أمير اللواء على عدة متعهدين أمنيين، فداخل المدينة كان هناك الصوباشية والعسس وكذلك فرقة خاصة من المرتزقة العسكريين يدعون باللوندات، أما خارجها في الأرياف فقد تقاطعت تلك الوظيفة الأمنية مع نظام عسكري هرمي مستقل هو نظام الاقطاع، هذا النظام الذي تميزت به الدولة العثمانية لتمويل جيوشها الجرارة، فبدلا عن اثقال كاهل الدولة برواتب الجنود، كانت الدولة العثمانية تتعاقد مع جنودها باعطائهم قطعة أرض (أميرية) مقابل تلبية طلبها حين تدعوهم للقتال، وقد يكون ذلك العقد غير شخصي كتعهد صاحبه بتأمين جندي مع سلاحه، وللوهلة الأولى ظهر ذلك النظام كحل ذي فائدتين فمن جهة تم تخفيف العبء عن الدولة العثمانية ومن جهة أخرى فان الأرض المقتطعة هي أرض غير مملوكة وبعضها يزرع بطريقة عشوائية .
اذن فقد تم احياء تلك الأراضي وتنظيم استثمارها مما يعد فائدة اضافية لنظام الاقطاع، لكن ماحدث بعد ذلك ومن خلال سياق التنظيم الاداري – الأمني المحلي أن الصوباشي كان يعطي مقاولة الأمن في الأرياف في معظم الأحيان للإقطاعي الذي منحته الدولة العثمانية قطعة أرض محدودة مقابل خدماته بتقديم رجل مسلح (كانت الدولة العثمانية تلتزم بالمعادلة: رجل مسلح مقابل عائد لقطعة الأرض يعادل 3000 درهم يتقاضاه الاقطاعي ويمتد العقد لأولاده من بعده أيضا)، وهنا بدأ الاقطاعي بتوسيع نفوذه على حساب القرى التي يتم تلزيمها له وهي على الأغلب قرى مجاورة لأرضه، وشيئا فشيئا تحول الالتزام الذي كان سببه وموضوعه فرض الأمن والنظام وجلب الأموال لخزينة الدولة تحت ذلك العنوان الى وسيلة للضغط على الفلاحين وارهاقهم بالضرائب والرسوم حتى تم اجبار قسم كبير منهم على بيع أرضه للاقطاعي مقابل اعفائهم من تلك الرسوم والضرائب وتركهم يعيشون بقوت يومهم بسلام، على أية حال مايهمنا هنا هو تمييز السلطة السياسية بأذرعها العسكرية – الأمنية .
ثانيا: سلطة القضاء :
الى جانب الجهاز الحاكم الذي كان يرأسه أمير اللواء كان هناك جهاز القضاء وعلى رأسه القاضي، ولجهاز القضاء في الدولة العثمانية مراتبية هرمية أيضا، فقد قسمت الامبراطورية العثمانية الى منطقتين قضائيتين كبيرتين يرأس كل منهما (قاضي أفندي)، احدى المنطقتين يرأسها قاضي عسكر الروملي، والأخرى قاضي عسكر الأناضول وتتبع المنطقتان لشيخ الاسلام الذي هو بمثابة قاضي قضاة الدولة العثمانية.
ارتبطت بلاد الشام بقاضي عسكر الأناضول الذي كان يعين القضاة الصغار بموجب تذكرة (منصب كاغدي)، وكان القاضي يرتبط برئيسه الذي عينه ويعين لمدة سنة تتجدد باستمرار.
ارتبط بكل قاض عدد من النواب في أقسام المدينة أو اللواء ولهم اصدار الأحكام باسم القاضي، تمتع القاضي بقدر كبير من الحصانة ضد العزل أو النقل او تنزيل الرتبة، لكن هذه القاعدة لم تراع دائما، كما تمتع القاضي بسلطة مستقلة عن الجهاز الإداري، بل أشرف القاضي اشرافا عاما على سير العدالة في منطقته بحيث غدا في الولاية رقيبا على الوالي نفسه وسائر أجهزة الحكم كالدفتردار والجند وموظفي الأوقاف والحسبة، وما كان القاضي يصل لهذه المرتبة الا بعد أن يدخل في مدرسة عليا يحصل منها على اثني عشر إجازة في اثني عشر مرحلة من مراحل التعليم بعد تخرجه من إحدى المدارس الأولية، وكان يتعلم في هذه المراحل كلها علوم القرآن، والفقه، والحديث، واللغة العربية الى جانب التاريخ والجغرافيا والحساب ويدرس قوانين الدولة العثمانية، وإذا لم يتم تحصيله بل حصل بعض هذه المراحل يعين معيدا في مدرسة أو مفتيا لبلدة صغيرة أو نائب قاض .
كان للقاضي أربعة نواب، نائبه الرئيسي ومذهبه حنفي، ونائب شافعي، ونائب حنبلي، ونائب مالكي، وكان القاضي يسجل أعماله وأحكامه في سجلات خاصة هي سجلات المحكمة الشرعية، وهي سجلات منظمة من قبل الدولة العثمانية ترد من الأستانة (استانبول) وكل ورقة فيها مختومة بختم خاص، وهناك نوعان رئيسيان من السجلات: أولا: السجل العام ويحوي كافة القضايا الواردة للمحكمة من قبل أبناء الأمة جميعا دون تمييز. ثانيا: السجل الخاص: ويحوي قضايا الإدارة والحكم من فرمانات السلاطين الى الأوامر السلطانية الى براءات الوظائف الى براءات الاقطاع..الخ.
كان القاضي يستعين باصحاب الخبرة في التحقيق فمثلا في قضايا الضرب والقتل استعان القاضي بأحد أطباء البيمارستان النوري (بناه نور الدين زنكي في حماة عام 1164) حيث يكتب الطبيب تقريره متضمنا سبب الجرح والمدة التي يجب أن تعطى للمصاب ليعود لعمله، وفي حوادث الهدم يستدعي القاضي المعماري، وفي السرقة يستدعي الصوباشي والعسسية، وفي خلافات أبناء الحي يستدعي شيخ الحي، وفي اختلاف أصحاب الملل الأخرى يستدعي قسسهم وأحبارهم ويقرر الأحكام وفق قوانين الدولة وأعراف الخبراء.
أما المهمة الأكثر خطورة والتي تستحق الوقوف عندها فهي إشراف مؤسسة القضاء على كل أجهزة الادارة سواء منها الخاص كالأوقاف او ما كان تابعا للدولة .
فجميع ما يرد من الدولة من أوامر وتعليمات وبراءات اقطاع ومناصب لا يأخذ صفته الرسمية وينفذ الا بعد المرور على القضاء حيث يتم تسجيله ويبلغ من يلزم لتنفيذه، وهو الذي يثبت انتخاب رؤساء الحرف والأحياء ومشايخ القرى والأسواق والطوائف الدينية (الفرق الصوفية) والشباب (طائفة الشباب وزعيمها الملقب شيخ الشباب وكانت تمثل الفتوة في الحي)، وحين يعزل الوالي او يتوفى يقوم القاضي بالاشراف على ادارة كامل اللواء، وكانت أبواب المحكمة مفتوحة في كل أوقات اليوم وكل أيام الأسبوع فقد فقد حوت السجلات قضايا بحثت في الليل كما حوت قضايا بحثت يوم الجمعة .
وكيلا ترتبط أسباب معيشة القاضي بجهاز الدولة كان للقاضي مورد مستقل يتم جبايته من المتقاضين وكانت هذه الرسوم تدر على القاضي ونوابه دخلا كبيرا يؤمن لهم معيشة مرفهة فقد بلغ ما دفعه المتقاضون لمحكمة حماة خلال ثلاثة عشر يوما ثمانين سلطانيا جبيت للقاضي وحسب هذا المعدل فان وارد المحكمة سيكون 2250 سلطانيا ذهبيا في السنة أي ما يعادل 270 ألف درهم عثماني (يعادل الدرهم العثماني في زمننا الحالي أقل من دولار بقليل)، وللمقارنة نذكر أن حمام الذهب قد تم تلزيمها لثلاث سنوات بمبلغ 16ألف درهم عثماني بينما لزمت حمام المنصورية ثلاث سنوات بمبلغ 23 ألف درهم عثماني..
كان الناس جميعا ينظرون للقاضي على أنه المرجعية العليا لاحقاق العدل وحماية المظلوم ورد الظالم بدون رهبة لذا كانت هيبة القضاء مهيمنة على الحاكم والمحكوم، ولم يكن أحد ليجرؤ على مخالفة القضاء..
استعان القاضي في كثير من أحكامه بالمفتي الذي كانت مهمته اعطاء الرأي في القضايا المعروضة على القضاء وتقدير مدى مطابقة الأحكام للشريعة، ولكن المفتي كان دون القاضي في المرتبة، ولتعزيز القضاء وتأمين استقلاله كان له سجن خاص اسمه سجن الشرع، وكان القضاء مؤسسة متكاملة تضم الى جانب القاضي ونائبه كلا من :
1- أمين المحكمة: ووظيفته مالية صرفة حيث كان يجبي رسوم القضايا ويسجلها في دفتر خاص، ويعطي كلا من القاضي ونائبه حصتهما، ويصرف لموظفي المحكمة رواتبهم حسب عقودهم مع القاضي ..
2- المحضر باشي، والمحضر، والسجان: ويقومون باحضار من يأمر القاضي باحضاره وايداعه السجن حسب ماتقضي به المحكمة .
3- الترجمان من التركية الى العربية
4- كاتب المحكمة: يكتب المحاضر وينقل نسخا عنها حسب المطلوب .
5- الروزنامجي: بمثابة موظف في ديوان المحكمة لتدقيق التواريخ .
6- ضابط المحكمة: لضبط النظام ضمن المحكمة .
7- الجلاد : لتنفيذ القصاص .
8- الشهود: ومهمتهم الشهادة على القضايا التي تبت فيها المحكمة، وتدرج أسماؤهم صريحة، ويحصلون على أجر مقابل شهادتهم .
ماذا نستنتج من كل ماسبق ؟
أولا: أن مؤسسة القضاء كانت على درجة عالية من التنظيم، وكي لاننسى فنحن نتحدث عن مطلع القرن السادس عشر الميلادي (1500-1550) أي قبل الثورة الفرنسية بما يزيد عن قرنين من الزمن..
ثانيا: الاستقلال المالي لهذه المؤسسة والذي كفل لها أن تكون قادرة على الاشراف على جهاز الدولة دون الخوف على معيشة أفرادها، بل وجعلها قادرة على تأمين الرفاهية لهم والاستغناء عن طلب ود الحاكم أو الرشوة .
ثالثا: الاستقلال الاداري: حيث أصبح جهاز القضاء سلطة موازية بتراتبية هرمية مستقلة عن جهاز الدولة، مما أعطاه المناعة ليكون قادرا على مسائلة ذلك الجهاز ضمن الولاية واللواء، وقد حوت سجلات المحاكم الشرعية الكثير من الحوادث التي شكى فيها الناس على أمير اللواء أو نائبه أو أحد الصوباشية أو المحتسب وغيرهم، فكان القاضي يرد الأمور الى نصابها وينصف كتاب المظلوم بكل قوة، وكانت السلطات التنفيذية تطيع أمر القاضي وتنفذ أحكامه واوامره، وكانت نصرة المظلوم واقامة العدل تنطبق على أي رجل في الادارة أو من الرعية بغض النظر عن منصبه وعصبيته أو طائفته، وقد بينت سجلات المحاكم حالات قام فيها أصحاب الملل الأخرى (المسيحية واليهودية) بتقديم الشكاوى الى القضاء ليقوم القضاء بانصافهم بغض النظر عن دينهم، وفي عام 1585 توفي انكليزي كان يقيم في دار حموي فحضر مبعوثون من قبل القاضي لاحصاء تركته، وحضر بعد ذلك دفتردار طرابلس (كبير المحاسبين في الولاية) يحمل معه أمرا بتسليم أمتعة الانكليزي المتوفى وما يملكه لمواطن انكليزي مفوض من ورثته مرافق للدفتردار، وقد تسلم الانكليزي المرافق الأمتعة والأملاك، وقام بالتوقيع على ضبط الاستلام والتسليم.
نقول باختصار: ان فكرة العدالة واستقلال القضاء وحرمته ودوره الهام ليس فقط في فض النزاعات ضمن المجتمع وتأمين الحقوق لأصحابها ولكن في ردع تغول أجهزة الدولة وطغيانها وفسادها، هذه الفكرة ليست غريبة عن تاريخنا وتراثنا، ما نحن بحاجة اليه هو نفض الغبار عنها واعادة انتاجها ضمن النظام الديمقراطي ووفقا لروح العصر.
المراجع :
1 – كتاب ” أصول الحكم في الاسلام ” – علي عبد الرازق
2 – كتاب ” الامام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين – محمد عمارة
3 – كتاب سيرة عمر بن عبد العزيز – ابن الجوزي
4 – كتاب المواطنة في التراث الغربي من أفلاطون الى روسو لبيتر رايسنبرغ.
5- كتاب المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام – د.جواد علي
6 – كتاب البداية والنهاية – ابن كثير
7 – كتاب الأمير – نيكولاميكيافلي
8 – دراسة مقدمة للمؤسسة الأمريكية للدراسات السريانية – المطران بولس بهنام
9 – كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال – ابن رشد
10 – مقدمة ابن خلدون .
11 – صبح الأعشى في صناعة الانشا – أحمد علي القلقشندي
12 – معجم البلدان – ياقوت الحموي
13 – سجلات المحكمة الشرعية بحماة
14 – لواء حماة في القرن السادس عشر – عبد الودود يوسف
15 – تاريخ البيمارستانات – أحمد عيسى بك
16 – تاريخ حماة الاجتماعي والاقتصادي والاداري مستمدا من سجلات المحكمة الشرعية – عبد الودود يوسف
17 – الجاليات الأوربية في بلاد الشام في العهد العثماني – بحث للدكتورة ليلى صباغ نشر في العدد 16 من مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية .
18 – تفسير القرآن لابن كثير.
19 – كتاب آثار بن باديس – عمار الطالبي
20 – نهاية الأرب في فنون الأدب – شهاب الدين النويري
21 – الطبقات الكبرى – ابن سعد