أكدت التجربة الإنسانية المعاصرة على قدرة أي مجتمع للنهوض والتنمية الشاملة، إذا أحسن الاستثمار في موارده الاقتصادية والبشرية، وإذا تبنّى سياسات ومخططات واقعية قابلة للتطبيق. ولكنّ الأمر يطرح مجموعة أسئلة: هل الفاعلية الاقتصادية هي مفتاح التنمية؟ هل النظام السياسي هو محركها الأساسي؟ هل الظرف التاريخي وعلاقة الداخل بالخارج هو العنصر الحاسم؟ هل الموقع الجغرا – سياسي والثروات الطبيعية هي الفيصل؟ ثم ما هي التنمية نفسها وما مجالها؟ وما هي الديمقراطية وما علاقتها بالتنمية؟ وما هي إشكاليات الديمقراطية والتنمية والمسألة الاجتماعية في سورية المعاصرة؟
وفي هذا السياق، اكتسب مفهوم التنمية الإنسانية رواجاً كبيراً منذ العام 1990 حين تبنّى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مضموناً محدداً ومبسّطاً له، شمل ثلاثة أبعاد: أولها، خاص بتكوين القدرات البشرية، مثل رفع مستوى الرعاية الصحية وتطوير القدرات المعرفية. وثانيها، يتعلق باستخدام البشر لهذه القدرات للاستمتاع في الحياة وزيادة إنتاجية العمل. وثالثها، ينصرف إلى نوع ومستوى الرفاه الإنساني بجوانبه المختلفة.
ويتجلى ذلك في نظام الحوافز القائم على أساس الربط بين الجهد والمكافأة، إضافة إلى تأكيد انتماء الفرد لمجتمعه من خلال تطبيق مبدأ المشاركة بمعناها الواسع، وكذلك جانب العدالة في توزيع ثمرات التنمية وتأكيد ضمانات الوجود الحيوي للأفراد والجماعات، وللمجتمع نفسه.
وفي سياق الاقتراب من تحقيق المؤشرات السابقة بُذلت جهود متعددة لتعريف الأبعاد السياسية لماهية الحكم الرشيد، وهي تتراوح بين حكم القانون ومحاربة الفساد وفاعلية القطاع العام، وصولاً إلى قدرة المواطنين على حرية التعبير من خلال نظام حكم ديموقراطي. إذ إنّ مؤشر المساءلة العامة يقيس مدى انفتاح المؤسسات السياسية ومستوى المشاركة واحترام الحريات العامة وشفافية الحكومات وحرية الصحافة.
إنّ الديموقراطية، كما نفهمها في سياق جدلها مع التنمية في سورية المعاصرة، هي جملة من الأدوات الإجرائية التي تسمح بتنظيم الشأن السياسي العام في صورة ناجعة، لما توفره من آليات ضابطة ومنظمة للحياة السياسية، مثل: علوية القانون، والفصل بين السلطات، وتوزيع السلطة بدل مركزتها، واستقلال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، والسماح بتنظيم الأحزاب والجمعيات المستقلة، والانتخابات الدورية، وتداول السلطة سلمياً.
وغني عن القول: إنّ توسيع المشاركة الشعبية، في عملية صنع القرارات، يتطلب تشجيع منابر الحوار وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والسلطة، وإفساح المجال أمام المواطنين لتشكيل المنظمات الطوعية، بالإضافة إلى تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني لتأتي تعبيراً عن خيارات المجتمع. كما تقتضي تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها الدستور، وتمكين المواطنين من الحصول على المعلومات والبيانات الضرورية لفهم الواقع والتأثير فيه.
ولكي ندرك عمق العلاقة بين الديموقراطية والمسألة الاجتماعية فإنه لابدَّ أن نتطرق إلى أهمية العنصر البشري في عملية التنمية، وإلى التأثير البالغ الذي تحدثه الديموقراطية لتطوير قدرات هذا العنصر وتفعيل دوره في عملية التنمية. إذ إنّ الإنسان هو العامل الحاسم والمحرك في عملية التنمية الشاملة، فبقدر ما تتاح له الفرص لتطوير القدرات الكامنة فيه، وبقدر ما تتوفر له الحوافز لتوظيف هذه الطاقات في الأوجه الصحيحة بقدر ما يتمكن من استخدام الموارد المتاحة لتحقيق تنمية حقيقية وذات أبعاد إنسانية. من هنا تأتي أهمية الديموقراطية، فهي بإفساحها في المجال أمام المواطنين للمشاركة في صنع القرار تمكّن من وضع الحاجات الإنسانية في مقدمة الأولويات. ولا حاجة إلى القول بأنّ تلبية هذه الحاجات من شأنها أن تعمل على تطوير قدرات المواطنين وتوسيع الخيارات أمامهم على نحو يساعدهم على تحقيق ذاتهم، وإطلاق طاقات الخلق والإبداع الكامنة فيهم.
إنّ إدراك المواطن السوري بأنّ فرص التقدم مفتوحة أمامه، وأنّ تقدمه مرهون بعمله دون أي اعتبار آخر، وثقته بأنّ ثمار عمله ستعود عليه، سوف يدفعه إلى السعي – دون كلل – لاكتساب المزيد من المعارف والمهارات وبذل المزيد من الجهد في العمل.
وثمة مؤشرات كثيرة تدل على ضعف عملية التنمية الإنسانية في سورية المعاصرة استناداً إلى معظم، إن لم يكن كل، مؤشرات هذه العملية. إنّ الجزء الظاهر من هذه المشكلة يتمثل في الفقر واللامساواة، لكنّ الفقر في الحقيقة ليس سوى جزء من المشكلة، فإلى جانبه هناك مؤشرات كثيرة: ضعف مستوى الرعاية الصحية، وانحسار واضح في فرص التعليم الجيد، وغياب شبه كامل أو ضعف مزمن في سياسات الأمان الاجتماعي. أما الحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، فهما أكثر استشراء من فقر الدخل أو اللامساواة الاقتصادية، إذ تشير الإحصاءات إلى أنّ نسبة الحرمان، بمعايير التنمية الإنسانية الأساسية، تبلغ حوالي 60 % من إجمالي السكان.
كما يعاني الاقتصاد السوري من ضعف وهشاشة في بنيته واختلال في هياكله، خاصة الاختلال بين النمو السكاني وضرورات النمو الاقتصادي، مما يعيقه عن تحقيق معدلات نمو مرتفعة تستوعب قوة العمل وتوفر مستوى مناسباً من الدخل للمواطنين وتلبي احتياجاتهم المتزايدة.
إنّ المطلوب في سورية بعد التغيير السياسي، للتعاطي المجدي مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، أن تعيد صياغة توجهات ومسار التنمية السورية، بما يساعدها على الاستفادة من الإمكانيات والموارد المتوفرة لديها، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقاً للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمن مستقبله ومستقبل أجياله.
وفي الواقع، لم يعد الشعب السوري، خاصة نخبه الفكرية والسياسية، ينظرون إلى المستقبل على أنه ذلك المجهول الذي لا يمكن معرفة مكنوناته والتحكم في مجرياته، بل باتوا يخططون له ويعملون على التأثير في اتجاهاته الرئيسية، ولعل الجهد الذي قام به 264 باحثاً وخبيراً سورياً لاستشراف مستقبل سورية في العام 2025 ” رؤية استشرافية لمسارات التنمية في سورية 2025 ” يندرج في هذا الإطار.
إنّ المسألة ذات التأثير البالغ على مستقبل سورية تتمثل في عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، فالكثير من أسباب تعثر التنمية يعود إلى الوهم بإمكان تعجيل التنمية الاقتصادية في غياب تحرك واضح في اتجاه التحديث السياسي. وثمة قضية هامة أخرى تتمثل في الموقف من قطاع الدولة، إذ إننا نعتقد أنّ أية تنمية سورية ناجحة في المستقبل مرهونة بالمحافظة على دور هذا القطاع في الاقتصاد الوطني، خاصة في المشاريع الاستراتيجية. إذ إنه لابدَّ من تدخل قوي لسلطة الدولة في وضع المعايير والقوانين والسياسات، وفي جمع الموارد المالية وتوزيعها، وفي إعداد البرامج الاجتماعية ومراقبتها من أجل ضمان الرفاهية للشعب السوري.
ولعلَّ أبرز المهمات العاجلة للبدء بالإصلاح الشامل: احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان السوري، باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح والقادر على إنجاز التنمية المستدامة، وتمكين المرأة السورية من بناء قدراتها الذاتية والمشاركة، على قدم المساواة مع الرجل، في جميع مجالات العلم والعمل والإبداع، واكتساب المعرفة وتوظيف القدرات البشرية بكفاءة في النشاطات الاجتماعية لتحقيق رفاه الإنسان السوري.