في الظروف العادية، كان يمكن أن يكون السؤال المُهمّ عن أسباب انسحاب مُرشّح الحزب الديمقراطي من الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولكن في ظلّ الوضع الاستثنائي الحالي، ومع الضعف والارتباك وحالات فقدان الذاكرة، التي ظهر فيها الرئيس جو بايدن، فإنّ انسحابه يجعل الأنظار تُصوّب باتجاه سؤال آخر: لماذا كان الرجل مُرشّحاً من الأساس؟
مهما قيل عن عمل المؤسّسات الأميركية، وعن الأهمية الثانوية للرئيس في حلقة اتخاذ القرار، إلّا أنّ الرئيس يمثّل، في الأخير، واجهة البلاد ورمزيتها، وقراره، في أحوال كثيرة، مُهمّ وحاسم. لذلك، كان غريباً الإصرار على بايدن مُرشّحاً وحيداً، على الرغم من المواقف المُحرجة الكثيرة التي حدثت له، وتابعها الملايين خلال بثّ حيّ، ومكّنت دونالد ترامب وأنصاره من جعله موضع سخرية. لك أن تتخيّل مثالاً أخيراً أنّ بايدن لم يُخطئ فقط في اسم الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إبّان قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في واشنطن، وإنّما دعاه فلاديمير بوتين.
كانت استطلاعات الرأي، منذ العام الماضي (2023)، تُؤكّد أنّ أغلب الأميركيين يرون أنّ حالة بايدن الصحّية تُؤثّر في أدائه مهامّه. مع ذلك، وبالنسبة لقيادات الحزب الديمقراطي ورموزه، كان بايدن الاسم الوحيد المُقدّم لخوض الانتخابات. اليوم، وبعد تنحّيه عن السباق الانتخابي، ما زال أولئك يرون فيه زعيماً يضع المصلحة الوطنية في المُقدّمة. ظهر هذا في أول ساعات إعلان تنحّيه في تغريدات باراك أوباما، الذي اعتبر أنّ بايدن من أهم الرؤساء الأميركيين، كما شكرته هيلاري كلينتون على جهوده، ومثلها نانسي بيلوسي، وغيرهم. في مقابل تغريدات المديح والمجاملة، لم يتأخّر المنافس الجمهوري ترامب في القول إنّ بايدن أسوأ رئيس أميركي، ولم يصل إلى هذه المكانة إلّا عبر الأكاذيب والتلفيق.
أحدث انسحاب بايدن قبل أربعة أشهر من الانتخابات الرئاسية حالةً من الارتباك السياسي. فمن ناحية، أربك مخطّطات الحزب الجمهوري، الذي كان يُركّز، في حملاته وبرنامجه، على نقد شخص الرئيس بايدن، وعلى انّه غير مُؤهّل للرئاسة. ومن ناحية أخرى، أربك داعمي الحزب الديمقراطي، الذي لم يحسم أمره نهائياً بشأن تقديم اسم مُرشّح جديد، وإن تتجه الأنظار إلى نائبة الرئيس كامالا هاريس، ذات الأصول الملوّنة. والتعقيد بشأن هاريس في أنّ الكلمة الفصل في اعتماد تمثيلها للحزب تعود للناخبين، فإن كان من حقّ بايدن أن يختارها نائبةً له وخليفةً في حال وفاته أو غيابه، فلن يكون من حقّ أحدٍ أن يفرضها مرشّحةً. أكثر من ذلك، لم يذكر بايدن، الحائز على ثقة الناخبين في الانتخابات التمهيدية، اسمها في خطاب الانسحاب الذي قدّمه للشعب الأميركي خليفة موثوقة. وفق اللعبة الديمقراطية، سيكون على هاريس أن تعكف على تصميم برنامج انتخابي، وأن تُقنع المصوّتين من أبناء حزبها، قبل غيرهم، بأنّها جديرة بأن تنافس على الرئاسة، وهذه مهمّة ليست سهلة لشخصيةٍ كانت في مرّ السنوات الماضية تتمتّع بشعبية مُنخفِضة.
يدافع مُتحمّسون لهاريس عنها بأنّها لم تكتسب الشعبية بسبب أنّها كانت نائبة رئيس، وهو منصب يجعل صاحبه داخل دائرة الظلّ. في المقابل، في وسع هاريس أن تمتلك اليوم نقاطَ قوّةٍ في وجه المُرشّح الجمهوري ترامب، فحتّى أنها سيّدة، وهو ما يعتبره كثيرون نقطةً سلبيةً في ظلّ قناعة أعداد كبيرة من الناخبين بأنّ النساء هن أقلّ فعّالية، يمكن أن يتحوّل شيئاً إيجابياً، إذ يمكنها أن تدفع سيداتٍ عديدات للتصويت لها نكاية بترامب المعروف بعدم احترامه النساء.
بغضّ النظر عن رأي المتحمّسين أو الرافضين ترّشح هاريس، يجب وضع نقطة مُهمّة في الاعتبار، أنّ الشعب الأميركي من التنوّع بحيث يصبح الحديث عن رفضه أو تأييده مُرشّحاً ما غير موضوعي، فقد تفقد هاريس شعبيّتها بالفعل في بعض الأوساط، لكنّها قد تحوز شعبيةً في أوساط أخرى يُهمّها أن تدعم النساء أو أبناء الملوّنين، بل قد تكون هاريس مرشّحةً مُفضّلةً في الولايات والمناطق التي يغلب عليها الوجود اللاتيني أو الأجنبي.
رغم محاولة الديمقراطيين، منذ بداية العام، الظهور بشكل متماسك من أجل الاحتفاظ بصورة الحزب الملتفّ خلف مُرشّح واحد، إلّا أنّ ضغوطاً داخلية ودعوات إلى الانسحاب ما لبثت أن ظهرت لتحثّ بايدن على اتخاذ القرار الصعب، لكنْ الذي لا مفر منه. المفارقة أنّ بايدن كان يُظهِر، في لقاءاته كلّها، وحتّى أيام قليلة، تمسّكاً مُتشدداً بهذا الترشّح، حتّى أنّه ذهب إلى القول، في لقاء تلفزيوني، إنّه لن يتراجع إلّا إذا طلب منه الله ذلك. هذه الضغوط، من مُقرّبين وفاعلين، تزايدت بعد الحضور الباهت والمحبط لبايدن إبّان المناظرة مع ترامب في نهاية الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، ووصِفَت بالكارثية. تلتها مطالبات للرئيس من صحيفة نيويورك تايمز، ومن نواب في الكونغرس، بالتنحّي حفاظاً على مستقبل الحزب الديمقراطي. سوف يتذكّر المتابعون عبارة المُمثّل جورج كلوني، الذي عبّر عن حبّه لبايدن، قبل أن يقول إنّ من غير الممكن كسب المعركة ضدّ الزمن. ثم تزايدت الضغوط عقب محاولة اغتيال ترامب، وجعلته الصورة الدرامية، التي ظهر فيها (ترامب)، وجابت عناوين الأخبار وأغلفة الصحف والمجلّات، أشبه بأبطال السينما الذين يصارعون عدواً لا يتوانى عن استخدام السلاح.
تُحسب هاريس على “اليسار الجديد”، بكلّ ما يعنيه المصطلح من تعقيدات، وهي نقطة قد لا تكون في صالحها وفق حسابات الناخب الديمقراطي، الذي لم يتقبّل بعد “القيم الجديدة”، ولا يعجبه انزياح الحزب الديمقراطي الكامل باتجاه اليسار.
المصدر: العربي الجديد
لماذا ترشح “بايدن” وأصر على الترشح من الأساس؟ ليقوم أخيراً بسحب ترشيحه لصالح معاونته؟ الشعب الأميركي متنوّع والحديث عن رفضه أو تأييده لمُرشّحاً ما غير موضوعي، قد تفقد هاريس شعبيّتها بالفعل في بعض الأوساط، لكنّها قد تحوز شعبيةً في أوساط أخرى يُهمّه طروحاتها حول المرآة والملونين. على كُلٍ جميع المرشحين يضعون الأمن القومي العربي خدمة لأمن الكيان الصهي.وني وملالي طهران.