التاريخ، كما يقول المثل المألوف، لا يتكرر، لكنّ قوافيه تتردد في بعض الأحيان. هل تفرض الأزمات في غزة وأوكرانيا “لحظة سويس” على الولايات المتحدة -بحيث تردد أحداث 2022-2024، صدى أحداث 1956-1957؟
شهد شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1956 أزمتين دوليتين كبيرتين. في ذلك الشهر، شنت إسرائيل هجومًا على مصر من أجل إعادة فتح قناة السويس التي كان قد تم تأميمها. وبالتنسيق مع هذا العمل، شنت فرنسا والمملكة المتحدة هجومًا للإطاحة بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، القومي العربي القوي. وفي الشهر نفسه، أرسل الاتحاد السوفياتي دباباته لقمع “الانتفاضة المجرية” والحفاظ على سيطرة قوية في مجال مصالحه الحيوي.
وبالقفز قُدمًا سبعة عقود إلى الأمام؛ في شباط (فبراير) 2022، أرسلت روسيا دباباتها إلى أوكرانيا، المتاخمة للمجر، ظاهرياً لمنع أوكرانيا من أن تصبح عضوًا في حلف “الناتو”، الأمر الذي تعتبره روسيا تهديدًا لأمنها القومي. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بينما كانت الحرب الروسية الأوكرانية مستعرة، بدأت إسرائيل عملية عسكرية على غزة، التي كانت حماس قد شنت منها هجومًا (إرهابياً).
ومع ذلك، كان دور الولايات المتحدة في الأزمتين التوأمين في الفترتين مختلفًا اختلافًا جذريًا. في العام 1956 أدانت إدارة أيزنهاور كلتا “الغزوتين”، بل وهددت بفرض عقوبات على فرنسا والمملكة المتحدة. وفي 2022-2024، تشكل الولايات المتحدة المزود الرئيسي للأسلحة لجانب واحد في كل صراع حالي، إسرائيل. كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية واسعة النطاق ضد روسيا. وفي كل من العامين 1956 و2024، تم تقييد الوصول الغربي إلى قناة السويس، بسبب السيطرة المصرية في الحالة الأولى، وعلى يد المتمردين الحوثيين المتعاطفين مع الفلسطينيين اليوم.
كان لأحداث 1956-1957 تأثير جيوسياسي عميق. فقد أشر انسحاب فرنسا والمملكة المتحدة من السويس على تراجعهما عن مكانة القوة الكبرى وشكل نهاية نفوذهما على بلاد الشام المستمدة من الانتدابات التي أدارتاها في المنطقة بتفويض من عصبة الأمم. كما عجل ذلك الحدَث بأزمة مالية أدت إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الجنيه البريطاني كعملة عالمية. وبالإضافة إلى ذلك، وضع العام 1956 الأساس لدور الولايات المتحدة كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط.
والآن، كما كان الحال قبل سبعة عقود، تهز الأزمتان المزدوجتان في 2022-2024 أسس النظام الدولي.
لا يمر دعم الولايات المتحدة الثابت لإسرائيل من دون تداعيات. من المؤكد أن صور الولايات المتحدة وهي تدلي بالأصوات السلبية الوحيدة -حق النقض- في مجلس الأمن الدولي، الداعمة لمواقف إسرائيل، لم تلق قبولاً جيدًا في الجنوب العالمي، كما هو الحال أيضًا مع شحنات الأسلحة الأميركية المستخدمة في العمل العسكري الإسرائيلي في غزة. ويشترك الكثيرون في الغرب أيضًا في هذه المخاوف. منذ 1 كانون الثاني (يناير) من هذا العام، انفصلت خمس دول في الاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة وانضمت إلى قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام “محكمة العدل الدولية” أو اعترفت بدولة فلسطين. كما أن المملكة العربية السعودية، التي كانت على وشك إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، بجهد دبلوماسي مكثف من الولايات المتحدة، تضع الآن إنشاء دولة فلسطينية كشرط مسبق لأي تحرك في هذا الاتجاه.
وتأتي الحرب بين روسيا وأوكرانيا بتداعيات بعيدة المدى أيضًا. بعد الحرب العالمية الثانية، مُنحت الولايات المتحدة “امتيازًا قيّمًا جدًا” يتمثل في تتويج الدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية. ومع ذلك، مع مرور الوقت، وبسبب اندفاعها المفرط منذ بدء الحرب في أوكرانيا، اتُّهمت الولايات المتحدة بـ”تسليح” الدولار ونظام المدفوعات بالدولار من خلال الفرض الكثيف للعقوبات الاقتصادية.
وعلى الرغم من أن حصة الدولار الأميركي من التجارة الدولية قد انخفضت تدريجياً على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، يعتقد معظم الاقتصاديين أن وضع الدولار آمن لبعض الوقت في المستقبل. لكن علامات التغيير واضحة. في الأسبوع الذي سبق كتابة هذه السطور فقط، أنهت المملكة العربية السعودية اتفاقها الذي دام خمسين عامًا لتسعير النفط بالدولار. وسيكون من الإفراط في الثقة بالنفس أن تأخذ القيادة الأميركية الأمور على أنها مسلّم بها. كان إرنست همنغواي قد كتب ذات مرة أن الكارثة المالية تحدث على مرحلتين، “تدريجياً، ثم فجأة”.
نتيجة لذلك، كان العالم غير الغربي يسعى بيأس إلى إطار عالمي بديل للحوكمة والتجارة والتمويل. وتشكل منظمة “بريكس” المظهر الأكثر وضوحًا، وإنما ليس الحصري، لهذه الرغبة. ويتم تقديم بنك التنمية الجديد لدول “بريكس”، والرغبة الطموحة في تأسيس عملة للـ”بريكس” (مدعومة بسلة من العملات أو الذهب)، والعديد من أنظمة الدفع البديلة الأولية لتحدي نظام “بريتون وودز” والدولار الأميركي وسويفت. وفوق كل شيء، تنتظر الصين في الأجنحة. وهي ليست الاقتصاد المهيمن في دول مجموعة “بريكس” فحسب، وإنما تنشط بشكل متزايد في إزاحة الولايات المتحدة، وهي وسيط قوة في الشرق الأوسط.
والسؤال المطروح في الوقت الراهن، بتأمل دروس التاريخ، هو ما إذا كانت الولايات المتحدة قد أفرطت في تمديد نفسها وبالغت في تقدير دورها إلى الحد الذي جعل التشابهات مع فرنسا والمملكة المتحدة تبدأ في الظهور؛ وبعبارة أخرى، هل تواجه الولايات المتحدة “لحظة السويس” الخاصة بها.
*ديفيد دبليو وايز David W. Wise: هو رجل أعمال متقاعد ينشر بشكل متكرر عن السياسة العامة. تخرج في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: America’s Suez Moment
المصدر: الغد الأردنية/ (ريل كلير وورلد)