في تيار ضمن النخب الليبرالية السياسية السورية، ليس الهدف نقد التاريخ العربي الإسلامي الذي لا يمكن أن يتم سوى بعقل موضوعي معرفي، ولكن إسقاط ذلك التاريخ بأسلوب سطحي اتهامي فارغ من المضمون، يحاول استثمار كل عوامل الانقسام الشاقولي في المجتمع، وطالما أن التاريخ هو الحيز الزمني لتشكل الرابطة العربية فإسقاطه هو المقدمة المنطقية لإسقاط تلك الرابطة. المسألة هنا لا تعود مسألة فحص معرفي نقدي ولكن مسألة حملة إعلامية تضع أمام الناس عناوين جاهزة تعفي صاحبها من أي جهد معرفي.
أحد مرتكزات الهجوم على التاريخ العربي الإسلامي (وليس نقده فالنقد عمل عقلاني معرفي) هو الهجوم على الفتوحات العربية الإسلامية بوصفها غزوا بربريا غايته السلب والنهب، فإذا كان الأمر كذلك فجميع ما نتج عن تلك الأعمال البربرية ينبغي أن يكون موضع إدانة، وهكذا يمكن القفز لإنكار أي معنى حضاري للحضارة العربية الإسلامية وتجريد أي انجاز فيها من هويته الحضارية العربية الإسلامية.
في هذا المقال بحث في كيف كانت أوربة تفهم مسألة الفتوحات وتتعامل معها خلال تاريخها الطويل وحتى الحرب العالمية الأولى.
حق الفتح في الفكر السياسي الغربي
يهدف المقال التالي الى توضيح أن النقد الذي يوجه حاليا للفتوحات العربية – الإسلامية يلغي عامل الزمن والمرحلة التاريخية من اعتباره، وهو يحاكم تلك الفتوحات بمعايير القرن الحادي والعشرين، وما توصلت اليه البشرية بعد الحرب العالمية الأولى وتم تكريسه بالقانون الدولي من احترام لحدود الدول وسيادتها، وإدانة للغزو والاحتلال، رغم أن ذلك المعيار قد تم خرقه بعد التوصل اليه في مرات عديدة منها الحرب العالمية الثانية، وآخرها كان غزو العراق عام 2003 وتدمير جيشه ودولته دون مبرر.
ان ادانة الفتوحات العربية – الإسلامية انطلاقا من معايير العصر الحالي تشبه ادانة دولة بعينها أو شعب بعينه لكونه كان يمارس الاستعباد والرق قبل 1000 سنة، في حين أن الرق كان مشروعا ومعترفا به لدى جميع شعوب الكرة الأرضية في ذلك الوقت، بل كان أمرا طبيعيا ومألوفا مثله مثل توظيف العمال اليوم. ويبين المقال التالي كيف أن الفكر السياسي الغربي تعامل مع ” الفتوحات” بوصفها أمرا مسلما به وغير خاضع للنقاش، وذلك من بداية عصر النهضة وحتى الثورة الفرنسية. ولولا الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها لما توصلت أوربة والبشرية لتحريم ” الفتوحات ” نظريا على الأقل.
لم يتطرق الفكر السياسي الغربي لموضوع ” الفتح ” أو ” الفتوحات” في نقدها بصورة جادة الا في القرن العشرين , حين بدأ يظهر القانون الدولي بعد الحرب العالمية الأولى وبدأ معه يتبلور مفهوم سيادة الدول واحترام الحدود وادانة الغزو , أما ماقبل ذلك فقد تناول المفكرون السياسيون في الغرب موضوع الفتح ليس من زاوية شرعيته أو ادانته , لكن من زاوية البحث عن طرق ادامته كما فعل ميكيافلي أو تخفيف وطأته على الشعوب التي هي موضوع للفتح وتقليم الجوانب الأشد وحشية فيه كما فعل مونتسكيو , أما في الأزمان القديمة فقد كانت القوة وحدها هي قانون العلاقات بين الدول , فلم يستنكر أحد الفتوحات بصفتها اعتداء غير مشروع من دولة على دولة ومن شعب على شعب , مثلما أنه لم يستنكر أحد نظام الرق الذي اباح استعباد الانسان للانسان ومعاملته كشيء من أملاكه يتصرف فيه كما يشاء تماما مثل كلبه أو فرسه , وذلك لآلاف السنين .
وفي شريعة حمورابي كان جزاء من يحمي عنده عبدا مارقا من سيده هو الموت , فأي احترام وتقديس لنظام الرق الوحشي أبعد من ذلك ؟
وقد تأثرت الشعوب الغربية المسيحية بالأفكار التوراتية حول حق الشعب المختار في امتلاك الأرض , بل وابادة شعوب أخرى في طريقه , حيث ورد في العهد القديم : ” متى اتى بك الرب الهك الى الارض التي انت داخل اليها لتمتلكها وطرد شعوبا كثيرة من امامك الحثيين والجرجاشيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب اكثر واعظم منك …… لكن الرب الهك يطرد هؤلاء الشعوب من امامك قليلا قليلا.لا تستطيع ان تفنيهم سريعا لئلا تكثر عليك وحوش البرية”
وقد ميز المؤرخون الفاتحين ليس بمشروعية حروبهم، لكن بصفاتهم السيئة أو الحسنة مثل وحشيتهم وافتقارهم للمبادىء الأخلاقية والدينية أو حملهم وتطبيقهم لتلك المبادىء , وأخيرا بما نتج عن تلك الفتوحات من اندماج للشعوب والثقافات وبناء حضارات جديدة أو من تدمير شامل وابادة وتهجير للشعوب .
الفتح في الفكر السياسي الغربي منذ عصر النهضة الأوربية
في كتاب الأمير لنيقولا مكيافلي / 1469 -1527 / م يناقش ميكيافلي في الفصل الثالث تحت عنوان ” الممالك المختلطة ” كيفية تمكين ” الأمير” من بسط سلطته وادامتها على الأراضي التي تم احتلالها وضمها لمملكته الأصلية فيذكر أن ذلك لايمكن أن يتم سوى بالحصول على حب الناس الذين جرى غزوهم ” لهذا السبب أيها الأمير ستكون في حاجة دائمة لحب الناس حتى تستطيع السيطرة على بلادهم مهما كانت قوة جيوشك “
صحيح أن المسألة التي يناقشها مكيافلي هنا هي كيفية ادامة حكم البلاد المفتوحة أو التي جرى ضمها حسب عبارة الكتاب وهي ليست البحث في حق الفتح , لكن من المفهوم أن الكاتب اعتبر ذلك ضمنا أمرا مشروعا , فهو حين يعطي نصيحته للأمير باسلوب حكم الأراضي المفتوحة , انما يعطي في الوقت ذاته له الحق في فتحها . أو أنه لايعتبر أن ذلك الحق موضع شك أو نقاش .
والأمر الآخر أن ميكيافلي يحاول انتزاع شرعية للفاتح من خلال طريقته في حكم البلاد المفتوحة ,فحسب رأيه فإن حب الناس للفاتح يعطيه الشرعية التي يحتاجها لتحويل سيطرته الى حالة دائمة .
وفي مكان آخر يقول ميكيافلي : ” وعندما يكون شعب الأراضي المفتوحة ( المضمومة) حديثا يتحدث لغة مختلفة وقوانينه وعاداته مختلفة …فأفضل الطرق وأكثرها تأثيرا هي أن يقيم الحاكم الجديد في تلك الأرض “
أما مونتسكيو / 1689 – 1755 /م فقد أفرد فصلا كاملا في كتابه الشهير “روح الشرائع” لمسألة ” حق الفتح ” .
بخلاف ما يمكن أن يتبادر للذهن من أن مونتسكيو سيناقش حق دولة من الدول أو شعب من الشعوب في ” الفتح ” فمونتسكيو لايقترب من تلك النقطة أبدا , فهو يبدأ بالقول إن ” حق الفتح مشتق من حق الحرب فهو تابع لها ” فما هو موضوع النقاش اذن في مسألة ” حق الفتح ” ؟
موضوع النقاش هو ماهي القوانين التي يفترض للفاتح التقيد بها من وجهة نظر ” فلسفتنا وأخلاقنا” في تعامله مع البلاد المفتوحة .
أي أنه يبدأ بالموضوع بعد أن ينهي الفاتح حربه وينتصر فيفتح البلد المغلوب , وهو ينطلق من تعريف ضمني للفتح يميزه عن مجرد الحرب بقوله : ” والفتح كسب وتحمل روح الكسب معها روح الحفظ ، لا روح الإبادة”.
ينتقد مونتسكيو بعض المفكرين الغربيين المتخصصين في الحقوق العامة الذين استندوا الى التاريخ القديم ويقصد به تاريخ الامبراطورية الرومانية وقوانينها الخاصة بالفتح , فافترضوا – كما يقول مونتسكيو – حقا للفاتح في القتل , وذلك خطأ كبير , فمن الواضح أن الفتح اذا تم لم يعد للفاتح حق القتل .لأنه لايستخرج من حق الفاتح في تقويض الدولة التي حاربها حقه في ابادة السكان المواطنين , فابادة الدولة شيء وابادة السكان المواطنين شيء آخر تماما .
ويتابع مونتسكيو : وقد استنبط السياسيون ( طبعا يقصد السياسيين في عصره ) حق الاستعباد من حق القتل في الفتح، غير أن النتيجة هي من الفساد كالمبدأ السابق .
ولا يجوز الاستعباد إلا عند ضرورة المحافظة على الفتح، وغاية الفتح هي المحافظة، وليس الاستعباد غاية الفتح مطلقًا، ولكن قد يكون وسيلة لازمة للحفظ .
فمونتسكيو اذ يستنكر حق الفاتح في ابادة الشعب المغلوب يقر حقه في الاستعباد عندما يكون الاستعباد ضروريا للحفاظ على السيطرة على البلد المفتوح , لكن يجب أن يكون الاستعباد أمرا طارئا , وأن يرفع عن شعب البلاد المفتوحة في أسرع وقت بعد مرور الزمن الكافي كي يلتحم سكان البلد المفتوح مع سكان بلد الفاتح من حيث العادات والقوانين وبعض الانسجام النفسي .
تلك آراء واحد من أعظم المفكرين السياسيين في أوربة ورائد عصر الأنوار , وملهم الثورة الفرنسية , وواضع كتاب ” روح القوانين ” الذي قيل فيه : على مدى أربعين عاماً منذ صدور روح القوانين، لم يقبل الناس على قراءة كتاب أكثر منه (المؤرخ الانجليزي إدوارد جيبون) .
روح القوانين هو أفضل الكتب بعد كتاب الأمير. (فردريش الأكبر، ملك بروسيا )
على مدى جيل واحد من الزمان، كان مونتسكيو، لا فولتير، هو صوت العقل وبطله في فرنسا (ول ديورانت، صاحب كتاب قصة الحضارة )
فماذا يعني ذلك ؟
يمكن الاستدلال على أن مفهوم الفتح أو ( الفتوحات ) أصبح مقترنا في ذلك العصر بالفتوحات الأوربية التي رافقت الثورة الصناعية في القرن االسابع عشر والثامن عشر والتي توجهت أساسا لآسيا وإفريقيا والمنطقة العربية وكذلك لاستراليا وأمريكا .
بالتالي فتلك الفتوحات أصبحت أمرا مسلما به بالنسبة للعقل الأوربي , وماهو موضوع للنقاش ليس مشروعيتها بل كيف نعامل شعوب البلاد المفتوحة كما يتضح من تفكير مونتسكيو .
روسو / 1712 – 1788 /م وحق الفتح :
تختلف مقاربة روسو لموضوع الفتح قليلا عما سبق , فهو في الفصل السادس عشر من كتابه ” العقد الاجتماعي ” يقرر ” أن الفتح لايستطيع بدون قبول الناس أن ينشىء مجتمعا جديدا” .
فهو لايدين الفتح بوضوح لكنه يضع شرطا له إن كان ذلك الفتح سيسفر عن مجتمع جديد وبكلام آخر إن كان ذلك الفتح مبررا من وجهة نظر المستقبل وهذا مما لم يقله روسو صراحة .
لكن روسو يعود ليناقش المسألة من وجهة النظر المبدئية الخطيرة التي ابتعد عنها مونتسكيو وهي مشروعية الفتح وعدم مشروعيته ليس من وجهة نظر المستقبل بل من وجهة نظر القيام به أصلا .
وهنا يضع روسو المسألة في إطارين مختلفين , فإما أن يكون الغازي ظالما يغزو بفعل القوة فما على البلد الذي وقع عليه الغزو سوى اللجوء الى ( عدالة السماء ) وكما يقول : ” فطالما أن المهزومين في الحرب أو أبناءهم ليس لديهم قاض أو حكم على الأرض يلجؤون اليه فعندئذ لهم أن يلجؤوا الى السماء ويكرروا دعواتهم حتى يستعيدوا حق أسلافهم .”
ومن يتأمل مغزى ما يقوله روسو سابقا لابد أن يصل الى أن روسو لايحب أن يقف موقف المندد القوي باستخدام القوة في الفتح بدافع التوسع , فكأنه يقول للشعب المغلوب : سلم أمرك لله واقبل بحكم القوة فهكذا هي الحياة . لكن روسو ينهي تلك الفقرة بأن” من يغزو في حرب غير عادلة لاسند له من هذا الغزو يوجب له خضوع المهزوم وطاعته ” فيا أيها المنتصر الغازي لاتتوقع مني أن أعطيك حقا قانونيا في استعباد المهزوم أي أن الأمر متروك لقبول المهزوم بهزيمته وتسليمه للمنتصر ويعيدنا ذلك للقول : أن الفتح لايستطيع بدون قبول الناس أن ينشىء مجتمعا جديدا .
أما الاطار الآخر للمسألة فهو غريب نوعا ما , فروسو هنا ينطلق من فرضية أن الجانب الذي على حق هو المنتصر ! لكننا ياسيد روسو لانناقش هنا الحرب بل ( الفتح ) فهل نسيت ذلك ؟
وفي الحرب يمكن لك أن تقول إن هذا الجانب على حق , وذلك الجانب على باطل , لكن الفتح ليس الحرب , فالفتح هو أن يعمد جيش الى تدمير جيش دولة أو بلد آخر بغرض فرض سيادته عليه والحاقه بدولته فكيف يكون المنتصر هنا على حق ؟
والمفارقة أن روسو حين افترض أن المنتصر في الفتح على حق فتح الباب أمام مناقشة حقوق المشتركين مع الغازي في الغنائم والميزات الأخرى التي يتمتع بها الفاتح ومنها منحهم جزءا من البلاد المفتوحة واعتبارهم مواطنين لهم كافة الحقوق في البلاد التي شاركوا في فتحها وليس مجرد رعايا أي لايمكن جعلهم متساوين مع أهل البلدان المفتوحة .
ويتوسع روسو في نوع السلطة التي يكتسبها الغازي ( المظلوم صاحب الحق!!) المنتصر في حرب مشروعة على المهزومين فيقول إن له سلطة مطلقة على حياة من شارك في الحرب ولكن ليس على حياة من لم يشارك في الحرب , أما الشعب المهزوم العادي ممن لم يشترك في الحرب فيجب عدم اعتبارهم مذنبين فهم لم يفوضوا سلطتهم بالحرب وهم أبرياء .
واذا كان للمنتصر السلطة التامة على حياة من اشترك في الحرب أي الحق في اعدامهم أو استعبادهم حسب روسو لكن ليس له السلطة على مصادرة ممتلكاتهم وأموالهم الا بقصد تعويض الأضرار وتكاليف الحرب , وليس له كذلك المس بعائلات المحاربين . وعلى الغازي المنتصر أن يراعي ضرورات ابقاء شيء من الأرض أو الثروة الحيوانية وما يماثلها للشعب المهزوم حين يصادر ما يحق له كتعويض عن تكاليف الحرب
ويذكرني ماقاله روسو عن حق الغازي المنتصر في طلب التعويض من البلد المهزوم مقابل تكاليف الحرب بما طلبه القائد العسكري الفرنسي بعد معركة ميسلون من مبالغ مالية من الحكومة السورية كغرامة حربية .
يتضح مما سبق أن ثلاثة من أعظم المفكرين السياسيين الأوربيين وهم مكيافلي ومونتسكيو وروسو في حين أنهم اهتموا بكيفية ادامة السيطرة على البلدان المفتوحة , وادخال تعديلات على المفاهيم القانونية الرومانية لحقوق الفتح لجعلها أكثر انسانية وأقل قسوة , فهم تركوا الباب مفتوحا أمام محاكمة ” الفتوحات ” ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة في كون الغزو بقصد تدمير الدول وضمها والسيطرة على مواردها هو عمل خارج عن الأخلاق والقيم الانسانية .
وكان على الانسانية أن تنتظر أكثر من مئة سنة أخرى وأن تخوض حربا عالمية لتبدأ مفاهيم مثل سيادة الدول واحترام الحدود , وادانة وتحريم الغزو في الظهور جنبا الى جنب مع ظهور الهيئات العالمية كعصبة الأمم المتحدة .
المصدر: صفحة معقل زهور عدي