بشكل غير رسمي، بدأ السباق الانتخابي في تونس، وكأننا أمام حصص الإحمائية/ الحمائية التي تسبق المقابلات الرياضية، حصص يُعزّز فيها المتنافسون لياقتهم البدنية والذهنية، فضلاً عن اكتشاف الميدان، ومختلف العوامل التي قد تكون محدّدة في السباق. وفي كلّ الحالات، ثمّة حالة من القلق تساور الجميع، خصوصاً ذلك المشهد الذي يقع خارج ميدان اللعب؛ الجمهور والعوامل المثارة الأخرى، على غرار حالة الطقس، والتشكيلة، وتقنيات المراقبة، فضلاً عن إصابات آخر لحظة، التي تُقصي بعض اللاعبين المُهمّين… إلخ.
السباق الانتخابي لا تحدّده، حتّى في ظلّ أكثر الأنظمة ديمقراطية ونزاهة انتخابية، ما ستبوح به أسرار صناديق الاقتراع. تلك الصناديق ستكون شفّافة، تصون إرادة الناخبين. ولكن ثمّة أشياء أخرى لا يمكن أن نتحكّم فيها تماماً. إنّها لعب على تفاصيل صغيرة قد تكون محدّدة في آخر اللحظات، كم من كلمة لم تكن في مكانها قالها مُترشّح أثناء آخر مناظرة انتخابية وكانت حاسمة في تعزيز ثقله الانتخابي، أو في تنفير الناس منه! وكم من حركة أو نظرة أو خبر سرّب، أيضاً، في الأمتار الأخيرة عن علاقة ما تربط هذا المُرشّح أو ذاك بأشخاص ما! بذكريات ما عن طفولة اختفت، أو وثيقة خالَ الجميع أنّها قُبِرَت كانت مُحدِّدة للمآلات.. هذه التفاصيل تصنع أحياناً الفارق الانتخابي.
أمّا في الانتخابات التي تجري تحت أنظمة تسلطية أو شبه ديمقراطية، تظلّ التفاصيل، أيضاً، مُرتبطة بالمناخ الانتخابي العام، فلا تزيّف الانتخابات بشكل مباشر، عادة، إلّا نادراً، ثمّة “ذكاء انتخابي” يزهد في التزييف المباشر لصناديق الاقتراع، أو التلاعب بالنتائج. يبدو أنّ هذا عصر ولَّى وانقضى، حتّى في أشدّ الأنظمة ديكتاتورية، التي تَعمَدُ في أحيان كثيرة إلى تجنّب المرور بهذه التجربة الفاضحة، يختار بعضهم، بناء عليها، تأجيل الانتخابات لدواع وطنية، أو حذفها من القواميس السياسية، تحت مبرّرات عديدة. أمّا في تونس، فإنّ الأمر لم تتّضح ملامحه بعد، ولا أعتقد أنّ الرئيس قيس سعيّد سيعمد إلى إلغاء الانتخابات أو تأجيلها إلى أجل غير محدّد، فما زال يُردِّد أنّه رئيس ممتلئ شرعية ومشروعية، ودليل ذلك أنّه صعد إلى سدّة الرئاسة بعد انتخابات شفّافة ونزيهة، لم يشكّك فيها أحد (رغم أنّه في مفارقة مُحيّرة كان أول من شكّك فيها، إذ يذكّرنا باستمرار أنّ الانتخابات السابقة التي فاز فيها كان المُحدّد فيها المال والإعلام الفاسدين).
أثارت، خلال الأسبوع الفائت، تصريحات نائب رئيس الهيئة العليا المُستقلّة للانتخابات، محمد التليلي المنصري، ردَّات فعلٍ عديدة، وهي التي تفيد بأنّ جملة من التعديلات قد طرأت على القانون الانتخابي الذي يفترض أن تجري وفقه الانتخابات الرئاسية. وبغضّ النظر عن دقّة ما نقل عنه، فإنّه قد أفصح عن مواعيدَ ثلاثة مُقترَحة لإجراء الانتخابات الرئاسية تلك، كلّها في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، الشهر الذي جرت فيه جُلّ انتخابات حقبة ما بعد الثورة. ثمّة تشبثّ ما بذاكرة الانتخابات تلك، التي أتت، أيضاً، بالرئيس قيس سعيّد ذاته، ولو كانت سابقة لأوانها، فلقد رحل الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي قبل أن ينهي عهدته. اللعب على ذاكرة الانتخابات وزمنها مُهمّ جداً في سياق يبدو معه أنّ الناخب التونسي إمّا أصيب بحالة استنزاف انتخابي أو سأم الانتخابات كلّها، وهي التي لم تغيّر حياة الناس تقريباً. كان سعيّد وفيّاً لنفسه، فلقد التزم خلال حملته “الانتخابية”، التي يرفض أن يسمّيها كذلك، مختاراً لفظ “حملة تفسيرية”، إذ لم يتعهّد الرجل مطلقاً بأي شيء ولم يعِد ناخبيه بشيء، بما فيه المحاسبة مثلاً أو تطهير القضاء… إلخ.
لقد رفض أن يُقدّم برنامجاً انتخابياً وزهد في تسلّم مستحقاته من المال العمومي لتنظيم حملته. ومع ذلك، علّق عليه ناخبوه كل آمالهم، على شاكلة مصباح علاء الدين أودع الناس فيه كلّ شهواتهم وأمنياتهم، وتلك هي حكمة صمته الانتخابي، وتفضيله الاستماع إلى شكاوى الناس في المقاهي والساحات العامة، التي زارها من دون بهرج. ومع ذلك، فإنّ كثيراً من سحر الرجل زال وتبخّر بعد خمس سنوات من الحكم، فلئن لم يعِد بشيء فإنّ الناس لم يحقّقوا أيّاً من آمالهم التي علّقوها عليه، بل ساءت حالهم في أحيانٍ كثيرة؛ ارتفاع الأسعار، التضخّم، البطالة، اختفاء مواد غذائية أساسية… إلخ.
يؤكُّد الرئيس سعيّد في تصريحاته العديدة أنّه لن يكون ديكتاتوراً في مثل سنه هذه، ولكنّه يقول، أيضاً، في التصريحات ذاتها، إنّه لن يسلّم البلد لمن هو غير وطني. “لن” الزمخشريّة هذه مقلقة ومفزعة، ولكن، في كلّ الحالات، قد تكون مُخملية، أي مقبولة أخلاقياً حين يتمّ تضمينها في قانون انتخابي حتّى تغدو شرعية ومشروعة؛ حين نطالع تصريحات نائب رئيس الهيئة، وبعض التسريبات الأخرى، ينتابنا القلق وتساورنا بعض الشكوك. ربّما قد تتغيّر قواعد اللعبة الانتخابية في آخر الأمتار، ممّا يضمن أن يكون الرئيس فائزاً قبل الأوان. الأسابيع المقبلة قد تزيل اللثام عن هذا الطارئ الانتخابي.
المصدر: العربي الجديد