ما الذي يبقى من الأنتلجنسيا، في بلد متأخر، إذا تخلّت عن وظيفتها النقدية؟ وماذا يمكن لشعب كالشعب العربي، أن يفعل إذا تخلت أنتلجنسياه عن هذه الوظيفة؟
تمهيد
استكمالًا لمقالة سابقة “النخب وبناء الأمة السورية”، كانت قد نُشرت في 7 شباط/ فبراير 2021، أحاول هنا مناقشة فكرة إمكان السير خطوة في طريق صناعة نخب سورية فعلية على أرضية الوطنية الديموقراطية السورية المأمولة، ولا سيَّما بعد مشاركتي في النقاش المحرِّض للتفكير في “ندوة وطن” حول الموضوع ذاته.
في البداية لا بدَّ من التأكيد أنَّه ليس هناك حلٌّ سريع للمعضلة السورية، ومن يقل غير ذلك واهم أو غير صادق، ولا سيَّما إذا اتفقنا أن هذه المعضلة باتت أبعد كثيرًا من سلطة ومعارضة أو ثورة ونظام. وما دامت كذلك، فإنَّ الحلول المؤقتة المعروضة، أكانت من السلطة السورية أو المعارضات السورية أو الناشطين أو الدول العربية والإقليمية والدولية، لا قيمة لها، كونها مبادرات هشَّة وتتعاطى مع الواقع السوري جزئيًا ولا تصل بنا إلى بناء الدولة الوطنية الديموقراطية المبتغاة.
لا بدَّ من التنويه أيضًا إلى أنَّ كلمة “النخبة” لا تتضمن في حدِّ ذاتها مديحًا أو ذمًا، ولكنها تشير عمومًا إلى المؤثرين والفاعلين. إذ يمكن مثلًا أن نطلق على أصحاب القرار والسلطات تعبير “النخب الحاكمة أو المتنفذة”، ويمكن أن نستخدم تعابير أخرى على شاكلة “النخبة الأمنية”، و”النخبة المالية”، و”نخبة رجال الأعمال”، و”النخبة المرتبطة بالسياسات الإقليمية”، وغيرها، مثلما هناك تعابير أخرى مثل “النخب الثقافية” و”نخبة أهل الفن” وغيرها، لكن هذه النخب جميعها تشترك في سمة القدرة على التأثير في الواقع والبشر. النخب هي الأفراد (والجماعات أيضًا) الذين لديهم القدرة على صناعة الحدث والرأي، بصرف النظر عمّا إذا كانت صنعتهم تعجبنا أم لا، ولديهم القدرة على التأثير في الرأي العام، وفي مسار الواقع، أكان هذا التأثير إيجابيًا أم سلبيًا من وجهة نظرنا. إنَّ عملية تقديس الكلمات أو تدنيسها تدلِّل على ضحالة الفكر والتفكير، وهي طريقة سهلة للتعاطي مع الفكر والواقع يلجأ إليها فقراء الروح والعقل لستر عيوبهم.
ماذا في استطاعة السوريين أن يفعلوا في اللحظة الراهنة؟ في اعتقادي، إن أهمَّ ما يمكن فعله هو الاندراج في مبادرات تأسيسية طويلة المدى، وهذه مؤيدوها قلائل ومكروهة، ربما لأن الأغلبية تطمح إلى إنجازات سريعة من جهة، وتميل باتجاه الأعمال السهلة الموسمية التي لا تتطلب عملًا حقيقيًا جادًا ومتواصلًا من جهة أخرى. هنا يمكن طرح السؤال البديهي: ماذا أنجز أصحاب السرعة طوال ثلاثة عشر عامًا؟ في الحقيقة لم يثبُت من أعمالهم وحركتهم شيء في الواقع؛ فكلُّ عملية كانت ترفع شعار توحيد “المعارضات السورية” مثلًا انتهت بمزيدٍ من التشظي، وكلُّ مبادرة ارتكزت على توازنات إقليمية دولية مؤقتة مثلًا كان مصيرها التبخّر والنسيان.
مشروعية تخليق النخبة ومسوِّغاته
يمكن توصيف الواقع السوري البائس بطرائق شتى، وفي مستويات عديدة، لكن لا يخفى على أحد مدى قساوته ومرارته واستعصائه. ومع ذلك، فإنَّ ظواهر الخراب الاقتصادي والعمراني وتهشّم علاقات سوريا الإقليمية والدولية يمكن ترميمهما أو إعادة بنائهما على أسس جديدة مستقبلًا إذا ما توافرت مقوِّمات بناء شعب ووطن ودولة، وهذه تحتاج إلى نخب سورية، سياسية وثقافية وإعلامية ودينية وعسكرية واقتصادية، يمكنها تصنيع هذه المقوِّمات تدريجًا في ظلِّ الواقع المعقد. ولذلك، تبقى النقطة المحورية والحاسمة التي قد تكون مصدر أمل أو بؤس للسوريين هي وضعية النخب السورية؛ ففي غياب الدولة السياسية، تُناط بهذه النخب مهمات عديدة، ويقع على عاتقها إلهام السوريين وبلورة جنين دولة مأمولة.
من علائم غياب أو بؤس النخب السورية: غياب التوافقات الوطنية العامة، وغياب الرأي العام السوري، وغياب السردية السورية لمصلحة سرديات متنوعة، أو في الأحرى غياب الحكاية السوريّة التي تلهم المخيال الوطني وتصنعه. لا توجد سردية سورية بل سرديات أكانت تتعلق بالثورة أم النظام، وحتى سردية الثورة أصبحت سرديات. ونضيف أيضًا: غياب طبقة سياسية ثقافية متماسكة أو حقل سياسي ذي ملامح محدَّدة، وغياب طبقة اقتصادية برجوازية وطنية متضامنة ومتعاضدة، وغياب جماعة سورية دينية تنويرية، أي جماعة تنطلق من سوريتها أولًا وباتجاه تنويري متوافق مع العصر والحاجة والهدف ثانيًا. كيف يمكن أن يُبنى وطن ودولة في ظل هذا الغياب لجميع ما سبق؟! كيف يمكن إلهام الشعب السوري وإعادة تخليقه؟!
إنَّ وجود نخبة يعني وجود نسق متماسك، ولا يُختزل هذا الوجود في أفراد نخبويين معزولين يغني كلٌّ منهم على ليلاه. وهذا النسق لا يعني بالضرورة وجود إطار تنظيمي بل يعني في الجوهر أنَّ هؤلاء الأفراد يحرثون بصورة متنوعة لكن في اتجاه واحد نحو الأمام حصرًا، أي في اتجاه حداثي متوافق مع روح العصر وعقله بالضرورة.
لعلَّ أهم ما ينقصنا، وما نحتاج إليه فعلًا، هو “تصنيع أو تخليق نخبة سياسية ثقافية” ذات دور إيجابي، نخبة خارج التقسيمات الطائفية والإثنية، وخارج تقسيمات السلطة والمعارضات السائدة، وبعيدًا من تصنيفات الثورة والموالاة، وخارج دائرة المحاور الإقليمية والدولية. ومن ثمّ فإنَّ القاعدة الأساسية التي تنطلق منها عملية تخليق النخبة المطلوبة هي التوافق على سوريا المأمولة، حتى لو اختلفت سردياتنا ومواقفنا في سوريا الماضية؛ أي تجاوز الحساسيات والانقسامات الماضية لمصلحة بناء نخبة على قاعدة سوريا المأمولة؛ الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة، ولا يُستبعد من هذه العملية إلَّا المتهمون بجرائم القتل والفساد المثبتة من قضاء محايد ومستقل أو من جهات موثوقة ونزيهة.
منذ زمن ليس بقليل، ربما منذ أواسط 2012، لم تعد المعادلة المسيطرة في الواقع السوري معادلة سلطة-معارضة أو معادلة ثورة-نظام حاكم، على الرغم من الدور المحوري المؤذي الذي ما زال فاعلًا بالطبع للسلطة القائمة، لكن هذه الأخيرة ما عادت الجهة الوحيدة التي تتحكم في واقع سوريا ومستقبلها، وما عادت الجهة الوحيدة التي ارتكبت جرائم في حقّ سوريا وشعبها أيضًا. هذا يعني أن مستقبل سوريا ما عاد متوقفًا على نتائج صراع السلطة والمعارضات/ أو الثورات السورية، ولا على الصراع الإقليمي الدولي في سوريا وحسب، بل على إمكان أو عدم إمكان تخليق الشعب السوري الذي تهشَّم خلال السنوات الماضية. هذه المهمة هي مهمة الدولة عادة، الدولة القوية والحديثة والقادرة على تشكيل بؤرة استقطاب للبشر. لكن الدولة غائبة، وفي غياب هذه الدولة وتمزّقها وضعفها وعجزها، لا تتوافر حتى الآن أطراف سياسية (مجتمع أو حقل سياسي سوري) قادرة على (أو مؤهلة لـ) تشكيل بؤرة الاستقطاب هذه. هنا تأتي أهمية تخليق هذه البؤرة، أي تصنيع النخبة على المستوى السياسي الثقافي على أقل تقدير.
تخليق النخبة الثقافية السياسية؛ هل هو وهم؟
ينظر كثير منا بتوجّس إلى مسألة تخليق النخبة وتصنيعها، وهو توجّس مشروع. وتتلخص فكرة المتوجِّسين بأنَّ عملية التصنيع هذه وهمٌ تدفع إليه إرادوية عالية لا ترى الواقع، لأنَّ النخب ابنة الواقع الذي تعيش فيه، وهي نتاج تراكم مجتمعي، ولا يمكن القفز فوق الواقع وأحوال المجتمع.
نعم هذا صحيح، لكنَّه منظور أحادي البعد لأنَّه يغفل إمكان أن يستطيع المثقفون والسياسيون التأثير في مجتمعهم بدرجات معينة نحو الأمام في حال توافقهم وتعاونهم وتنسيق عملهم، ما يعني حينذاك حدوث تغيّر نسبي في الشرط الموضوعي ينعكس بالضرورة على أداء النخبة، وهكذا. هناك إرادة مطلوبة في هذا النوع من العمل، لكنها ليست من النوع الذي يقفز فوق الواقع والتاريخ ويتجاوز قوانينهما ومعطياتهما. إنها من النوع الذي تُحفِّزه مخاطر الواقع على الأفراد والجماعات في آنٍ معًا، وتدفع إليه حاجات البشر وآمالهم في لحظة ما، ويتحدَّد مداه عبر تحديد حدود الحركة التي يسمح بها الواقع في كلِّ لحظة.
آلية تخليق النخبة ومعاييرها
يحتاج تخليق نخبة سياسية ثقافية بالمعنى الإيجابي المأمول إلى ورشة عمل مفتوحة، تواصلية، مستمرة، تناقش موضوعات حيوية في الفكر السياسي مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالتجربة السورية والحاجة السورية. عملية دينامية تولِّد نفسها بنفسها، وتجدِّد نفسها عبر التفكير النقدي الذي هو سمة رئيسة من سمات المنخرطين في هذه الورشة. التفكير النقدي هو أخصُّ خصائص المثقف.
لا يوجد فرد أو طرف هنا تُناط به عملية التصنيع، فهذه العملية المستمرة تُبلور نفسها بنفسها تدريجًا مع الحوار العميق والتراكمي، وتُطوِّر نفسها بنفسها بفضل التفكير النقدي الذي يمنع تسقيفها ووضع نهاية لها لأنَّ جوهرها هو المسعى التدرّجي والدائم والتراكمي للتقدم نحو الأمام. لكنها تحتاج في المقابل إلى مبادرة من عدد من الأفراد الذين في إمكانهم برمجة الحوار ورصده وتنظيمه واستخلاص نتائجه وتعميمها.
كثيرًا ما كان يتردَّد تعبير “النواة الصلبة” على ألسنة السوريين طوال السنوات الماضية، لكن كلما اجتمع عدد من الأفراد لتكوين هذه النواة يتبيَّن سريعًا أنها نواة هشة، فينفرط عقدها بالسهولة ذاتها التي شُكِّلت فيها. فالصفات التي يجري اعتمادها لبناء هذه النواة بسيطة وسطحية، وهي أقرب إلى عقلية الحارة لا السياسة والثقافة؛ مجموعة من الأفراد الطيبين، المنسجمين، الذين يحب بعضهم بعضًا، لكن سرعان ما يظهر أنَّهم ليسوا كذلك. هل يحدث ذلك لأنهم أشرار؟ بالطبع لا، بل لأنَّ آليات ومعايير الاختيار خاطئة.
لا بدَّ لعملية التخليق هذه أن تدمج في داخلها أجيالًا جديدة يتوافر لديها حدٌّ أدنى من الاطلاع والصفات الشخصية، ليتمَّ تدريجًا إحلالها محلَّ الأجيال القديمة، وهذا جزء حيوي يتوافق مع فكرة توليد النخبة لنفسها بنفسها وقدرتها على تحقيق النمو والاستمرارية.
وعند الحديث في المعايير الضرورية واللازمة لاختيار الأفراد الذين سيدخلون في حوار تواصلي مستديم لتخليق النخبة، يمكننا تحديدها عمليًا عبر استبعاد الصفات والعقليات التي تشكِّل عائقًا أمام هذا النوع من الحوار. يمكن القول إن هناك عددًا من العقليات العقيمة التي يشكل وجودها إعاقة لهذا التخليق؛ العقليات السياسية فقيرة الثقافة، عقلية الموظف الإداري “التكنيكي” التي لديها هوس بالأشكال التنظيمية، العقليات اللاهثة وراء الإعلام والاستعراضات والثرثرات والمعارك الصغيرة، العقليات الشعبوية التي تنشد التصفيق الجماهيري وتُقدِّس الجماهير وتجعل من رأي البشر بوصلتها، العقليات التي تمارس الشحادة والشكوى على أبواب سفارات الدول، العقليات الحالمة التي ما زالت عند معطيات عام 2011، العقليات الأيديولوجية (الإسلامية واليسارية والقومية) التي لديها وهم تخليق الواقع على صورة أيديولوجياتها المغلقة، العقليات الحاقدة أو التي يُحرِّكها الحقد (قد يكون الحقد مشروعًا لكنه ضار في السياسة وبناء الأوطان)، العقليات التي لا تمتلك سمات الصبر والنفس الطويل ولا تؤمن بالتراكم، العقليات الموتورة والعصابية والعدائية، فعمليات التفكير والتفكُّر والتفاكُر تحتاج إلى شيء من السلام الداخلي عند المرء؛ الأرواح الموتورة والعصابية متمركزة حول ذواتها، وممتلئة بضجيج داخلي يمنعها من الإنصات والتفاعل مع الآخر، ولا تنفع في العمل الجماعي/ المؤسَّسي.
مهمات أساسية
هناك جملة من المهمات التي ينبغي أن تتنطع لها النخب الثقافية والسياسية في سياق حوارها الدائم، وإن هي نجحت فيها سيكون أمامها سؤال البحث عن كيفية تعميمها وإقناع السوريين بها، ومنها:
1– إعادة تعريف المواطن السوري والشعب السوري والدولة السورية في ضوء الحاجات الراهنة والآمال المستقبلية.
2– بناء الخطاب الثقافي السياسي الذي يصلح لأن يُوجَّه إلى خمسةٍ وعشرين مليون سوري وسوريّا. ووضع مرتكزات ومحدِّدات لخطاب سياسي إنساني، ووطني، وديمقراطي، وعقلاني، ومسالم، في الداخل، وفي العلاقات الإقليمية والدولية، بعيدًا من الذم والمدح والكراهية والصراخ والعويل.
3– بناء الحقل السياسي السوري، المشبع تمزيقًا وتشظيًا، استنادًا إلى مدونة سلوك سياسية تحدِّد المحرمات. لا ممارسة سياسية صائبة من دون حقل سياسي وطني عام وعمومي له قوانينه. لا توجد لعبة رياضية من دون حكم أو من دون قواعد تضبط اللعب وتحدِّد ما هو مسموح وغير مسموح. التعدّدية السياسية والثقافية لا قيمة لها في ظل غياب القواسم المشتركة والعناصر التوافقية الجامعة. نحتاج إلى “حَكَم” في الساحة السورية؛ حَكَم يحكم ويُحاكم بصورة عقلانية، واستنادًا إلى جملة من النواظم والمعايير وثيقة الصلة ببناء الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة. هذا ينقل ممارسة السياسة من ميدان الممارسة التجارية القائمة على اللعب بالبيضة والحجر والصراخ والشعارات السطحية والتكتيكات الفارغة والتزاحم على هامش الطريق وانتقاء الأعمال السهلة إلى ميدان ممارستها بوصفها صناعة وتصنيع، أي كعمل بنَّاء للشعوب والدول والأوطان.
4– اكتشاف الكلمة السحرية، وبناء المخيال الوطني العمومي: السحر هنا شيء آخر غير الوهم. هذا السحر قد يكون كلمة أو جملة أو صورة أو أغنية أو قصيدة أو خطابًا سياسيًا أو إبداعًا ثقافيًا أو غير ذلك، والغاية هي اكتشاف ما يُلهم البشر ويحفِّز هممهم ويقلِّص تباعدهم. عندما نأتي على ذكر لبنان سنأتي على ذكر فيروز حكمًا؛ اختلف اللبنانيون إبان الحرب الأهلية على كلِّ شيء لكنهم لم يختلفوا على فيروز.
5– تخليق الرموز الصوَريّة والشعارات: الساحة السورية متخمة بالصور والرموز والشعارات؛ كثير منها يزيد من الانقسامات السورية ويعمِّقها (بعضها طائفي أو إثني أو ديني)، وأغلبها لا يبعث على الاطمئنان في الداخل ويثير الرعب في الخارج، ومعظمها يتّسم بالحمق والغباء، ويفتقد إلى البعد الجمالي المريح بصريًا وسمعيًا وروحيًا. للرموز والشعارات أهمية كبرى في حياة البشر، فهم ينقسمون على أساسها، ويميِّزون أنفسهم بها، حتى لو كانوا لا يعرفون مضامينها ومدلولاتها وأبعادها.
6– الإجابة عن سؤال الثقة: الثقة مفتقدة اليوم في الميادين كافة، وعلى المستويات جميعها. ليست هناك ثقة بجميع سلطات الأمر الواقع، ولا ثقة بالسياسيين والمثقفين والاقتصاديين والعسكريين، ولا بغيرهم، وهؤلاء جميعهم لا يثق بعضهم ببعض؛ كيف يمكن بناء الثقة، ما الأفكار والآليات والأدوات والخطوات اللازمة؟ هذا سؤال محوري ومصيري ليندرج البشر في عملية التغيير، ويشاركوا فيها بفاعلية.
أفكار خاطئة وأخرى للانطلاق
مساحة الأفكار الخاطئة على المستوى الفكري السياسي واسعة جدًا في حياتنا، بحسب اعتقادي، لكنني أذكر منها هنا الآتي بحكم تأثيرها في أي عمل يُراد له أن يصبَّ في مصلحة سوريا والسوريين:
1– الانطلاق من فكرة أنَّ الثورة السورية، على الرقم من افتتاننا بإشراقتها الأولى ومطالبها المحقّة آنذاك، واستمرار مشروعيتها إلى اليوم من حيث أهدافها وحسب، إلَّا أنَّها قد أصبحت وراءنا منذ زمن، وأنَّ ما بين أيدينا هو سوريا المحطمة سلطةً ونظامًا ودولةً وشعبًا ومعارضةً وثورةً وحقلًا سياسيًا وثقافة واقتصادًا. هيستيريا الصراخ بأنَّ الثورة مستمرة تزيد الطين بلة.
2– استمرَّ “النظام السوري” لنحو نصف قرن بقوة القمع لكن ليس بالقمع وحده إذا أردنا أن نكون منصفين حقًا. فإلى جانب التوازنات الإقليمية الدولية التي نسجها جيدًا، كان النظام يحقِّق ملاذًا اقتصاديًا وأيديولوجيًا لقطاعات واسعة من السوريين. لكنَّ النظام منذ 2011 وحتى اليوم مستمر بالقمع وبإخفاق السوريين على إنتاج بديله المقبول داخليًا وخارجيًا، فضلًا عن دور شركائه الإقليميين والدوليين. التغيير الانقلابي في سوريا وهم، وفي غيرها أيضًا، فالأيديولوجيات والعقائد والأنظمة السياسية لا تموت بالسكتة القلبية. إنَّ جزءًا من النظام موجود في السوريين على المستوى العقلي، وسيبقى إلى أمد يتوقف على تطور وعيهم وشجاعتهم.
3– لم يكن النظام السوري وحده مسؤولًا عن أحوال السوريين قبل 2011، فالسوريون مسؤولون أيضًا بأشكال ومستويات متنوعة. النظام هو المسؤول الرئيس عن الخراب بعد 2011، لكن هذا لا يعني أن السوريين غير مسؤولين أيضًا، بدرجات متفاوتة، عن مآلاتهم وأحوال بلدهم. ألم يتيقَّن السوريون مثلًا أنَّ “القوى السياسية المعارضة” لا تختلف كثيرًا عن حزب البعث؟ وأنَّ خطر الجماعات الأيديولوجية (ولا سيَّما الدينية والقومية) يماثل خطر النظام؛ معظم القوى والفصائل مثلًا فرطت في الاستقلالية والقرار السيادي السوري؟ نتحدث هنا على مستوى العقل ونمط التفكير لا عن الجرائم المرتكبة التي يتجاوز النظام السوري فيها الجميع كمًا ونوعًا، لكن لننتبه أيضًا أن الجرائم هي ابنة العقل ونمط التفكير في الحصيلة.
4– إنَّ العمل الثقافي السياسي بدلالة السلطة القائمة وحدها قاصر لأنَّ نتيجته ستكون بالضرورة الانحشار في ما هو يومي وتكتيكي وآني وحسب، ما سيُفقده بعده النهضوي والتنويري والحداثي الذي يأخذ التأخر التاريخي لسوريا والمنطقة في الحسبان. من جهة أخرى، لم يعد مفهوما السلطة والمعارضة في الحالة الراهنة مفهومين بدلالات سياسية وحسب، بل إنهما توسّعا ليحملا مضامين اجتماعية ومناطقية وطائفية خطرة، ما وضع السوريين أمام حالة حادة من الانقسام والاستقطاب المجتمعيّين، فضلًا عن أنَّ مفهوم المعارضة ذاته قد أصابه تشوّه هائل أصبحت معه المعارضة “معارضاتٍ” تحمل مضامين مناطقية وقومية ودينية وطائفية أكثر كثيرًا من المضامين السياسية.
5– المبادرات التي تنطلق من مبدأ أو فكرة “اللمة” و”التجميع” و”الكثرة” و”الخليط” لا قيمة لها، وضررها أكبر كثيرًا من نفعها. هذه الأفكار السائدة منذ ثلاثة عشر عامًا أفكار بائسة وحمقاء؛ خليط من أيديولوجيات وأحزاب سياسية ومنظمات مدنية وعشائر وفصائل ومجالس محلية ومناطق ومستقلين و”شخصيات وطنية”… إلخ. هذه طبخة بحص “سمك، لبن، تمر هندي” لا تُؤكل وسامّة. لا بدَّ من القطع، وبصورة نهائية، مع هذه الأفكار الهزيلة والمدمرة. كثرة الأشكال التنظيمية والمبادرات والبيانات وتكاثرها دليل دامغ على الفراغ الفكري السياسي، وعلى التخبط والإخفاق.
6– المبادرات والأعمال التي تنطلق وعينها على فعل سريع في الواقع سترتطم بالحائط، ولن تتقدم خطوة نحو الأمام. معيار الزمن هو زمن إنضاج الأفكار والأعمال الضرورية وليس زمن الاستجابة لضغط الواقع أو للتقديرات الذاتية أو للرغبة في الإعلان عن إنجاز ما.
7– من المقولات والبدايات الخاطئة: “جميع الأوراق التي أصدرتها المعارضات متماثلة”، “نحن متفقون على الأساسيات”، “هناك أهداف مشتركة جامعة”، “المهم أننا متفقون على إسقاط النظام السوري”. هذه التعابير، وما يماثلها غير صحيحة. لدينا رغبة عارمة في الاتفاق لكننا لسنا كذلك؛ فنحن لسنا متفقين بل متواطئون، نخفي خلافاتنا لفترة لكنها تعود وتظهر بصورة انفجارية في مرحلة لاحقة.
8– نحن مختلفون حول قراءة الواقع وتشخيصه وتحليله على المستوى الداخلي والإقليمي والخارجي، وهذا يعني بالضرورة أننا مختلفون حول آليات التعاطي معه ومعالجته. نحن مختلفون حول معاني المفهومات الآتية مثلًا: الدولة، الأمة، القومية، الشعب، النظام، الوطن، المواطن، المواطنة، الديمقراطية، العلمانية، اللامركزية… إلخ، فكيف سنكون متفقين على سوريا المستقبلية؟! إنَّ ضبط المفهومات السياسية الرئيسة ذات العلاقة الوثيقة بالواقع السوري أمرٌ أساسيٌّ لبناء ساحة ناضجة يكون فيها للاتفاق والاختلاف معنىً.
9– لا يكفي التشديد على كليشة “العمل الجماعي المؤسَّسي”، بل لا بدَّ من بناء تصوّر صحّي للعلاقة بين الفرد والجماعة كأساس للأداء المؤسَّسي. الجماعة المفيدة هي الجماعة التي تحترم الفرد، ولا تلغي التمايزات والتباينات بين الأفراد، وتعترف بالمبدعين والقادرين وتدعمهم. منذ بداية الخليقة والبشر يرون التفاحة تسقط عن الشجرة، لكن نيوتن وحده هو الذي تساءل وفكر في الأمر. المساواة بين الأفراد المفهومة فهمًا سطحيًا هي عملية إعدام غير مباشرة للأفراد المبدعين والمتميزين. المساواة في القيمة الإنسانية شيء وتسطيح التمايزات شيء آخر كليًا. من دون الاعتراف بأهمية دور الأفراد المبدعين نحن نرتكب حماقة كبرى، والديموقراطية لا تعني قطع رؤوس المبدعين لنصبح جميعًا متساوين في الطول والتفكير.
10– تنظيف العقل والخطاب من التعابير الكارثية وملحقاتها على مستوى النظر والعمل: “مناطق محررة”، “فتح الجبهات”، “تمثيل الشعب السوري”، “الطوائف الكريمة”، “الأخوة الكرد”، “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”، “الشخصيات الوطنية”… إلخ. التصنيف هو من الأخطاء الكبرى التي يمكن أن تقع فيها أي مجموعة تريد أن تؤدي دورًا وطنيًا عموميًا، فالخطاب غير الوطني/العمومي هو ابن شرعي لعقلية التصنيف المهيمنة. النقد الذاتي عديم القيمة السياسية: يحدث هذا عندما يأتي المرء، بعد عقد من الزمن، ليكشف عن خطأ ما كان قد ارتكبه على مستوى التقدير السياسي، مقدِّمًا اعتذاره للسوريين، على الرغم من أنَّ اطلاعًا بسيطًا على أوليات السياسة آنذاك كان يمكن أن يعفيه من الوقوع في الخطأ، ويجنِّب بلده خيارًا سياسيًا كارثيًا. هذا الكشف لا يعطي صاحبه صكَّ براءة بل شهادة في الحماقة.
النخب و”الجماهير”
لا تجوز تبرئة أنفسنا مما جرى ولا يزال يجري، فالسوريون مسؤولون عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، وإنَّ ادعاء البراءة هو ادعاء من لا يريد أن يتغيَّر أو يُغيِّر. إنَّ نقد الضحايا أهم وأكثر فائدة من شتم الجناة الرئيسين، وهذه واحدة من المهمات الرئيسة للنخب الثقافية السياسية المهمومة حقًا بتطور البشر وتقدّمهم ومصالحهم.
“الجماهير الثائرة” التي أطلقت شعار “الائتلاف يمثلني” هي ذاتها “الجماهير التي ضربت رموزه الأساسيين في ما بعد بالأحذية، والجماهير (ومن ضمنها قطاع واسع من “النخب”) التي شاركت في ركاب “أحرار الشام” و”جبهة النصرة” و”جيش الإسلام”، وغيرهم، واحتفت بهم هي ذاتها “الجماهير” التي تريد الخروج عليهم اليوم. لا أحد بريء تحت سقف هذا الوطن، بمن فيهم المواطن الصامت قليل الحيلة والعاجز. هذا ليس لتثبيت الإدانة بل لإدراك حجم التغيير المطلوب، ولمنع الاستهانة بالمهمات والأدوار المطلوبة.
من العبارات التي تتكرَّر كثيرًا في المشهد السوري: “السبب هم المتصدِّرون للمشهد”. المعنى الآخر لهذا الكلام هو “نحن أبرياء وهم مذنبون”. تتكرَّر هذه العبارة إلى درجة نشعر معها أنَّ الجميع بريء ولا وجود للمذنبين. تغيب أسئلة منطقية عن أولئك المتحدثين: من الذي رفع هؤلاء المتصدرين؟ ومن الذي اقتنع بهم؟ ومن صفق لهم؟ ومن سار خلفهم؟ وربما نسمع عبارة أخرى من قبيل “لقد خدعونا”، السؤال المنطقي هنا: هل هناك ضمانة ألا تُخدع من جديد؟!
تبرئة “الجماهير” وتقديسها هي آلية تلجأ إليها النخب الضحلة والعاجزة أو النخب التي لا يختلف وعيها كثيرًا عن الوعي السائد، إما لكسب ودِّها وتأييدها والسيطرة باسمها وبمباركتها أو لتبسيط مشكلاتنا وبلايانا، ومن ثمَّ تسويغ السير في الحلول السريعة والسهلة.
لا بدَّ من نقد الوعي السائد بالتلازم مع نقد الحيِّز السياسي إذا أردنا ألَّا تُختزل حركتنا في إطار الصراع على السلطة والإتيان بشخصيات جديدة إلى الحكم لا تختلف عن القديمة نهجًا وسلوكًا، فالتأخر التاريخي في المنطقة، ومنها سوريا، هو أحد أركان التحليل الصائب للواقع. هذا النقد لا يصبُّ في إطار التعالي واحتقار البشر بل في إطار الإخلاص للحقيقة العلمية، وهذه الأخيرة فوق البشر والوطن والثورة.
الرضوخ لنداء “الثوار يريدون” و”الجماهير تريد” في كل لحظة، وفي كل مناسبة، هو أسلوب النخب الفقيرة ثقافيًا وسياسيًا. فليس كل ما يطلبه البشر صحيح أو ممكن أو مفيد دائمًا، ومهمة النخب الحقيقية هي تنوير البشر وعقلنتهم لا السير وراءهم. لا يعني التواضع موافقة البشر على ما يريدون. التواضع المطلوب عند النخب الثقافية السياسية هو التواضع بمعناه السياسي؛ قراءة الواقع جيدًا ومعرفة ممكناته وحدود الحركة التي يسمح بها، فلا تتنطع لمهمات أكبر من تلك الممكنات والحدود، ومن ثم تخدع نفسها وتضلِّل البشر.
يقف البشر في الحصيلة مع الشيطان إذا اقتنعوا بأنَّ مصالحهم معه، على عكس ما تروج له الكائنات الأيديولوجية التي تتوهم بإمكان قولبة البشر وتوجهاتهم إلى الأبد. النخب الحقيقية في الجوهر مع البشر على الرغم من نقدها لهم، فيما النخب الشعبوية تسير وراءهم ظاهريًا لكنها تجرهم دائمًا إلى الكارثة في العمق.
كلمة أخيرة
كلُّ خطوة في اتجاه تصنيع نخبة ثقافية سياسية وتخليقها هي خطوة في اتجاه بناء الهوية السورية وإعادة تخليق الشعب السوري وبناء الدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة. إنَّها خطوة تحتاج إلى كثير من الجهد والصبر والوقت، لكنها قد تثمر ما يمكن أن يبقى ويُبنى عليه مستقبلًا بدلًا من الاستمرار في الحركة على أرض رملية تبتلع كلَّ شيء.
المصدر: 963 سورية وأحوالها