كان المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، يدرك جيّداً أنّه سيتعرّض لحملة تشهير وتشويه، ولموجة من الانتقادات والتهديدات، بعد إصدار المحكمة مُذكّرات اعتقال في حقّ اثنين من القادة الإسرائيليين. علماً أنّ تفعيل حكم المحكمة يُعتبر من المداخل الحيوية لتحقيق جوهر العدالة في الأمم المتّحدة. وفي وقت اتهمت المحكمة الطرفَين؛ إسرائيل و”حماس”، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، فإنّ أغلبية الانتقادات والاعتراضات انصبّت على مسألة المساواة إزاء دولة إسرائيل، التي تعتبرها الولايات المتّحدة، وعددٌ من الدول الغربية، دولةً ديمقراطية، وليس من المعقول في شيء، حسب اعتقاد هذه الدول، أن تضعها المحكمة في الكفّة نفسها مع منظّمة “إرهابية” تسود وتحكم بالترهيب والتخويف والقوّة في قطاع غزّة، فيما إسرائيل دولة تدير شؤونها حكومة مُنتخبة ديمقراطياً للدفاع عن أمن دولة إسرائيل.
ويمكن إرجاع الموقف الأميركي، وموقف حلفاء لها، حيال موقف المُدّعي العام، إلى وجود تعليمات وتوجّهات، أملتها وفرضتها المواقف المُعارِضة، أصلاً، للمحكمة الجنائية الدولية، التي أُسّست في العام 2002 حين دخل نظام روما الأساسي المعتمد في 1998 حيّز التنفيذ، وفي مقدِّم هذه الدول الولايات المتّحدة، التي يظهر أنّ موقفها غير مبرّر ومُنفعل، خاصّة عندما أعلن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، في وقت سابق، أنّه سيعمل مع المشرّعين الأميركيين لبحث إمكانية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية. وقال بلينكن، أمام جلسة استماع في الكونغرس، إنّه “ملتزم” باتخاذ إجراء ضدّ هذا “القرار الخاطئ للغاية”. وتزامنت تصريحات بلينكن مع حملة انخرط فيها الجمهوريون لفرض عقوبات على مسؤولي المحكمة، استعداداً للتأثير في مجرى عملية التصويت، علماً أنّ الولايات المتّحدة، وهذه مفارقة عجيبة، سبق أن أيّدت قراراتٍ للمحكمة رغم أنّها ليست عضواً فيها، من قبيل تأييد مُذكّرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة نفسها ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن الحرب في أوكرانيا.
تهدف خطوة المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كما شرح بنفسه، إلى التذكير بأنّ القانون الدولي الإنساني يُطبّق بطريقة غير مُجزّأة على كلّ الأطراف المعنية بالنزاع المسلح. وهكذا، يمكن أن يتبيّن بشكل ملموس، بأنّ كلّ حيوات الإنسانية لها قيمة. ورغم أنّ كريم خان يَعتبر أنّه ليس هناك شكّ في ارتكاب مليشيات حركة حماس جرائم حرب، وبصرف النظر عن الحيثيات التي استند إليها، فإنّه يبدو واضحاً، حسب قوله، أنّ الجيش الإسرائيلي، وبمعزل عن الطبيعة “الديمقراطية” للدولة العبرية، تجاوز القواعد التي تضمن احترام القانون الإنساني خلال الحرب، فبنيامين نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت لم يأخذا أبداً الوضع الإنساني بعين الاعتبار. ولم يلتفتا إلى مجازر ومذابح الجيش الإسرائيلي. إلى جانب منعهما وصول المساعدات الإنسانية والغذائية لمصلحة سكان قطاع غزّة، منذ أكثر من سبعة أشهر. وحتَّى تجرّؤ الولايات المتحدة على اتهام المحكمة بعدم الاختصاص هو موقف لا يُعتدّ به، ومردود، لأنّه لا يصمد أمام الوقائع والتحليل والمنطق.
ليست إسرائيل عضواً في المحكمة بخلاف دولة فلسطين التي انضمّت إليها عام 2015. وإذا وضعنا جانباً سياسة اختبار القوّة من المحكمة العليا الإسرائيلية والإدارة الأميركية، فإنّ الخلاصة الأساسية هي أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي يتمتّع بتاريخ طويل من الإفلات من العقاب، فجرائمه موثّقة بشكل قوي ودقيق، وتُعدّ بالعشرات، منذ احتلال الأراضي الفلسطينية بالقوّة في يونيو/ حزيران 1967. ويتعيّن عليها أن تدفع اليوم الثمن. وما سيأتي بعد طلب كريم خان، ومآل هذا الطلب ينطوي على أهمّية قصوى، فإسرائيل التي تحكمها حكومة مُتطرّفة فاشية، غير مُستعدّة للرضوخ ولا للتفاعل الإيجابي مع أيّ منظّمة أو مؤسّسة أممية، ولا تأبه بما يصدر عنها، فهي واثقة من ضمان الحماية والرعاية من طرف الحلفاء، الذين نادتهم، واستنجدت بهم، ليتحركوا بهدف تمييع وتقزيم وتبخيس قرار المحكمة الجنائية الدولية، وتحويله قراراً ميتاً، ولتجاهل المحكمة، وللسعي إلى حرمانها من التمويل.
استعمال القوّة تُرجم في الحصيلة الثقيلة من الشهداء، الذين فاق عددهم، 35 ألفاً، إضافة إلى أكثر من 80 ألفاً من الجرحى، عدا آلاف من المفقودين تحت الأنقاض. ناهيك بتفشّي الفوضى بسبب عدم استباق المآلات، وبلورة هدف سياسي واضح. وبسبب تصلّب وعناد إسرائيل وإصرارها على تنفيذ مخطّط الدمار الشامل. وللتذكير فقط، في العراق وأفغانستان إبّان الغزو الأميركي، على الأقلّ، يمكن الاعتراف رغم كلّ المُؤاخذات، بأنّ الولايات المتّحدة كان يحدوها هدف معين؛ أي فرض الديمقراطية من فوق، حتَّى لو أنّ هذه الديمقراطية (الوهم) تضرّرت واهتزّت في زمن قياسي في مقابل واقع شديد التعقيد، خلافاً لما تصوّرَه وتوقّعَه استراتيجيو المحافظين الجدد في الغرف المُغلقة، وما اقترحوه خريطةَ طريقٍ، آنذاك، على الإدارة الأميركية تحت قيادة الرئيس الأسبق جورج بوش. غير أنّ الأمر يختلف في قطاع غزّة المُدمّر بشكل يكاد يكون كاملاً. فإسرائيل ليست معنية بمستقبل القطاع ولا بمصير سكّانه. ما يهمّها هو تدمير كلّ ما يدل على الحياة، وتنفيذ إبادة جماعية. ويعرف كيان الاحتلال أنّ حركة حماس، التي تشكّلت ورأت النور تحت الاحتلال، لا يمكن استئصالها بعملية عسكرية واسعة في رفح، آخر مدينة لم يشملها حتَّى الآن القصف المُكثّف والمُدمّر، والادّعاء أنّ معركة رفح هي الطريق المُفضي إلى النصر المُطلق على “حماس” مُجرّد وهم، وكذبة كبيرة، وذريعة يوظّفها نتنياهو وحلفاؤه للاستمرار في الحرب، وللتغطية على ما ينتظره من متابعات قضائية.
ما ارتكبته قوات الاحتلال، بكلّ الحقد والكراهية والانتقام، من جرائم ومذابح وتدمير للمؤسّسات والمنشآت، وتهجير وتجويع وحصار، لم يجد، حتَّى الآن، من يردعه. فالأمم المتّحدة لا حول لها ولا قوّة أمام جبروت الفيتو الأميركي، والإدارة الأميركية، بحكم التحالف المُقدّس الذي يجمعها بإسرائيل، ليست جادّة ولا راغبة في كبح جماح حليفتها، التي وضعت جانباً قرارات محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدوليتَين. وانتصرت لمنطق التصعيد وتنفيذ مزيد من المذابح. وربّما الإقدام على ارتكاب الأسوأ في مدينة رفح. وكلّ حديث عن “اليوم التالي” لا معنى له. كما أنّ التركيز على الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين فقط، واعتباره رأس الرمح في مختلف أطوار المفاوضات السابقة والحالية واللاحقة، لن يحلّ المُشكلة. إنّ وقف الحرب، وكلّ أشكال الإبادة، والتدمير الممنهج، والحصار الجائر، وتمكين سكّان قطاع غزّة، من المواد الغذائية والطبّية ومختلف الخدمات الضرورية، يشكّل الخطوة الطبيعية والمُقدّمة الأساس لاستخلاص وضع يساعد في التفاوض الحقيقي والمنتج والقادر على هندسة وبلورة ملامح أفق سياسي، ليس بالضرورة أن إسرائيل هي التي ستقرّر مساره ومضمونه وأجندته، لأنّ ذلك إن حصل سيكون شاهداً على غباء وسذاجة المجموعة الدولية، بما فيها المكوّن العربي والمسلم. كلّ شيء يجب أنّ يُطبّق ويُشتغل عليه بجدّية وصدق لتفادي السقوط في الهوّة التي حفرتها مفاوضات السلام منذ أكثر من عقد. إذ لاحظنا نوعية الثمار، وطبيعة النتائج، التي جلبتها للفلسطينيين بشكل خاص. لذلك، ينبغي أخذ الدروس واستخلاص العبر من فشل مسلسل “أوسلو”، الذي لم تكن فيه نقطة الوصول هي الاعتراف الضمني المذكور في الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمّة التحرير الفلسطينية.
أثيرت في القمّة العربية في المنامة فكرة نشر قوات مُتعدّدة الجنسيات تحت رعاية الأمم المتّحدة. كما طُرِحَتْ فكرةُ تنظيم مُؤتمر دولي جديد للسلام. طبعاً، إلى جانب مبادرة السلام العربية، التي ظلّت مُجرّد وثيقة جاثمة في الذاكرة السياسية للأنظمة العربية. قد تبدو هذه الأفكار باعثة على الأمل والتفاؤل المريح. لكنّ النقطة الجوهرية، والعنصر الأساس، في هذا المأزق كلّه، وهذا النفق المسدود، أنّ “البلوكاج” أو لجم عملية السلام، لا يوجد في مكتب الوزير الأول الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولكن، في البيت الأبيض الأميركي. والغريب أنّ الرئيس جو بايدن رغم بعض القرارات العقابية الرمزية والمواقف، التي توحي بالتشدّد تجاه الحكومة الإسرائيلية، فإنّه يُعلن صراحةً التزام الولايات المتّحدة بحماية إسرائيل والدفاع عن أمنها، ولا يخفي انحيازه والتزامه الأخلاقي بخدمة أهدافها. ومع ذلك، فإنّه في ظلّ الخواء الذي يعمّ المنطقة العربية، وهشاشة وضمور دولها، وفي ظلّ انصياع مطلق لعدد من الدول الغربية للسردية الإسرائيلية، وذريعة معاداة السامية، التي أصبحت مصدر مظلومية فجّة ومفضوحة، يبقى الرئيس الأميركي وحده الذي بمقدوره إحداث تحوّل ونتائج إيجابية على الأرض.
إنّ تصدّع الوحدة الفلسطينية، ونشوب صراعات غير مسبوقة بين فصيليها الأساسيين؛ حركتي فتح وحماس، أسهما في تقويض بناء الدولة الفلسطينية، وأجهضا حلم الاستقلال، وتركا قطاع غزّة لمصير مجهول. كما عرّضا الضفّة للقضم المستمر، والقدس للتهويد المُستفزّ. وهذا ما يحتّم اعتماد بوصلة جديدة ومقاربة بديلة وتغييراً للمسار، فلا فعالية أمام تغوّل إسرائيل وتطرّف مستوطنيها، من دون تجديد هياكل السلطة، وضخ دماء جديدة في شرايينها، وإعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية على قواعد وأسس صلبة، ومغايرة، تراعي مختلف التطورات والتحوّلات والمُستجدّات، لأنّه، في المحصّلة النهائية، لم يُنتج الزمن الضائع للسلام سوى صعود مدوٍّ لليمين الديني المُتطرّف، وترسيخ لسياسة الاستيطان، وتكريس لـ”يهودية الدولة”، لتنتعش وتزدهر العنصرية والكراهية تجاه الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد