كان لا بد من دونالد ترامب حتى نتعرف على وجه آخر للولايات المتحدة الأميركية , لم يتح لنا الاطلاع عليه من قبل !
وجه مختلف جدا عن وجهها القبيح الذي اعتدنا رؤيته وذمّه طوال عشرات السنين . إنه بالطبع وجه مجتمعها الحي , وقيمه الإنسانية النبيلة , ومؤسساته القانونية الرشيدة .
خلال سبعين سنة كنا نحن العرب والمسلمون نمارس الاستشراق معكوسا , عمدنا وتعمدنا تنميط الغرب , وبخاصة أميركا تنميطا اختزاليا . فأميركا هي ذلك البلد المجهول الغامض الذي تأسس على الجريمة وابادة الهنود الحمر , تسوده العنصرية وقيم العداء لنا بطريقة قدرية لا جدوى من محاولات تصحيحها , ويتحكم به اليهود والصهاينة, ويديرونه وفق مصالح إسرائيل , تعشش فيه القيم المعادية للاسلام , وحكومته توزع الانظمة الديكتاتورية على بلداننا لقمعنا وتنهبنا , ولا بد أن كل طاغية عربي وراءه أميركا الامبريالية .
بعبارة أخرى , نحن نرى أميركا بعين واحدة , عين سياسية قاصرة, لا تلحظ سوى وجه اميركا السياسي القبيح , حروبها, دعمها للعدو الاسرائيلي وحكامنا المستبدين . عين مؤدلجة مسبقا ومصابة بعمى ألوان , لا ترى من الصورة سوى الابيض والاسود , وتغفل عن الازرق والاخضر والاصفر والزهري . لا ترى العلوم والفنون والثقافة والعدالة والنظام وقيم الحرية . نظرة نمطية لا ترى من هذه البلاد القارية ومجتمعها الذي يناهز ثلاثمائة مليون نسمة يتميزون بتعدد اثني وعرقي وديني لا مثيل له في أي بلد آخر في العالم .
أجل نظرتنا سياسية واديولوجية اعتادت ألا ترى غير السياسي , وألا تراه إلا بطريقتها المواربة , ومن زاوية ضيقة محددة . العربي المتوسط التعليم يحفظ عشرات اسماء المسؤولين السياسيين الاميركيين , ولا يحفظ اسم شاعر أو روائي أو موسيقي أو فنان تشكيلي ناهيك عن تذوق ابداعاتهم . قد نحفظ أسماء نجوم سينما وتلفزيون وألعاب رياضية , ولكننا نضعهم في مفكرة خاصة ونعزلهم عن بعضهم فلا نصل الى استنتاج ما يجب استنتاجه من العالم الاميركي الكبير .
الصور ليست منافية للواقع بالضررورة, ولكنها قصاصات ممزقة من صورة فسيفسائية متعددة الوجوه لاميركا الدولة والمجتمع والنظام والحضارة , هي بالطبع صورة ثلاثية الابعاد لا احادية , أو صورة ابيض واسود .
القرارات الطائشة التي أقدم عليها الرئيس ترامب لمنع المسلمين من دخول بلاده , بما فيهم حملة الاقامات الدائمة اتاحت لنا فرصة استثنائية لرؤية وجه ثالث من وجوه اميركا المتعددة . الوجه المشرق , المتحضر , الانساني , الناضج .
رأينا للمرة الأولى مجتمعا أمريكيا مدنيا يهب بسرعة وبشكل منظم للتضامن مع ضحايا القرارات , ويعبر عن رفضه لها ويتحرك ليحبطها , ويتمرد على السلطة ويتحداها . تظاهرات مليونية عمت المدن الاميركية , تحركات للنقابات , ثورة في أوساط الادارة , وزيرة ترفض التنفيذ , دعاوى قضائية لافشال القرارات, نواب وسياسيون يعترضون , اعلام ناضج وواع يتصدى يقوة للادارة ويدافع عن الحرية والعدالة وحق الهجرة والقيم الاميركية , المحامون والحقوقيون يقدمون مساعداتهم وخبراتهم للضحايا ويرابطون في المطارات للاحتجاج وتقديم العون , آلاف المترجمين يتطوعون لخدمة القادمين .. إلخ .
لقد اظهرت هذه التحركات على مدى اسبوعين مجتمعا مدنيا ديناميكيا حرا وقويا, لا سيطرة للدولة والسلطة الحاكمة عليه , ومتحررا من الولاء الأعمى للامة . وأظهرت قوة المؤسسات واستقلاليتها وولاءها لرسالتها الاصلية قبل الدولة والحكومة , ولمسنا رسوخ مبادىء الدستور كقيم وعقيدة لا كشعارات وديكور . وعلى رأس هذه المؤسسات برزت قوة القضاء بشقيه, قضاء الادعاء العام, وقضاء الحكم , واخلاصه للقانون والعدالة وليس التبعية للدولة , ومتحرر من تقاليد الانصياع والخضوع البيروقراطي للسلطة الحاكمة , واستعداده للتصدي لتغولها .
حتى الدفاع عن الاسلام برز كموقف مبدئي اخلاقي , واحتل الدفاع عنه حيزا مهما وواضحا في مشهد التحركات المضادة لسياسة الادارة التي جاهرت بعدائها الاديولوجي والسياسي له . وكان لافتا ومثيرا أيضا أن تتقدم صفوف المدافعين عن الإسلام ورفض تمييزه بإجراءات خاصة تنم عن عداء وعنصرية , وترفض شيطنته وادانته كثقافة وأمة شخصيات كبيرة كنا نصنفها بين الاعداء الدائمين جراء التنميط العربي – الاسلامي لاميركا , كالسيدة مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية السابقة التي كنا نختزلها في يهوديتها ومواقفها السياسية , فقد أعلنت المرأة عزمها على تسجيل نفسها كمواطنة مسلمة تضامنا مع المسلمين , وحذا حذوها ديك تشيني نائب الرئيس السابق , ومثقفون وفنانون ورياضيون لا حصر لهم .
هذا يعني باختصار أن أميركا التي كنا نراها ليست حقيقية والصورة التي رسمناها صورة خيالية مزيفة . اميركا ليست معادية للاسلام بالمطلق , هناك اميركا مسلمة برزت وسط التحركات الاخيرة وتصدت للسياسة المعادية للاسلام , وهذه لا تعتمد على مواطنيها المسلمين فقط , بل على شريحة اجتماعية عريضة تحترم الاسلام وتقاتل ببسالة دفاعا عن المسلمين تأكيدا لايمانها بالحرية ونضالها لترسيخ التعايش والتسامح والتعددية .
ما رأيناه من تحركات مضادة لقرارات الرئيس ترامب لا يمكن اختزاله في كلمات أو المرور السريع عليه , فهو يعكس أمريكا المتحضرة المجتمعية , بعيدا عن السياسة والاحلاف والمصالح الامبريالية , أمريكا المؤسسات والعدالة والقانون والحرية والديمقراطية .
والواقع أن ما يحدث ” ثورة ” حقيقية في وجه السلطة بدأت بتظاهرات النساء ضد ترامب يوم تنصيبه .
” ربيع اميركي ” بمذاق خاص . ثورة ما زالت في بدايتها, ويتوقع لها أن تتعمق وتتسع وتستمر إذا استمرت السلطة التي تجنح يمينا وتستعيد ماضيا غابرا في محاولاتها الجائحة للاستبداد وانتهاك القانون , وافراغ والدستور من قيم الحداثة والحرية التي تكونت عليها دولة الولايات المتحدة الراهنة .
هذه الثورة جديرة بالتأمل بعناية , وتستحق الاحترام واستلهام قيم الولاء للقانون والمبادى قبل السلطة منها , وتوجب علينا إعادة رسم صورة ذهنية أكثر علمية وموضوعية , بعيدا عن السياسة والمصالح البترولية واسرائيل .
================================================
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية، العدد 362 , الصادر في بيروت بتاريخ: 10 – 2 – 2017. لذا وجب التنويه.