لم يكن الروس – في أيّ وقت كان – يجهلون طبيعة العلاقة العضوية بين دمشق وطهران، كما أنهم لم يتفاجؤوا بالتغوّل الإيراني في سوريا، ليس عسكرياً فحسب، بل اقتصادياً وثقافياً أيضاً، ولئن كان الرئيس الروسي بوتين يرى في نفسه الوريث الشرعي لمجمل العلاقات التي كانت قائمة بين نظام الأسد والاتحاد السوفياتي في العقود الماضية، فإنه يدرك في الوقت ذاته، أن حافظ الأسد، ومنذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، قد انزاح عن المظلة العربية، واستظل بالمدّ الخميني، وقد تُرجمت تلك الخطوة آنذاك، بتغيير نظام الأسد لتحالفاته العسكرية، إذ انسحب ضمنياً مما كان يُطلق عليه آنذاك بـ(جبهة الصمود والتصدّي)، وبناء تحالف جديد مع إيران، وفي العام 1980 الذي شهد نشوب الحرب العراقية الإيرانية في شهر أيلول من العام ذاته، بات المنحى السياسي لنظام الأسد أكثر تبلوراً من خلال اصطفافه عسكرياً وسياسياً إلى جانب إيران، وقد استطاع حافظ الأسد – حينها – جرّ ليبيا إلى المسار ذاته، إلّا أن القذافي – وفي خطوة مفاجئة – أعلن عن موقف مباين للأسد بخصوص إيران في العام 1986.
لعلّ وعي طبيعة هذه العلاقة بين نظامي إيران وسوريا هي ما جعلت بوتين يقبل بمبدأ الشراكة في تقاسم النفوذ بينه وبين إيران في سوريا، بل إن التدخل العسكري المباشر في سوريا – إيلول 2015 – كان مسبوقاً بطلب رسمي إيراني، أبلغه قاسم سليماني في زيارة رسمية إلى موسكو، حين شعرت إيران أنه لم يعد بمقدور ميليشياتها الحفاظ على نظام الأسد الذي فقد السيطرة على ثلثي الجغرافية السورية آنذاك.
لقد تجسّدت الشراكة الروسية الإيرانية بحرب وحشية على السوريين لم تكن تستهدف القوى العسكرية المناهضة لنظام الأسد فحسب، بل سعت إلى تغيير معادلة الصراع القائم بين النظام وقوى الثورة عامةً، ولعلّ أبرز سمات هذا التغيير هي حملات التهجير القسري التي كانت تهدف إلى اقتلاع حواضن الثورة وتشتيتها، من خلال وضْع السكان المدنيين أمام خيارين، إما الرحيل وإما الموت تحت جحيم القذائف والطائرات، وانطلاقاً من هذا المبتغى هُجّرَ سكّان حلب الشرقية أواخر العام 2016، وسكان الغوطة الشرقية في نيسان من العام 2018، ثم سكان درعا، فضلاً عن حملات التهجير التي طالت سكان حمص والعديد من بلدات وقرى الريف الدمشقي، كما تمكّن التحالف الروسي الإيراني – عسكرياً – من احتواء معظم الفصائل العسكرية من خلال استدراج بعضها إلى مفاوضات ومصالحات تارةً، ومن خلال الإجهاز عليها عسكرياً تارة أخرى، وترحيل ما تبقى منها إلى الشمال السوري. أمّا سياسياً، فقد أثمرت تلك الشراكة عن ولادة مسار أستانا، الذي استطاع الروس والإيرانيون – من خلاله – الالتفاف على القرارات الأممية وتجاوز المحتوى الجوهري للعملية السياسية، وأعني تجاوز عملية الانتقال السياسي من خلال إنشاء هيئة حكم انتقالي، وكذلك تجاوز قضية المعتقلين في سجون الأسد، وسواها من القضايا الإنسانية.
وعلى الرغم من النزعة الروسية نحو الهيمنة المطلقة على سوريا، إلّا أن بوتين ظل حريصاً على استمرار علاقة متوازنة مع إيران، قوامها المصالح المتبادلة، ذلك أن الروس، وعلى الرغم من تفوّقهم العسكري الجوي وقدرتهم على حسم المواجهات المسلحة، إلّا أنهم يدركون – في الوقت ذاته – حاجتهم لميليشيات إيران التي تقاتل على الأرض.
لعلّ عضوية العلاقة بين نظامي دمشق وطهران، إضافة إلى المصالح المشتركة الروسية الإيرانية، هي ما دفعت بوتين إلى إقناع إسرائيل بعدم جدوى السعي إلى إخراج إيران كلّياً من سوريا، والإكتفاء بـ(قوننة وضبط الوجود الإيراني في سوريا)، وهذا ما تم الاتفاق عليه أثناء لقاء مسؤولي الأمن القومي للأطراف الثلاثة – روسيا وإسرائيل وأميركا – في القدس شهر حزيران من العام 2019، إذ وافقت إسرائيل آنذاك على ألّا يتجاوز الوجود الإيراني في سوريا مسافة قدرها ثمانون كيلومتراً من الحدود الإسرائيلية، ومنذ ذلك اللقاء أصبحت مقاربة المجتمع الدولي للمسألة السورية مقاربة أمنية، تأخذ بعين الاعتبار أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، أكثر مما هي مقاربة سياسية.
مع إقرار الحكومة الأميركية لقانون قيصر في نهاية أواخر العام 2019 ، ومع سريان تفعيله في السابع عشر من حزيران الفائت، أخذ إيقاع العلاقة الروسية الإيرانية بالاختلال، ذلك أن قانون قيصر هو العصا التي تحركها المصالح الأميركية التي باتت من أولوياتها ممارسة جميع الضغوط، وبكافة الاتجاهات، لإخراج إيران من سوريا، وليس قوننة الوجود الإيراني فحسب، وبات خطاب المسؤولين الأميركان الموجه للروس يتسم بالترغيب والترهيب معاً، فلئن كان جيمس جيفري يطالب بخروج جميع القوات الأجنبية من سوريا باستثناء روسيا، فإنه كان يبدي لبوتين محفّزاتٍ من شأنها أن تجعل روسيا متعاونة مع واشنطن في إخراج إيران، موازاة مع تفهّم أميركي للمصالح الروسية في سوريا، وبالمقابل فإن تصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، والتي يصف فيها الوجود الروسي في سوريا بأنه شكّل دعماً لإرهاب الأسد، وبالتالي على الروس أن يخرجوا من سوريا كسواهم، إنما هو الوجه الآخر للرؤية الأميركية التي تحذّر بوتين، بأنه لن يكون بمنجاة عن العقوبات الأميركية إن لم يكن مساهماً جدّياً بتعقّب الأثر الإيراني في سوريا، علماً ان موسكو تدرك قبل سواها، أنها لن تكون بعيدة عن تداعيات قانون قيصر، باعتبارها الحليف الأقوى والداعم الفعلي لنظام الأسد.
الخيارات المتاحة أمام الروس من أجل الحفاظ على مصالحهم في سوريا لم تعد تحتمل التعدّد، إذ كما انفرد بوتين بالشأن السوري بتفويض أميركي، عليه – اليوم – أن يلتزم بالأولويات الأميركية، إن كان حريصاً على حفظ مُنجَزه العسكري، وكذلك لئن استطاع بوتين أن يؤجّل أي مواجهة مع إيران فيما مضى، فإنه اليوم لم يعد بمقدوره تحاشي المواجهة التي بدأت إرهاصاتها الأولى تتجسّد من خلال التنافس على حيازة مواقع النفوذ داخل سوريا، بين القوى الموالية لإيران، والقوى التي صنّعها بوتين، وبات المواجهات بين القوى التي تقاتل بالوكالة عن الطرفين واضحة للعيان، إذ إن المواجهات المستمرة منذ أواخر العام 2019 بين الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد، التي تُعدّ الذراع الإيرانية الأقوى، وبين الفيلق الخامس الذي شكّله، وما يزال يشرف على تدريبه وتمويله الروس، هي الشكل الأولي للصراع، تلا ذلك جملة من التصفيات المتبادلة، بدأها أنصار إيران باستهداف مركبة تقل عناصر من الفيلق الخامس أثناء عودتهم من معسكر تدريبي لهم قرب قاعدة حميميم، أودى بمقتل عدد من عناصر الفيلق، ثم كان ردّ أنصار بوتين بعدد من عمليات الاغتيال استهدفت عدداً من ضباط موالين لإيران: (العميد معن إدريس من الفرقة الرابعة – العميد سليمان خلوف من كلية الإشارة – العميد هيثم عثمان من أكاديمية الهندسة العسكرية – العميد سومر ديب وهو محقق في سجن صيدنايا – العقيد علي جمبلاط مرافق ماهر الأسد – العقيد جهاد زعل مدير مخابرات المنطقة الشرقية – العميد ثائر خير بك من المخابرات الجوية).
ولئن أبدى بوتين – وما يزال – حرصاً شديداً على ألّا يكون التدافع الإيراني الروسي يتخذ شكل المواجهة المباشرة، ظنّاً منه بأن الحرب بالوكالة قد تفي بالغرض المطلوب، فهل ستشاطره إيران الحرص ذاته؟ وخاصة أنها بدات تدرك أن حلفاء الأمس قد أصبحوا أعداء اليوم؟.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا