هوشنك أوسي روائي وشاعر كردي سوري مهاجر الى بلجيكا ومستقر فيها. منتمي للثورة السورية، قرأت له ثلاث روايات سابقة وطأة اليقين والافغاني سنوات قلقة وكتبت عنهما، كما قرأت رواية حفلة أوهام مفتوحة وفي كل رواية جديدة يأخذنا هوشنك اوسي الى عوالم جديدة يتداخل فيها السرد الفني المدروس والمتقن لعمله الروائي مع الغوص عميقا في التاريخ والواقع والعصر وإشكالات الذات: الكردية والسورية والعالمية، غوص عميق في ذات الإنسان بصفته إنسانا وعوالمه الداخلية والمجتمعية وما عاش ويعيش واحتمال أن يعيش، عوالم وأكوان في الذات الفردية والاجتماعية يتم استحضارها وكتابتها…
هكذا يفاجئنا هوشنك أوسي في كتابته الروائية انه نهر دائم الجريان ماء الرواية جديد ونقي ومستمر التدفق…
كأنّني لم اكن، روايته التي بين يديّنا تعتمد السرد بلغة المتكلم على لسان الشخصية المحورية فيها هوزان…
يتابع هوزان التحدث عن زمنه المعاش وهو في دمشق بيتهم بالحي اليهودي مع والدته أولغا وزوجته سارا السورية الدرزية، منشغل في انجاز لوحات معرضه وكلها تتحدث عن ما وصله من جدته عن والدها روبنسكي الشاعر الروسي الذي اعدمه ستالين رسائله مع المعارض الروسي تروتسكي.
وصل إلى اللوحة الثانية عشر الأخيرة، أنجز نصفها تقريبا، استيقظ صباح أحد الأيام على رائحة قهوة زوجته، لكن وجد نفسه غارق في ظلام دامس، لقد اصيب بالعمى.
راجع أطباء ومستشفيات في دمشق، لم يجدوا أي سبب عضوي لإصابته، ولكي يطمئن والعائلة أكثر على حاله، سافر وزوجته الى روسيا وعرض نفسه على أطبائها ووجد التشخيص ذاته، وكذلك الحال عندما ذهب الى لندن، وصل إلى ذات النتيجة…
عاد هوزان الى دمشق وبدأ يتأقلم مع وضع العمى وفقدان البصر، بدأ يطل على العالم المحيط حوله من خلال الحواس الأخرى خاصة السمع، وبدأ ينمّي ملكة المعرفة عنده عبر استماع الكتب الصوتية، وهكذا ابحر في عوالم المعرفة للتراث والتاريخ، سمع للكثير من الكتب كان أهمها كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين ذلك المفكر الأعمى، لقد جعل كتاب الشعرالجاهلي هوزان يعيد فهم وتقييم مرحلة الدعوة الإسلامية برمتها في البداية، وان الشعر الجاهلي ليس بجاهلي بل كتب في فترة الإسلام ومنحول الى الجاهلية، غاص في موضوعات فلسفية وفكرية كثيرة ، جعلته يراجع الكثير من المسلمات الدينية والفلسفية والتاريخية…
كذلك قرر هوزان ان يتعايش مع عميان آخرين ويقترب من معايشتهم ل عماهم، وهكذا وصل الى جمعية المكفوفين، تردد إليهم و حضر اجتماعاتهم وتعرف عليهم وصار يشارك جلساتهم ومناقشاتهم. انهم عالم كامل كان يجهله وبعيد عنه، اجتمعوا عنده وفي الجمعية وتحدثوا عن أنفسهم وتجاربهم وما حصل معهم، بعضهم ولد اعمى والبعض أصيب بالعمى من ظروف الحياة، تلك التي تواجه عماها و تتفوق في دراستها وتصبح مدرسة جامعية، آخر يتجاوز قسوة الظلم الاجتماعي والسياسي ، خسر عينه في حرب ١٩٦٧م التي هزمنا بها. وخسر الأخرى في المعتقلات عند النظام في أحداث الثمانينات من القرن الماضي وكان لا بد من التحدث عن ظروف القمع والعنف المسلح المسلط على متظاهري الثورة السورية الوليدة بعد مضي أشهر على انطلاقتها وقت اجتماع هوزان مع أصدقائه العميان…
كان الحل الأخير أمام هوزان لمعرفة سبب عماه المفاجئ هو اللجوء إلى طبيب نفسي لعل مشكلته نفسية تُعرف ومن ثم تعالج ويعود له بصره…
وهكذا التقى هوزان بطبيب نفسي بحضور زوجته و بجلسات علاج طويلة تصل إلى الساعات، ابحر بها هوزان والطبيب في عوالم كثيرة، بعضها من ماضي هوزان الذي اعاد سرده مع بعض الاخطاء عن ماضيه، او في الحديث عن الذات الإنسانية وما تعيشه من حب وشغف ومعاناة وما يمر عليها من أحوال. لقد كانت جلسات مليئة بالمعرفة والتفلسف والغوص في أعماق الذات الانسانية ومعايشتها للحياة، نتابع وكأننا نغوص في كون فسيح ممتد من المعرفة التي تبهر عقولنا…
مع ذلك لا جديد في حال هوزان مع عماه ، لذلك قرر ان يتمّ معرضا للوحاته الأحد عشر ونصف، وحصل ذلك ونجح معرضه وباع كل لوحاته.
أصبح هوزان متعايش مع عماه واصبح يمارس حياته ويتبحر بالمعرفة و السماع الصوتي للكتب اكثر، وقرر بعد وقت ان يكتب رواية يتحدث بها عن نفسه بدءا من والده شالاو وهو وما عاشه وعايشه…
حدث متغير جديد في حياة هوزان، لقد استيقظ في أحد الصباحات في منزله على رائحة قهوة زوجته وقد عاد إليه بصره، واكتشف أنه فقد حاسة السمع، لقد عاش في سكون مريع…
عندما عاد النظر لهوزان و أصيب بالصمم كان ذلك قاسيا عليه، لكنه تكيّف معه بعد وقت. وبدأ يعيد التأمل بروح الاشياء وما يعيش مع المحيط بروحها وايقاعها في نفسه متخيلا ضجيج أصواتها التي كان يتعايش معها…
قرر أن يعود للرسم مجددا. واعلن عن معرض قادم للوحاته التي سيرسمها، وأهمل روايته التي بدأ كتابتها بلغة برايل .
كل ذلك كان في ذات الوقت لما تطورت الحال لسنوات حتى ٢٠١٤م في سوريا حيث ازداد عنف النظام واستعماله السلاح بحق الشعب والمناطق الثائرة، واصبح دوام العيش في سوريا شبه مستحيل، لم يعد يستطيع العيش وكأنه لا يحصل شيئا حوله. وخاصة ما حصل معه، عماه ثم صممه، لذلك قرر أن يغادر دمشق نهائيا الى باريس، و حماته وزوجته، وهناك أعاد سيرته الأولى في الرسم والتجهيز لمعرض قادم في باريس…
لقد وصل صدى الثورة السورية الى باريس حيث مظاهرات أنصار النظام من الموالاة الانتهازيين والمنتفعين منه، ومظاهرات المعارضة أنصار الثورة ، أغلبهم ممن هرب من جحيم الموت والاعتقالات والظلم العميم في سوريا الذي امتد لسنين…
عادت حياة هوزان الى روتينها، انه في عام ٢٠١٥م بعد سنة على وصوله الى باريس، يجد انه مسكون بتصرف لا يدرك كنهه، يرتدي ملابسه يخرج لوحده يتجول في باريس يصل الى مسرح هناك عرض لفرقة غناء ليس من النوع الذي يهواه، يجد نفسه منجذبا لدخولها. يدخل يجلس في مقعده، يحاول من واقع صممه أن يعايش اصوات الموسيقى والعزف وأداء الفرقة، في هذه الاثناء تدخل مجموعة مسلحة، تطلق النار عشوائيا على من في الصالة ويصاب هوزان بثلاثة طلقات قاتلة ينقل للمشفى يستمر ثلاث ايام ثم يموت بعد أن ودع زوجته وأكد حبه لها…
وجد في جيبه يؤكد على اخبار زوجته بوجود السرداب في بيتهم الدمشقي وما فيه من كنوز معرفية من قديم الزمان وأن يتم المحافظة على هذا السر وهذا الكنز…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
ها نحن في رواية هوشنك اوسي الرابعة التي أُبحر في عوالمها وقد ادهشتني كما باقي رواياته السابقة التي قرأتها انها بمقدار ما هي متقنة في تقنيات العمل الروائي ورسم الشخصيات والأدوار والمكان والزمان وتطور الأحداث، بمقدار ما هي غوص في عوالم المعرفة الموسوعية المتنوعة العميقة لكاتبنا المبدع هوشنك أوسي…
انه يغرف من محيط معرفي كبير لا ينضب ويدخلنا مجددا في عوالم الدهشة والاكتشاف، وفوق ذلك وقبله، يمرر مواقفه من كل ما يعيش في عالم روايته، موقف نقدي عقلاني ومتوازن يزيد روايته قوة وحضورا وفائدة إضافة للمتعة التي نعيشها منذ البدء…
مازالت هوية هوشنك اوسي الكردية السورية المعاصرة و الانسانية تهيمن على فضاء رواياته وهذه منها.
انه يعيد سرد الملحمة الكردية، او المتاهة أو المأساة من زاوية اخرى. يعود ليخبرنا كيف وجد الاكراد انفسهم وسط اعادة تشكيل خرائط المنطقة بعد الحربين العالميتين، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث حاول الكرد خلق أول جمهورية لهم، جمهورية مهاباد و رئيسها قاضي محمد في كردستان ايران، ولكن لم تعمر طويلا وتم القضاء عليها وقتل رئيسها. وكيف انتقل الكرد العراقيين مع قائدهم التاريخي ملا مصطفى البارزاني بعد القضاء على جمهورية مهاباد التي ذهب مع البشمركة المقاتلين معه لنصرتها. ولم يصل ولم يفلح في نصرتهم، ثم ليتحول ومن معه من مقاتلين لقضيتهم القومية الى أداة في السياسة السوفييتية الروسية حيث يخمدون لأكثر من عشر سنوات ويتم جمعهم بعد ذلك مع قائدهم مجددا بتوجيه من الروس ليعودوا الى العراق لدعم حكم انقلاب عبد الكريم قاسم ، يعودون الى العراق في هدنة من الحرب لحوالي السنة ثم تبدأ حرب الأكراد مع النظام العراقي بدء من عبد الكريم قاسم وبعده عبد السلام عارف وهكذا حتى مرحلة صدام حسين، في صراع استمر لعشرات السنين، ومن ثم وانتهاء “الثورة” الكردية عام ١٩٧٥م. كما اعلن الملا مصطفى البارزاني وواقع حال القضية الكردية على حاله، وليموت الملا مصطفى عام ١٩٧٧م وبهذا يكون قد اغلقت مرحلة من تاريخ الحراك الكردي من اجل قضيتهم القومية. وكيف كانوا ضحية استخدام القوى الدولية لهم كأدوات يستخدمونها في الصراع، وكيف عاشوا صراعاتهم الذاتية وكانت النتائج لهذا الحراك كارثية على الاكراد انفسهم…
المستوى الآخر الذي سلطت عليه الرواية هو الوقت المعاصر في سوريا حيث يومئ بشكل غير مباشر إلى الاندماج الحياتي المجتمعي للأكراد السوريين في بلدهم سوريا ومع ابناء وطنهم، تماما كما حصل مع هوزان ابن شالاو وهو الجيل الثاني للأكراد الذين عاشوا واقع سوريا بصفتها دولة استبدادية تضطهد الشعب وتمنع الحريات وتقتل المعارضين، لقد اشار هوشنك الى مقتل شالاو في تفجير حصل في ثمانينات القرن الماضي أيام الصراع المسلح بين النظام والإخوان المسلمين والطليعة المقاتلة، وتم البطش وقتها بكل القوى الوطنية الديمقراطية السورية.
ان مقتل الاب الاب شالاو في دمشق بتفجير ومقتل الابن هوزان في فرنسا في صالة مسرح في تفجير آخر بعد أبيه بثلاث عقود ونصف يؤكد أن المظالم القومية والمجتمعية والسياسية، لا تستثني احدا من نتائجها الكارثية، بما فيها الغرب الراعي الضمني للصراعات في بلادنا والجاني الأول لثمرات ذلك. ستولد القاعدة وداعش ويعمم الإرهاب..
واقع فرنسا والغرب ينطبق عليه المثل القائل:
خابز السم آكله…
نطلّ أيضا على واقع الشعب السوري الذي أعلن ثورته في ربيع عام ٢٠١١م. وواجه الة القمع والطغيان، وكيف واجه النظام الشعب بالعنف المسلح والقتل والتدمير والاعتقالات. لقد تابع هوشنك اوسي حال سوريا لاربع سنوات في الثورة وما حصل مع السوريين وبلدهم، وكيف فكر هوزان وكثير من السوريين بالهروب من سوريا الى بلاد اللجوء، بعضهم نجح والكثير فشلوا واصبحت المأساة السورية محنة العالم…
مازال الاستبداد والقمع والقهر يقتل السوريين ويدمر بلدهم ومازالت مطالب الناس بالكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية مطالب مشروعة وملحة…
هذه رسالة الرواية من هذا الجانب.
ومازال للرواية جانب آخر حاضرا وبقوة انه التبحر في عوالم الإنسان داخل نفسه وعقله وروحه ووجدانه، وداخل الحياة والتاريخ والواقع المعاصر. في محيط من المعلومات يجعل القارئ يرتشف هذه الكنوز المعرفية وهو يعايش الحدث العام والخاص للرواية.
إن هذا الجانب المعرفي يجعل الرواية تغوص في وحل العالم والعصر وإن المعرفة أصبحت اولا وسيدة الحاجات الانسانية دون منازع…
ها نحن نرتشفها في روايات هوشنك أوسي…
ماذا بعد:
استمر صديقي هوشنك أوسي في قول كلمتك عبر رواياتك واشعارك. فما زالت تنير وتقدم الدواء لروح المتعطشين للثقافة والمعرفة والمتعة النفسية و الروحية…
رواية “كأنّني لم أكن” للروائي والشاعر السوري الكردي المقيم في بلجيكا “هوشنك أوسو” وفي القسم الثاني من قراءتها الجميلة مع التعقيب للكاتب “احمد العربي” يعيد سرد المظلومية الكردية في رواياتها بطريقة جميلة لإظهرها، مستمراً بسرد عن زمنه المعاش وهو في دمشق بيتهم بالحي اليهودي مع والدته أولغا وزوجته سارا السورية الدرزية.