وجه حضاري متألق. عربي إسلامي مشرق كان يرسم لنا ومازال مؤشرات خلاصنا في كل زمان ومكان …ووجه مظلم كان يرسم دائماً خطوط التراجع والتخلف والاستبداد ومازال يشد البعض الى غابر الزمان.!! وحين يكتب التاريخ المنتصرون غالباً، فلا بد لنا ان نمعن النظر فيما كتبوا بحثاً عن الحقائق الضائعة بحد السيوف، ولا بد لنا أن نعود لنقرأ التاريخ قراءة موضوعية بمقارنة بين الأحداث والوقائع.
الوجه الاول:
حين كان الاسلام جوهر ورؤية واجتهاداً مفتوحاً كانت تتألق تلك الرؤية وذاك الجوهر على يد العلماء والمبتكرون والمجتهدون ، فيبحثون عن سنن وقوانين ومفاتيح كونية وحياتية تقودهم الى تحقيق مضمون الآية الكريمة بأن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض ( {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].) ، مدركين ان شرط النفوذ اكتشاف السنن الكونية او القوانين التي تنضبط بها الأشياء والظواهر ، ولقد كان أجدادنا العلماء منهم ( الذين يعلمون ) يبحثون عن قوانين الكون التي تحكم المادة وتضبطها بما في ذلك ( الانسان كوحدة من المادة والذكاء ) ويؤكدون احترامها وفهمها ، الامر الذي كان يجعلهم دائما على أبواب الانتصارات العلمية والدعوية والمدنية بل على أبواب الحرية .. حرية الإنسان عبر الزمان والمكان من خلال القبض على مفاتيح قيوده وحل مشكلاته، بما يحقق فكرة الخير للبشرية عموما، سعادة وكرامة وحياة أفضل …
وكان هذا وجها أول كتب قادته ورواده صفحات ناصعة لعروبتنا ولإسلامنا وللناس كافة.. وكان وجه تقدمنا عبر العصور..
الوجه الثاني:
بينما كان الوجه الآخر لتاريخنا المظلم هو فهم الاسلام على وجه انغلق على أصحابه من المتسلطين ومواليهم، الذين لم يروا فيه سوى سلطة وتسلط برداء ديني يسحبون بساطه نحو ما يخدم هواهم … ويكونون بهذا انما قد صنعوا او اخترعوا شكل وماهية إسلامهم بما يشبع نزواتهم وأطماعهم ورغباتهم ومصالحهم الخاصة … وهم اما يعلمون وينافقون او يجهلون فيضلون ويضللون ….
وإذا قرأنا التاريخ الاسلامي بعد الخلافة الراشدة سنجد ومنذ مقتل الخليفة عثمان الى حرب علي ومعاوية (رضي الله عنهم).. الى حرب معاوية ضد معارضيه مروراً بعصر الحجاج الثقفي، الى حرب عبد الله ابن الزبير الى قصف الكعبة على يد الحجاج، الى مقتل الحسين الى حروب انتقال السلطة من الأمويين الى العباسيين مرورا باقتتال الأمين والمأمون.. وامتلاك (الفرس) قرار الخلفاء في السلطة، تحت رداء اسلامي او مذهبي.. إضافة الى تعذيب العلماء المخالفين للسلطان وقتلهم وصلبهم وقطع ألسنتهم … ليس هذا فحسب بل لقد طال التحكم بالسلطة رؤوس بعض الأبطال الفاتحين حيث أتت رؤوسهم على طبق نتيجة الصراع على السلطة.
كل هذا كان باسم الدين والفتوى ودس الحديث بما يناسب الخليفة او السلطان …
تلك السيرة (في الوجه الثاني القاتم) لم تكن اختلافا خلاقاً في فهم الدين او اجتهادا مبدعا فيه … بل كان صراعا سياسيا للقبض على السلطة.. ولوياً وتطويعاً للدين أو بعض الحديث لإضفاء الشرعية على الخليفة او السلطان الحاكم.
لكن من جهة أخرى: وبينما كان المتسلطون يتصارعون على السلطة وينتقون أو يدسون الحديث الذي يمكنهم منها، كان آخرون قلوبهم عامرة بفهم صحيح للإسلام يجاهدون بالكلمة وبأنفسهم ليوصلوا رسالة الاسلام ، وكان عملهم فتحا مبينا للعالم بكل ما تعنيه كلمة ( مبين ) اي ان فتحا ثقافيا وحضاريا كانت الجغرافيا فيه او امتلاك الارض ما هي الا وسيلة او فتح طريق لتحقيق ذلك الفتح المبين ، وكانوا غالبا شبه منفيين الى ابواب العالم من قبل المتسلطين ( أكان لقبهم ملكا ام خليفة للمسلمين ) وكانوا بهذا راضين لما في ذلك من ثواب في جهاد حضاري زاهدين بالسلطة والسلطان ..
ومنه: فإن طليعة عربية مسلمة (كسداء ولُحمة) فهمت الدين فهما صحيحا ففتحت بهذا الفهم العالم.. وكان دائماً هناك فرق:
– بين مسلمين امتلأت قلوبهم بالإيمان والفهم الصحيح للإسلام فكانوا هم الفاتحين.
(والذين وصفهم الله عز وعلا في كتابه بالذين يعلمون) وعدم مساواتهم (بالذين لا يعلمون) اي الجاهلون بالمعرفة … من خلال الآية (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)..
– وبين مسلمين امتلأت عقولهم بكيفية التمكن من السلطة والتسلط وراحوا فيما بينهم يتناحرون وكانوا هم اول من أسس للاستبداد والظلم على وجه يتنافى والإسلام من خلال الصراع على الحكم.
من هنا كان (المسلمون) يتناوبون على حكم مساحات من الارض والمجتمع عشرات السنين بل مئات السنين، فكان لدينا دولة المدينة ثم الدولة الراشدية ثم الدولة الأموية ثم الدولة العباسية وضمنها (الحاشية او الدولة البرمكية) وقبلها الدولة القرمطية ثم الدولة الفاطمية والدولة الصفوية، والدولة المملوكية والدولة العثمانية.. ودولة الأندلس أرقى الحضارات علماً ومعرفة وعمارة وصولا إلى طرق أبواب (بواتيه) الفرنسية ومعركة بلاط الشهداء… ثم سقوط غرناطة.. الذي لا يوازيه الا خارطة سايكس بيكو بعد سقوط الخلافة العثمانية.
ولكل دور، كان هناك مآسي من الصراع طال حتى الكعبة المشرفة يوم سرق القرامطة الحجر الاسود، … وبالمقابل كانت هناك حضارة وعلوم وعمارة وفتوحات كفتح القسطنطينية وشرق أوربا على يد الدولة العثمانية، او انتصارات تاريخية عظمى كهزيمة التتار على يد المماليك وردهم عن بلاد العرب بل والعالم. بينما لعب الصفويون دوراً شتت العالم الاسلامي وقسمه مذهبياً وما زال تحت راية اسلامية صفوية المضمون بعنصرية فارسية …والسؤال بالنظر لما تقدم: هل يستوي ملوك ودول سادت او بادت في التقييم ؟ بالتأكيد لكل دور تاريخي، قراءة فيها الأبيض والأسود أو أحياناً الأسود كلياً ، ومن هنا لابد من اعادة كتابة التاريخ او فهمه او تقييمه وفق خط سيره صعوداً او هبوطاً بما يحقق المصلحة العليا للناس وفق نهج خلاصته صنع الخير حيث كان هذا جوهر وهدف الاسلام.
نحن نستقي شواهدنا من الأزمنة المضيئة كزمن الخلافة الراشدة وزمن الرسول الكريم وزمن عمر بن عبد العزيز وزمن الرشيد …. كمحاولة لما نراه ناصعا.. ثم حتى ونحن نتحدث عن وجهين برزا في التاريخ الاسلامي لا ننظر إليهما على طريقة الابيض والأسود بل ضمن كل لون توجد رماديات.. ولكننا نصف كل وجه بالإجمال بما يغلب عليه من النصوع او السواد.. الظلم أو العدل …. وقد أرسى الاسلام كل ما يؤمن حياة مستقرة كريمة للفرد على تراب وطنه (اي وطن) داخل سلطة الخلافة الاسلامية جغرافيا، وعماد تلك الحياة: الكفاية والعدل والمساواة وهذا وجه وجوهر الاسلام الحقيقي وكلما كانت المواطنة او مضامينها تهتز وتضيع؛ كنا نشهد ذلك من خلال اختراق المستبدون سنن وقوانين حمايتها، وكان هذا هو الوجه السلوكي للمستبدين برغم كونهم مسلمين … وهذا السلوك قلنا انه ناتج عن فهم خاطئ للإسلام او تزوير لتعاليمه أو تماهي في السلطة والمُلك.
الاسلام انتصار ديني وإنساني واجتماعي وأخلاقي كان كل مضمونه ان يحقق لبني آدم حياة كريمة حرة يحكمها العدل والمساواة في الحقوق والواجبات وهذا ما يسمونه اليوم بلغة العصر (المواطنة) بكامل أبعادها وحقوقها وواجباتها … وهو في جوهره ملاذاً ضد الطغاة والغزاة والغلاة ..وحين نتحدث عن المجتمع المدني علينا دائماً أن نستحضر ونستذكر ما فعله وأسسه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في إنشاء أول مجتمع مدني في المدينة المنورة وكتب له أول دستور في العالم سماه ( الصحيفة ) حفظ حقوق المجتمع على تنوعه الديني او العرقي ..
آن الأوان لنسطر صفحات عصرنا، يتألق فيها التاريخ عملاقا من خلال مقولة سجلها التاريخ بحروف مشرقة لخصها الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) فيكون عبرها الفتح الحضاري المبين في هذا الزمن الحزين …من هنا تبدأ الثورات لفهم وتغيير جديدين.