أعتقد أنه بعد أن أنجز بشار الأسد المهمة الموكلة اليه من مواليه في طهران بتدمير المدينة القديمة العريقة في (حلب) وخرب أسواقها ومساجدها وآثارها وما تضمه من نفائس وأوابد وعمائر لا تقدر بثمن أبدا, فإنه بدأ مع بداية شهر نيسان / أبريل 2014 الشطر الثاني من المهمة نفسها , أي تدمير المناطق الحديثة من المدينة ذات الجمال والفخامة والابهة التي تضاهي أرقى وأبهى المباني والعمائر التي أبدعتها أيدي المهندسين والحرفيين المهرة في المدن العالمية الحديثة والعصرية .. لندن وباريس وروما وبروكسيل وستوكهولم .
أعرف هذه المدن وغيرها من مدن أوروبا الجميلة وعشت فيها وتجولت بينها 32 سنة متصلة , وأعرف مدينتي الأصلية حلب الشهباء واستطيع بعد عقد المقارنة القول بثقة تامة إن في حلب مباني وعمارة فخمة وقصورا تضاهي أحدث وأجمل ما يمكن مشاهدته هنا .
في حي (الزهراء) الذي تقع على جانبه الغربي القلعة الأمنية الحصينة أو بالأحرى القاعدة العسكرية للاستخبارات( الجوية) وتحتدم المعارك الضارية فيه منذ عشرة أيام شارع فائق الروعة والحداثة يحمل اسم الشيخ محمد الشامي, هندسته تدل على أقصى درجات الرفاهية والبذخ والاسراف في التنظيم والفخامة والجمال . شارع عريض فسيح ذو اتجاهين , وعلى جانب كل منهما رصيف عريض , يلي كلا منهما مساحة مريحة مخصصة لزراعة أجمل الاشجار والزهور تتقدم مداخل مباني فخمة مبنية بالحجارة الحلبية الرائعة الجمال والصلبة التي تقاوم الزمان وتقاوم العوامل البيئية والمناخية فلا تتأثر بها . يمتد الشارع الطويل شرقا باتجاه حي (حلب الجديدة) وحي (الفرقان) بين قصور تفنن المهندسون المعاصرون بابتكار اشكالها وواجهاتها الحجرية الأنيقة وزخارفها الفاتنة التي تتألف من حجارة حلب المميزة المائلة للصفرة والرخام والمرمر الأبيض . قصور لم أجد ما يماثلها في ستوكهولم أو مدن السويد الأخرى مما بنى خلال القرن العشرين, بينما يوجد ما يماثلها في مباني السويد التي تعود للقرون السابقة حين كانت الطبقة الغنية تتنافس في بناء القصور الفارهة. في هذا الحي بدأ الحلبيون غرس (الحديقة العالمية) التي خطط لها لتضم أندر الزهور والاشجارفي العالم في هذا الحي الراقي الجميل تدور المعارك الشرسة والهمجية من بيت الى بيت ومن بناية الى بناية بلا رأفة ولا رحمة, لا بالبشر ولا بالحجر , التدمير والتهديم والابادة والحرق هي الغايات التي يسعى لها بلا مواربة ولا لبس ضباط الاستخبارات ووكلاء بشار الاسد في هذه المدينة التي حكموها بالفساد والارهاب, وشعارهم الأوحد إما أن تكون لنا أو لا تكون لأحد.
هؤلاء السفال الأنذال أوباش التاريخ الجدد كانوا طوال عهد الاسد يتنافسون فيما بينهم ويدسون الرشى في أيدي رؤسائهم ليرسلوهم للخدمة في حلب أغنى مدن سوريا وأرقاها وأكبرها لأنهم كانوا يعودون منها أثرياء يحملون الملايين التي يجبونها ويجنونها عنوة من الحلبيين تجارا وصناعيين ومزارعين . ونكرر للمرة المائة إن هؤلاء الأوغاد الفاسدين يضمرون حقدا تاريخيا على هذه المدينة الفريدة يمتزج فيه الحقد الديني الطائفي والحقد الطبقي الاجتماعي . وبدوافع عميقة وجارفة من هذا النوع يمارس هؤلاء المجرمون ادارة الصراع في حلب , يفرغون سموم أحقادهم الدفينة على حلب الأصيلة وأهلها, أهل الفنون والحضارة والابداع في كل المجالات . ويخيرون السكان بين خيارين أحلاهما مر , فإما أن يرضخوا للطاغوت وإما تدميركل شي وابادة الجميع .. هكذا بكل وضوح . وإذا كان هؤلاء قد ابتكروا وسيلة مميزة لمعاقبة كل مدينة من مدن سوريا , فإنهم اختاروا لحلب (براميل الموت) التي يلقونها ليل نهار على رؤس البشر وعلى الأحياء السكنية لأنها تختصر الابادة والتدمير المنهجي , وقد أتم شذاذ التاريخ تدمير حلب القديمة حتى لم يبق منها سوى الركام والأطلال والخراب , وها هم الآن يتابعون المهمة بتدمير حلب الحديثة وأحيائها الراقية التي انفق عليها اصحابها المليارات لتكون وجه سوريا المعماري والهندسي الراقي العصري الجميل . في التاريخ القديم دمر الفرس حلب مرتين وأحرقوها وهجروا سكانها أو أبادوهم ثم عاد الحلبيون فبنوها واعادوها أجمل مما كانت , والحلبيون اليوم يعتبرون ما يحدث انتقاما فارسيا للمرة الثالثة من المدينة التي استعصت عليهم قديما وحديثا . لم يبق من سكان حلب الذين يناهزون الستة ملايين سوى مليون ونصف حاليا . في يوم قريب سقط ثمانية براميل على أحد الأحياء فاتصلت أسأل كم من الشهداء سقط فقال لي محدثي من حلب : شهيدان فقط , فدهشت لقلة العدد فقال لي : لم يبق سكان , الكل هاجر ونزح بسبب براميل الموت والقصف بصواريخ سكود والطيران الحربي الذي لا يمنعه عن مواصلة قصفه سوى العوامل الجوية أحيانا .
وبطبيعة الحال فحكم الابادة الصادر على حلب يشمل أيضا ريفها الذي بدأ عملية تحرير المدينة منذ سنتين , الليرمون وحريتان وعندان وبيانون وحيان واعزاز ومنغ والاتارب والسفيرة ودارتعزة ومارع … ومئات القرى دمرت عن بكرة أبيها بصواريخ تكفي لتدمير المدن الكبرى وإما في طريقها للتدمير . قبل أيام كنت أحادث أحد الاعلاميين الذين أنتجتهم الثورة , وهو من عندان التي يسميها الحلبيون ( قرداحة الثورة) قال لي في هذه اللحظة تنهمر صواريخ سكود علينا , فسألته كم عدد الشهداء فأجاب : صفر , استغربت كثيرا وقلت كيف يتناسب ذلك مع كثافة القصف بالصواريخ الباليستية على قرية كبيرة ..؟ فأجابني : ليس في عندان سكان أبدا.. سألته أين ذهبوا..؟ فقال إنهم موزعون في قمم الجبال.. قلت هل هم في الكهوف.. فرد قائلا : لا .. إنهم ينامون في العراء يفترشون التراب ويلتحفون الهواء , وقلة منهم توزعت على القرى القريبة !!
حلب ليست في نظري مدينة , ولكنها الحضارة الانسانية نفسها مجسدة في متحف عالمي لا مثيل له في أي مكان على كوكب الأرض , ولا يستفزني ويثير اشمئزازي من سلوك الطبقة السياسية الحاكمة في العالم بعامة والدول الكبرى بخاصة سوى تجاهل ما تتعرض له مدينة بهذه القيمة . على مدى سنتين والتدمير يجري بالآلية التي أشرنا لها سابقا. فلا ساسة الدول الكبرى يكترثون , ولا دبلوماسيو الأمم المتحدة يستجنون , ولا حكماء اليونسكو يحتجون , ولا أحد يتساءل اين ذهبت الغيرة العالمية التي رأيناها عندما دمرت طالبان الأفغانية ثلاثة تماثيل لبوذا ؟ ! هل هناك قرار بتدمير حلب لأنها هوية سوريا العربية الاسلامية الحضارية ..؟ هل هي مشاركة في عملية تشويه مبرمجة لفرض هوية جديدة لهذه المدينة ..؟ أم هي ارادة دولية خفية للقضاء على مواقع الحضارة الأصيلة التقليدية لخلق واجهات حضارية بديلة للعالم عنوانها : نهاية التاريخ .. ونهاية الحضارة الأصيلة .. ؟!
كل الأسئلة الوقحة مباحة في ظل الصمت الدولي المريب المعيب .
************************
هذا المقال منشور في العدد 220 من مجلة الشراع اللبنانية الصادر في بيروت بتاريخ 18 /4 / 2014 .. ولذا وجب التنويه .
حلب الحضارة الانسانية نفسها مجسدة فيها كمتحف عالمي لا مثيل له في أي مكان على كوكب الأرض, تم تدميرها كأوابد ونسج إجتماعية وثقافي وحضاري تحت أعين والأنظمة الحاكمة بالعالم بعامة والدول الكبرى، متجاهلين ما تتعرضت له كمدينة بهذه القيمة وبقية المدن بسورية، الله يرحم الكاتب العروبي المناضل محمد خليفة وأسكنه فسيح جناته.