تواجه حكومة الاحتلال أزمة جديدة تنذر بتفكيكها، بعدما وصلت قضية تجنيد اليهود الأورثوذوكس (الحريديم) للخدمة العسكرية إلى طريق مسدود، وهي قضية جوهرية تؤجج الانقسامات التي سادت إسرائيل بشكل غير مسبوق، طيلة العام المنصرم، حتى عملية “طوفان الأقصى”، في السابع من أكتوبر 2023.
يشكل “الحريديم” اليوم نحو 13 % من اليهود في البلاد، وهم مختلفون بنمط حياتهم بشكل واسع وحقيقي، فهم لا يؤدون الخدمة العسكرية، لا يعملون (يرسلون نساءهم للعمل)، ولا يتعلمون الرياضات والعلوم والإنكليزية في الأغلبية الساحقة من مدارسهم، ورغم ذلك يحظون بمخصصات مالية شهرية، فيما تحظى مؤسساتهم التعلمية بميزانيات سخية.
ويعتقد هؤلاء أن المهمة الأهم بالنسبة لليهود هي تعلّم التوراة طيلة سنوات بعد إنهاء المرحلة الثانوية أيضاً، زاعمين أنها “القبة الحديدية” الحقيقية التي تحميهم من الشرور. مثل هذه الأفكار الغيبية والمعتقدات التراثية طالما أثارت حفيظة أغلبية الإسرائيليين، خاصة العلمانيين الذين يرون بـ “الحريديم” عبئاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، لكن هؤلاء طالما نجحوا بالتهرّب من أداء الخدمة العسكرية من خلال الابتزاز والسلوك السياسي الانتهازي عبر أحزابهم التي كانت تلعب دور “بيضة القبان” بين معسكرين صهيونيين متصارعين على الحكم منذ 1948، يمين ويسار.
وفي فترات مختلفة، أثار تهرّب الحريديم من الخدمة العسكرية نقاشات واسعة ومبادرات لتسوية المسألة، لكن كافة الحلول التي تم توفيرها بقيت مؤقتة أو جزئية أو وهمية لأنها لم تدفع في نهاية المطاف لضمهم للقوات العسكرية.
التماسات للمحكمة العليا
وفي السنوات الأخيرة، رفعت جهات أهلية وحزبية التماسات للمحكمة الإسرائيلية العليا تطالب بإلزام الحكومة بتجنيد الحريديم في الجيش، على مبدأ المساواة في الأعباء. وبعد مماطلة متكررة، حدّدت المحكمة الأول من أبريل/نيسان الوشيك موعداً أخيراً لإعفائهم من الخدمة العسكرية، مثلما حدّدت الساعة الثانية بعد ظهر اليوم موعداً نهائياً لتقديم الحكومة جوابها على الالتماسات، وعلى السؤال لماذا لا تجنّد الحريديم.
وينتهي مفعول قرار الحكومة، الذي أتاح عملياً عدم تجنيد الحريديم، في الفاتح من نيسان، وبعد ذلك تضطر الدولة لفرض التجنيد.
ومن جهتها، تطالب المحكمة الحكومة بإطلاعها، في موعدٍ أقصاه اليوم الخميس، حول موضوع تشريع قيد الصياغة في موضوع التجنيد.
على خلفية ذلك، حاولت حكومة الاحتلال التوافق على صيغة لمشروع قانون خاص بتجنيد الحريديم، لكن بعض الأوساط داخل الائتلاف الحاكم، على رأسها وزير الأمن نفسه يوآف غالانت، تبدي معارضة له، وتعتبره قانون عدم التجنيد، بل قانون إعفاء، لأنه يعفي شبابهم من الخدمة حتى جيل 35 عاماً، وهذا ما تؤكده طبعاً المعارضة برئاسة يائير لبيد.
ولذلك تعارض النص المقترح من قبل الحكومة مستشارتها القضائية بهراب– ميارا، التي تعتبره فارغاً لا يعتمد على حد أدنى من أساس مهني، ومن غير الواضح كيف سيقود لمساواة في تحمل الأعباء. وتعلّل بهراب- ميارا رفضها له بالقول إنه لا يشمل أي رأي أو وثيقة تظهر كيف تنوي الحكومة صياغة نظام يقود لتعزيز المساواة في الأعباء. كما تعارض بهراب– ميارة طلب الحكومة بإرجاء رد الدولة للمحكمة العليا اليوم، وتقترح على الحكومة أن يكون رد الدولة للمحكمة العليا: “ينبغي الاستعداد لتجنيد الحريديم في الأول من نيسان، ووقف الميزانيات لطلاب المدارس الدينية التي لا يمتثل طلابها لنداء الخدمة الإلزامية”.
اتهامات متبادلة
وكان سكرتير الحكومة الإسرائيلية قد عمم مذكرة، مساء أمس، قال فيها إن المستشارة القضائية للحكومة منعت تمرير قرار حكومي جديد في الموضوع، وإنها تدفع من أجل تفكيك الحكومة. في المذكرة اتهم السكرتير أيضاً وزارة الأمن بعدم التعاون مع نص قانون خاص بالخدمة العسكرية للحريديم.
وسارع وزير الأمن غالانت للرد بالقول إن “هذه اتهامات كاذبة”.
ومن جهتها، ردّت المستشارة القضائية للحكومة هي الأخرى بالقول إن هذه مذكرة مضللة ومليئة بالكذب، وتتجاهل ملاحظاتها.
تنقل صحيفة “هارتس”، اليوم، عن وزراء كبار قولهم إن نتنياهو يميل لعدم مطالبة المحكمة بمهلة، وبالتالي يتيح انتهاء صلاحية قرار الحكومة الذي أتاح عدم تجنيد الحريديم، لكنهم قالوا، في ذات الوقت، إنه سيطلب من المستشارة القضائية للحكومة أن تدعي في المحكمة بعدم القيام بوقف ميزانيات المدارس الدينية فوراً، بل بالتدريج”. ويستدل من هذا الميل لدى نتنياهو أنه يسعى عملياً للتأجيل وكسب الوقت، حفاظاً على بقائه في الحكم، وعدم تفكّك حكومته، من خلال عدم إزعاج أو استفزاز شركائه الحريديم في الائتلاف.
مداولات الساعة الأخيرة
في محاولة لتحاشي أزمة خطيرة تهدد مستقبل الائتلاف الحاكم، اجتمع نتنياهو، الليلة الفائتة، مع رؤساء الحريديم، وحاول التباحث في صيغ مختلفة لإعفاء الحريديم من التجنيد لحد بعيد، وفشلوا في التوصل لتفاهمات، بيد أن الحريديم يعارضون كل محاولة أو فكرة لتضمين مشروع قانون خدمة عسكرية جديد يشمل تحديد أعداد معينة من الحريديم.
ويرى الجيش أنه لا يمكن تجنيد كل الذين يلزمهم القانون بالخدمة العسكرية، وأنه مستعد للتعايش مع تجنيد 50% فقط من الحريديم بعد سن 23 عاماً، ما يعني تجنيد 5000 شاب منهم سنوياً، وهذا ما يرفضه الحريديم أيضاً.
وفي حال رفضت الحكومة الإسرائيلية موقف المستشارة القضائية، فإنها ربما تقدّم رداً للمحكمة العليا يشرح الخلاف في الموقف، أو أن يتم تقديم ردّين منفصلين واحد لها وواحد للحكومة مباشرة، على أن يكون القول الفصل للقضاة.
ويتهم حزب “يش عتيد” برئاسة يائير لبيد، رئيس المعارضة، الحكومة بالتنصّل من مسؤوليتها لحل المسألة، وتتهم كل العالم بالفشل في تجنيد الحريديم ولو جزئياً. وجاء في بيان “يش عتيد”: “مشروع القانون المقترح من طرف الحكومة لإعفاء الحريديم عملياً هو إهانة للجيش وجنوده. الوصمة ستبقى على جبين نتنياهو وأعضاء حكومته للأبد”.
إعصار هوريكان
وطبقاً لتسريبات صحفية محلية، يحذّر قادة الحريديم أن هذه الأزمة من شأنها أن تؤدي لسقوط الحكومة، فيما يرى بعضهم أنه من المفضل، في هذه المرحلة الحساسة بسبب الحرب المكلفة على غزة، عدم التوصل لصيغة قانون، حتى بثمن وقف الميزانيات للكليات الدينية الخاصة بالحريديم، أو الذهاب لانتخابات عامة مبكرة.
وتبلغ مسألة تجنيد الحريديم ذروة جديدة، من ناحية انقسام الإسرائيليين والحساسية النابعة منها، بسبب تزامنها مع الحرب على غزة التي أنهكت الإسرائيليين بعدة معان، ما طرح بقوة موضوع التساوي في تحمّل الأعباء. ويعبّر رسم كاريكاتير، نشرته “هآرتس” اليوم، عن حساسية الحالة الراهنة، حيث يسبّب إعصار هوريكان انتشار الوزراء ومقاعدهم في عدة اتجاهات بالهواء.
المصدر: “القدس العربي”