نصحو في منطقتنا العربية، كل يوم، على وقع انتصار جديد. لا تكثر الانتصارات إلا في بلدان تعيش هزيمة تاريخية مزمنة، وهذا الجوع الشديد إلى الانتصار معناه أن الهزيمة التي تعيشها المنطقة كبيرة وعميقة، وكلما تحدثوا عن الانتصارات نشتم رائحة كوارث جديدة.
في فلسطين، نقترب مع حماس، والإسلام السياسي في المنطقة، بشقيه السني والشيعي، من نهاية إسرائيل واندثارها. يبدو أن تدمير إسرائيل لنحو 75 في المئة من قطاع غزة، وقتلها لنحو ثلاثين ألف فلسطيني وفلسطينية، وجرحها لضعفي هذا العدد، إضافة إلى تشريدها لمليونين منهم تقريباً… إلخ، كل هذا لا يشكل مشكلة، وليس شيئاً في ميزان الربح والخسارة أو الانتصار والهزيمة عند حماس والجزيرة وسائر الإعلام العربي، انسجاماً مع مقولة “ما دام النظام بخير فقد انتصرنا”، هذا إن افترضنا أن حماس بخير. يُقال إن حماس قد غيرت قواعد الاشتباك؛ ربما لن تبقى حماس، أو قد تبقى لكن بلا مخالب، لتستمتع بقواعد الاشتباك التي غيرتها، وربما لن يجد الحماسيون الباقون أرضاً فلسطينية تصلح لأن تشكل نقطة انطلاق لعملياتهم المستقبلية. مئة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ليس له من معنى سوى أننا خسرنا مئة ألف حلم وأمل حياة ومستقبل. إسرائيل مجرمة، ومسؤولة، لكن نحن، في الحد الأدنى، مسؤولون أيضاً إذ نرى ما يحصل انتصاراً.
في العراق، انتصر نظام صدام حسين في “أم المعارك” مع أنه لم يبق حجر فوق حجر في العراق، ليأتي موعد سقوطه وفق الترتيب الأميركي. انتصرت المعارضات الطائفية التي عارضت النظام العراقي، لكنها لم تستطع أن تبني ربع دولة بعد ربع قرن، وتحولت إلى جماعات أجيرة تقاتل في كل مكان وفق الإيقاع الإيراني، ناشرة التخلف والإرهاب في العراق وخارجه على طول “طريق القدس”.
في سوريا، انتصر النظام السوري وانتصر معارضوه أيضاً. انتصر النظام وضاعت سوريا. نجحت العملية التي أجريت للمريض، لكن هذا الأخير توفاه الله، المهم أن النظام بخير. انتصرت الثورة مع أن جمع ثلاثة سوريين على هدف ما لمسافة تزيد على عشرة أمتار يكاد يكون أمراً مستحيلاً. انتصرت الثورة لكننا أصبحنا شيئاً شبيهاً بالكائنات الحية التي تعيش بلا دولة ولا وطن في سوريا وخارجها. بعد نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبح السوريون في حكم نظام الأسد شيئاً مختلفاً عن السوريين في حكم “الائتلاف الوطني” و”حكومته المؤقتة” و”حكومة النصرة”، وهؤلاء جميعهم مختلفون أيضاً عن السوريين الذين يعيشون في حكم قوات “سوريا الديموقراطية”. اللاجئون السوريون في تركيا شيء مختلف أيضاً عن اللاجئين السوريين في لبنان أو الأردن أو مصر، أو في أوروبا. فلكلٍّ همومه ومشكلاته، بل ومزاجه النفسي أيضاً. أصبحنا بعيدين جدًا عن إنتاج دولتنا والتحول إلى شعب، لكن الثورة انتصرت!
السلطات المتحكمة في إدلب وما حولها مستغرَقة في تخريج حفظة القرآن، ومشايخها مهمومون بمراقبة ظاهرة الاختلاط في جامعة إدلب، حتى أنهم زاروها وتأكدوا من سير الأمور على الصراط المستقيم، ومن ثم أصدروا بيانًا من عشرة أسطر متخم بالأخطاء النحوية يباركون الفصل بين الجنسين في الجامعة. انتصرت الثورة بعد أن استطاع مثل هؤلاء الجاهلين الوصاية على الجامعة التي يُفترض بها أن تكون منارة العلم والمؤتمنة على تقدم المجتمع.
انتصرنا، مع أننا أثبتنا كسوريين درجة مطواعية هائلة في تنفيذ سياسات الدول أو الاندراج في سياساتها. كان الانتصار بأننا انشغلنا في كل شيء عدا ما يؤدي إلى تحولنا إلى شعب حقّاً ويمكننا من بناء دولة عصرية. ربع الدولة الذي كان موجوداً في سوريا قبل 2011 لم يبق منه شيء اليوم. من دون الدولة نحن يتامى. بمعيار سياسي، بعيداً عن المشاعر والتأويلات التي تصطاد في الماء العكر: الدولة المستبدة خير من اللادولة. لن تنتج المعارضات والجماعات المنشغلة بالأديان والطوائف والإثنيات والفصائل المسلحة والسفارات إلا الهراء.
انتصرت إيران في حروبها كلها، وشعبها يرفل في نعيم ما بعده نعيم. وانتصر وكلاؤها في لبنان، حزب الله، وفي سوريا والعراق واليمن. انتصر الوكلاء، لكن على جثة الدولة. كل مكان تدخله إيران تتبخر الدولة. اليوم لا توجد دولة، أو الحد الأدنى منها، في سوريا والعراق واليمن ولبنان. انتصر الحوثيون، وها هي بيانات “القوات اليمنية” تمطرنا كل يوم ببيانات الانتصار بفرح واعتزاز لا مثيل لهما، وكأن أصحابها قد خرجوا توًّا من كهوف التاريخ. اليمن الممزق الجائع يصدر البيانات النارية مهدداً أميركا وبريطانيا! هنا تحضرك المشاعر كلها دفعة واحدة: تريد أن تضحك وتسخر وتبكي وتشتم في آن معاً.
وانتصرت جماعات الإسلام السياسي كلها. كانت هذه الجماعات، وما تزال، في العمق، ضد الوطنية/العمومية، وظهر، في المحطات كلها، بألَّا مشكلة لديها في التحالف مع الشيطان ذاته استجابةً لجوعها المزمن للسلطة واستعادة أمجاد الفتوحات، ولو كان ذلك على جثة الدولة والمجتمع.بدلًا من جعل الدين مصدرًا للروحانيات وتعزيز القيم الإنسانية والتعاون بين البشر حولناه إلى قيد يكاد يفتك بوجودنا كله، ومرجعية للتقاتل في ما بيننا، ومصدراً لتبرير كل رذيلة.
يبدو أن أنظمة هذه المنطقة، وقادتها وزعماءها وميليشياتها ومعارضاتها وأحزابها ونخبها، قد نزلت جميعها من السماء. شخصيات وكيانات إلهية المصدر ولا تعرف إلا الانتصارات. ربما هذا ما جعل المنطقة متخمة بالأيقونات والشهداء والجهاديين والمقاومين، و”العلماء” أيضاً، “علماء الدين” طبعاً. لقد سارت نخب هذه المنطقة، أو التي يفترض أنها نخبها، في ركاب الشعبوية، ومارست الغوغائية، وأبدعت في إنتاج الأوهام. وفي نظرة إلى الخلف خمسين عاماً، سنكتشف ببساطة أن مسيرة المنطقة كانت انحدارية، من سيء إلى أسوأ. منطقة لا تنتج شيئاً، لا بالمعيار العلمي، ولا الحضاري الثقافي، ولا بالمعيار الإنساني، قدماها في الحاضر وعقلها في الماضي. منطقة لا تنتج إلا الاجترار، والانتصارات!
لقد أصبح خطاب الانتصار قميئاً إلى درجة يصعب وصفها، وأصحابه من أردأ البشر. تسعى الأمم للخروج من مستنقع الهزيمة، وهذا طبيعي، بينما نحن فإننا أحوج ما نكون إلى مغادرة مستنقع الانتصارات التي نعيش فيها، فالمنتصرون في هذه المنطقة، بانتصاراتهم جميعها، هم الوقود الذي تتغذى منه هزائمنا المستمرة. أيها المنتصرون، متى سترحلون؟ المسرح انهار على رؤوسنا.. ورؤوسكم!
المصدر:963 سوريا وأحوالها