منذ اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب (الراحل) بشير الجميل؛ والتجاذبات التفكيكية للمجتمع اللبناني: وطنا وشعبا ومؤسسات؛ تتوالى بتصاعد ملفت وتراكم واثق الخطى.. كان الجميل آخر عمالقة المجتمع اللبناني المتمسكين بلبنان الواحد وطنا لكل أبنائه.. اغتالته أجهزة دولة الكيان الصهيوني، بأيدي محلية تخلصا منه لتمسكه بلبنان الواحد الموحد/ رفضا تقسيمه أو الانتقاص من أرضه وسيادته.. ولم تشفع له علاقته الودية بدولة “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) لأنه تمسك بشعاره المعروف: “كل لبنان بمساحته الكاملة 10452 كلم مربع”، وهذا ما دفعها الى اغتياله لتتخلص من عقبة مهمة وكبيرة بوجه مشروعها التقسيمي والاحتوائي للبنان كله.. ولم يكن لينمو ويكبر هذا المشروع الصهيوني فيما لو بقي لبنان موحدا، كما كان إصرار بشير الجميل..
وتوالت بعد ذلك موجات العصبيات الطائفية والمذهبية الانقسامية إلى أن بلغت حدا مرموقا في الواقع الموضوعي الراهن.. حيث لا لبنان واحدا موحدا: لا دولة ولا شعبا ولا وطنا.. بقي الإسم فقط، وهو ما لا يكفي ليكون وطنا..
ورث بشير الجميل، دعاة تقسيميّون طائفيّون تحت حجة حماية الوجود المسيحي في لبنان.. وكأن الجميل كان يفرط بهذا الوجود، وهو يؤكد تمسكه بلبنان الواحد؛ أو كأنه تخلّى عن مسيحيته، وهذا ليس صحيحا أبدا.. لا يعدو الأمر إلا أن يكون غطاء لتمرير مشروع تفتيت لبنان، وتفكيكه شعبا وأرضا ووطنا ومؤسسات، ليصبح لقمة سائغة في فم من يريدون السيطرة عليه وإلحاقه بمشروعهم التوسّعي الإلحاقي.. وهنا يبدو الهدف الصهيوني واضحا بحيث تبين وقائع الأحداث منذ الخمسينات من القرن العشرين، عمل الصهاينة المتواصل للتخلص من لبنان الوطن الموحد لسببين أساسيين:
الأول: باعتباره وطنا يعيش فيه أبناء ديانات وطوائف متعددة، يمثل نقيضا للمشروع الصهيوني الذي يغطي مراميه الاستعمارية بشعارات دينية، تجعل من “إسرائيل” دولة لليهود فقط”.. فلا يستقيم هذا الإدعاء بوجود لبنان، كوطن، يعيش فيه مسيحيون ومسلمون ويهود، من دون أيّ أخطار حقيقية تهدد وجودهم ووحدة وطنهم إلى أن نشطت الصهيونية وإستحكمت..
الثاني: إن لبنان يدخل في نطاق دولة الصهيونية الكبرى من الفرات إلى لبنان.. ولا يستتب أمر هذا الإلحاق ما بقي لبنان موحدا قويا؛ فلا بد إذن من تقسيمه، اعتمادا على بعض أبنائه الذين باتوا يمهّدون السبيل لإستيعابه من قبل الأطماع الصهيونية، بشكل أو بآخر.. علموا بذلك أم لم يعلموا.. فلا تهم معرفتهم بمدى تواطئهم مع المشروع الصهيوني، طالما هم يسهلون له ويسرعون له إندفاعه.. يستوي في ذلك كل عمل تقسيمي تحت أي ستار.. ومن الستائر ما هو تاريخي ومنها ما هو ديني – طائفي أو مذهبي، ومنها ما هو ثقافي إجتماعي..
وعلى الجهة المقابلة، تصاعدت حدة طروحات تقسيمية طائفية، أولا: تحت حجة مواجهة التطلعات المسيحية الطائفية الإنفصالية؛ ثم مذهبية متخذة أشكالا متنوعة بغطاءات متعددة، أخطرها ما نجح في ربط الإنقسام المذهبي بين المسلمين، بالعقيدة الدينية أولا، ثم بمقاومة الخطر الصهيوني ثانيا..
كان لغياب شخصيات قيادية وطنية ذات رؤية واضحة وإرادة أوضح؛ عند المسلمين والمسيحيين معا؛ دور مهم في نجاح وبلورة الطروحات التقسيمية واقعيا، وإن بقيت تتحدث عن لبنان الوطن مفرغا من أيّ مضمون حقيقي..
وكان دور الأجهزة الأمنية المتواجدة في لبنان، جليا في إبراز تلك الطروحات وحمايتها وتطوير سعيها، لتتحول إلى مؤسسات عملية واقعية ذات إمكانيات اقتصادية ومالية، ومؤيدين وجيوشا ومشاريع مبلورة سياسيا ومتمايزة ثقافيا واجتماعيا..
كان الدور الأبرز لأجهزة النظام السوري في استبعاد أيّ طرف له صلة بمقاومة الخطر الصهيوني، عمليا وواقعيا، ثم إفساح المجال واسعا ليتقدم على طريق “المقاومة”، طرف وحيد ذو خلفية مذهبية تقسيمية؛ فجعل بما يملك من إمكانيات كبيرة؛ المذهبية الدينية مضمونا وحيدا للمقاومة، وهو ما أفقدها بعدها الوطني المطلوب واللازم، لتكون قضية كل اللبنانيين، عوضًا عما هي عليه الآن، طرفا في المنازعات السياسية والحزبية والفئوية..
وفي هذا تفسير ولو جزئيا لحالة الانقسام الحاد في الوضع اللبناني، واتخاذه كغطاء للموقف من الخطر الصهيوني، أو بمعنى أدقّ، لطبيعة المقاومة ومضمونها وامتدادها، بعد أن فقدت صلتها بمجمل الوطن اللبناني لتكون قضية فئوية مذهبية..
أما جذور الانقسام اللبناني البعيدة، فتمتد إلى عمق تكوين النظام السياسي الذي حكم الدولة اللبنانية منذ الاستقلال.
نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية الذي رهن لبنان للنفوذ الأجنبي، وترك اللبنانيين ضحايا تدخلات هذا النفوذ وأطماعه وأخطاره؛ الأمر الذي جعل فكرة الاستقواء بطرف أجنبي، شرطا من شروط السياسة في لبنان، حتى شملت الرعاية الأجنبية كل مكونات هذا اللبنان، بما فيه أحزابه ونقاباته ومؤسساته وكل أركان نظامه؛ الثابت منها والمتحوّل المتغير..
كان الاستثناء الوحيد لهذا الواقع وفيه؛ حقبة الستينات من القرن العشرين، وتحديدا مع تجربة الرئيس (اللبناني الراحل) فؤاد شهاب، في بناء دولة حقيقية، مسنودا برعاية عربية من مصر الناصرية، تخفف عنه أعباء وأخطار الهيمنة الأجنبية وإن لم تلغها تماما..
وما أن تزايدت ضغوط الخارج لإنهاء التجربة، حتى أعيدت الأبواب مفتوحة أمام الهيمنة الخارجية وأدواتها الإقليمية.. كانت البداية بضغوط الإتحاد السوفياتي على الحركة الوطنية التي أثمرت تخلّي (مؤسّس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان) كمال جنبلاط عن (الرئيس اللبناني الراحل) الياس سركيس، المستقل المؤيّد من القاهرة؛ وانتخاب (الرئيس اللبناني الراحل) سليمان فرنجية الجدّ، سنة 1970..
ومع وفاة (الزعيم العربي الراحل) جمال عبد الناصر، وتغيير السلطة في سوريا؛ فتحت أبواب كثيرة واسعة أمام التدخلات الأجنبية في لبنان، التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم من اضمحلال متعمد للدولة، مع ما يصاحبه من انحدار في كل شؤون المجتمع اللبناني في كل الميادين.. وليس فقط في الإنقسام السياسي المذهبي والطائفي، وغياب المشروع الوطني الموحد.
إن نظرة عامة للوضع اللبناني الراهن تبيّن جملة الحقائق المؤلمة التالية:
1/ غياب للدولة وشلل شبه تام في مؤسساتها العامة الخدماتية والسياسية والإدارية.. مع ما يعني هذا من تراجع كبير في متطلبات تسيير أمور اللبنانيين ولو بحدها الأدنى..
2/ إنهيار إقتصادي تسببت به أجنحة النظام السياسي الفاسد، متحالفة مع مافيات المال والأعمال..
3/ عدوان مستمر على عموم الشعب اللبناني، بنهب مدخرات المواطنين في المصارف بالتواطؤ بين السياسة والمال والحماية الأجنبية..
4/ تفكك إجتماعي، يتمثل بأنواع متعددة من العصبيات الإنقسامية والتقوقع والإنعزالية لدى جميع المكونات..
5/ إضمحلال الخطاب الوطني الجامع إلى حد الانتفاء. وسعي الجميع إلى نوع من التكينات الذاتية الضيقة، وكل طرف يتخذ من سعي الأطراف الأخرى سببا ومبررا للانكفاء الذاتي على التقوقع والانعزالية، بعيدا من فكرة مصير وطني واحد يجمع اللبنانيين جميعًا..
6/ تراجع تام لدور الأحزاب “الوطنية” والنقابات المهنية الى الحدّ الذي جعل المحازبين ينفضون عنها، والتقوقع في انتماءاتهم المذهبية أو المصلحية..
7/ غياب أي أثر للثقافة الوطنية الواحدة حيث كل مؤسسة تعليمية؛ مدرسة أو جامعة؛ تعلم طلابها أشكالا مبعثرة من الثقافة، بما فيها معرفة الوطن وهويته وتاريخه، وبالتالي مستقبله.. وسط إنحدار خطير في التعليم الرسمي والمستوى العلمي والتعليمي، وهزالة أوضاع المعلمين والأساتذة..
8/ إعلام مرتزق في معظمه، يسهم في تسويق الفساد والانحلال والعصبيات..
9/ مؤسسات دينية تفرق ولا تجمع. تشد أزر العصبيات، وتتحالف مع نظام السياسة الفاسد، تستمد منه شرعية وتغطيه في إطار انتماءاتها ومصالحها الفئوية..
10/ تدخل أجنبي سافر في كل المجالات.. أغلبه مقنع أو غير مباشر وجزء مهم منه تضطلع به جمعيات ومنظمات ممولة خارجيا وتعمل في مجالات الإغاثة والصحة والثقافة والاجتماع.. تستقطب طاقات شبابية كبيرة وتوظفها لخدمة أهدافها المرسومة لها وفي رأس أولوياتها، المساعدة في تفكيك الأسرة والبنيان الاجتماعي..
إن كافة التوجهات الانعزالية، والدعوات الانقسامية، والخطابات الطائفية والمذهبية، تحظى بالرعاية الأجنبية التامة بما فيها الإعلام المحلي، وعلى حساب أي طرح وطني أو مؤسسة توحيدية، ولو كانت شخصا بعينه أو فكرة بذاتها..
وعليه، فإن المصير الوطني برمته مرهون بالتدخلات الخارجية وأطرافها المتعددة، مع ما يعني ذلك من غياب أفق واضح لاستعادة وحدة لبنان، وطنا لكل أبنائه، وإعادة تشكيل الدولة لتسيير حياة مشتركة للبنانيين..
ما لم تتبلور رؤية وطنية جامعة، يحمل لواءها نخبة من اللبنانيين، من أبناء الفئات الشعبية، تجمعهم أطر مؤسساتية موحدة جامعة، عابرة للمذاهب والطوائف والولاءات الأجنبية؛ سيبقى الوضع مؤلما قاتمًا مُظلمًا..
المصدر: “المدارنت”
قراءة موضوعية دقيقة لواقع لبنان ضمن الجيوسياسي للمنطقة العربية الشرق أوسطية مجاورة للكيان الصهيوني وضمن مشروع إسرائيل الكبرى ، وتعدد الطوائف والديانات بالمجتمع اللبناني ووجود إرتباطات إقليمية ودولية لبعض الأحزاب للإنتماء الديني الطائفي ، لبنان يفتقر للقوة الوطنية اللبنانية التي تعمل لصالح الشعب والوطن .