تنطوي الحياة العالمية المعاصرة على أكثر من دلالة حقوقية وثقافية وسياسية تشكِّل، في وجه من وجوهها، فلسفة قوامها الإنسان الذي يتعين تحريره من الظلم والاستبداد والخوف، وهدفها ضمان الحرية والمساواة والتضامن والتنمية الشاملة المستدامة، وأداتها إرساء دولة الحق والقانون. وتواجه التنمية في العالم العربي تحدِّيات وعقبات على مستوى ثقافة التنمية السائدة وعلى مستوى المؤسسات وإدارة الشؤون العامة في كل قطر عربي، وهذه التحديات هي:
1 – أزمة المشاركة، وهنا لا نريد أن نثير الجانب السياسي من المسألة بشكل مباشر، بل جانب إشراك كل الناس، وكل فئات المجتمع في أيَّة عملية تنمية فعلية وصحيحة، لأنه من أول شروط تحقيق التنمية واستدامتها، مشاركة أبناء المجتمع كافة فيها، مشاركة الناس في نقاش الخيارات المتاحة، وشعورهم بأنّ لهم دوراً ورأياً وحضوراً في هذه المسألة، بل شعورهم بأنّ هذه العملية تمثل تطلعاتهم ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
2 – ضعف هيئات المجتمع المدني، فبالرغم من وجود العديد من المؤسسات المهنية والنقابية والعمالية والبيئية والاجتماعية والثقافية، التي تقوم بنشاطات قيِّمة في مجال الحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان ومسائل اجتماعية واقتصادية مختلفة، إلا أنّ هذه المؤسسات ما زالت دون حجم التحدِّيات والحاجات القائمة.
3 – هيمنة المركزية وضعف الحياة البلدية أو المجالس المحلية، إذ تتميَّز الأنظمة الإدارية العربية – بشكل عام – بهيمنة أجهزة الدولة المركزية على حياة الهيئات المحلية من بلديات ومجالس أو إدارات مستقلة، وبضعف اللامركزية الإدارية.
4 – ضعف حضور دولة الحق والقانون، فمسألة تعادل الفرص والمساواة أمام القانون مسألة حيوية جداً، وهي تشعر المستثمرين والمواطنين بالطمأنينة والاستمرار في عملية التنمية، وبدونها يسيطر جو من انعدام الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، وهو ما يولِّد قلقاً اجتماعياً عميقاً يعيق أيَّة عملية تنموية فعلية.
5 – الطبيعة الريعية للاقتصاديات العربية، وهي أحد مظاهر الضعف ومصادر أزمة التنمية العربية، الأمر الذي يتطلب صياغة استراتيجية فعَّالة لنقل هذه الاقتصاديات من طبيعتها الريعية إلى الطبيعة الإنتاجية، القائمة على أساس تنويع الدخل وزيادة القدرة التنافسية.
أما الجوانب الأخرى التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار فهي السياسة الاقتصادية الكلية لهذه البلدان، التي تعاني ضعف المساءلة وضعف الرقابة وعدم توفُّر آليات لرسم سياسات اقتصادية سليمة، وهي جزء من أزمة المؤسسات في العالم العربي.
لقد بيَّنت مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي حاجتنا الملحة إلى تنمية شاملة، ازدادت أهميتها مع تفاقم تحديات التأخُّر في العالم العربي، وارتفاع كلفة تعثُّر التنمية. فرغم الحديث عن ديمقراطية التعليم وإلزاميته فإنّ الأعداد المطلقة للأميين تتكاثر في العالم العربي، فقد ارتفع عدد الأميين العرب من 58 مليوناً عام 1982 إلى 61 مليوناً عام 1990، وإلى حوالي 70 مليون عام 2000 بما يشمل 40.4 % من جملة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و64 سنة. فإذا علمنا أنّ هذه الفئة العمرية هي نفسها من ضمن العناصر البشرية التي تخدم التنمية العربية، لاتضحت الحالة الحرجة لنوعية القوى العاملة التي تمارس النشاط الاقتصادي في العالم العربي. إذ تتسم العمالة العربية – عموماً – بانخفاض مستوى المهارة، نتيجة اتسام سياسات التعليم والتدريب في الدول العربية بأنها غير فعَّالة وغير قادرة على خلق العمالة الماهرة، القادرة على التجديد والارتفاع بمستوى الإنتاجية والجودة.
كما أنّ ظاهرة البطالة تعتبر من التحدِّيات الكبرى التي تواجه العالم العربي، إذ تزايد حجم القوى العاملة سنوياً بمعدل خلال العقد الحالي إلى 3.350 مليون سنوياً، وبالتالي فثمة حاجة إلى ما يزيد عن مليونين ونصف مليون فرصة عمل مطلوب توفيرها سنوياً. وتكمن خطورة البطالة في ارتباطها بعدالة توزيع الدخل، ومحاربة الفقر، وحرمان العامل من تلبية احتياجاته الأساسية، وممارسة حق العمل الذي لم يترسخ حق الاعتراف به حتى الآن.
أما كلفة تعثُّر التنمية المعرفية فمن المؤكد أنّ جامعاتنا والبحث العلمي فيها في أسفل درجات التقييم للمعايير الدولية، ولم يعرف فضاؤنا العربي بروز مجتمعات للمعرفة والابتكار والخلق.
ولعل أبرز ما يستوقف في تقارير التنمية الإنسانية في العالم العربي إشاراتها المتكررة إلى أنّ الفرد العربي سجل في السنوات العشرين الماضية أدنى نسبة نمو في مستوى الدخل في العالم لا يدانيه سوى سكان الصحراء الأفريقية، وأنه يحتاج إلى 140 سنة لمضاعفة دخله. وأنّ التحدِّيات التي تواجهها التنمية الإنسانية العربية على ثلاثة مستويات هي: الحريات، والمساواة بين الجنسين، واكتساب المعرفة. ويمكن إضافة تهديد الإرهاب وتصاعد الانقسامات الدينية والعرقية في المنطقة، وازدياد التطرُّف وانتشار النزعات الأصولية السلبية، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على مستوى الدول، وداخل كل دولة على حدة. وأهم من ذلك كلِّه عدم جاهزية المنطقة العربية للتحدِّيات الاقتصادية المترتبة على العولمة، وعدم تناغمها مع التطور التكنولوجي في العالم.
كما تشير إلى سبع تحديات يواجهها أمن الإنسان في البلدان العربية:
1 – البيئة والضغوط على الموارد، إنّ البلدان العربية تضم أعلى نسبة للشباب في العالم. ومقابل هذا التطور التصاعدي في مكوِّنات البيئة الحاضنة للديمغرافيا العربية، ثمَّة معطيات ضاغطة على أمن واستقرار البيئة، من قبيل ندرة المياه وشُحِّ مصادرها، ناهيك عن مخاطر التصحر (يهدد نحو 2.87 مليون كيلومتر مربع أو نحو خمس المساحة الإجمالية للمنطقة العربية)، وتلوُّث المياه، وإجهاد مصادرها الجوفية.
2 – ضعف الدولة وعسر تحوُّلها إلى وعاء حاضن لأمن الإنسان وسلامته واستقراره، فمما لا يختلف حوله اثنان إخفاق الدولة العربية الحديثة في إدراك مقوِّمات الحكم الرشيد، كما هو متعارف عليها دولياً.
3 – الأمن الشخصي للمواطنين في البلدان العربية، فإذا كانت المعوِّقات البنيوية التي تحول دون قيام الدولة بوظائفها الدستورية والسياسية في توفير شروط ” أمن الإنسان ” في العالم العربي بالوجه الأكمل، فإنّ ثمَّة ” فئات خارج نطاق التيار المجتمعي الرئيسي لا تتمتع بالأمن الشخصي على الإطلاق “، وقد حصرتها التقارير في ” النساء المُكرَهات اللواتي تُساء معاملتهن، وضحايا الاتجار بالبشر، والأطفال المجندين والمهجَّرين داخليا واللاجئين.. “، وبإطلالة سريعة على مضامين الفقرات ذات الصلة، تتجلى خطورة استمرار هذا التهديد على مستقبل تماسك المجتمعات العربية.
4 – الأمن الغذائي، فإذا كانت بعض البلدان العربية قد ابتعدت عن خط الجوع بسبب إعادة توزيع ريع ثرواتها الطبيعية، وقد وصل بعضها حد التخمة مع ما نجم عن ذلك من مشاكل صحية (البدانة)، فإنّ أكثريتها تعاني ” القصور الغذائي ” المترتب عن عدم توافر ما يكفي من الأطعمة المتنوعة الضرورية للتوازن الغذائي والصحي.
5 – الأمن الصحي، حيث غدا متعذراً ضمان الصحة لكل المواطنين، وتفشَّت الأمراض والأوبئة القاتلة في العديد من البلدان العربية، ناهيك عن المخاطر الصحية المستجدة.
7 – الاحتلال والتدخل العسكري، حيث تعاني دول عربية كثيرة من هذا الواقع والمخاطر الناجمة عن استمراره، خاصة في فلسطين والعراق وسورية.
وحيث تبنت الأمم المتحدة إعلان الألفية الثالثة بشأن التنمية، فإنّ الصورة التي تبرز عن التقدم العربي نحو تحقيق أهداف الألفية تبدو غير مشجعة، ومع ذلك يمكن للدول العربية، إذا رغبت وصممت، أن تغيِّر الوضع القائم وتقود المسيرة نحو تحقيق الأهداف المرجوة بتبنِّي إدارة حكم جيدة، وسياسات إصلاح عادلة لصالح الفقراء، وإدارة موارد نشطة وفاعلة، وتحديد أولويات واضحة ودقيقة للتنمية البشرية، وتبنِّي أو تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي القادرة على خلق فرص عمل تمتص الداخلين إلى سوق العمل، وتستقطب نسباً متزايدة من صفوف العاطلين عن العمل، ومعالجة الفجوات بين المدن والأرياف.
إنّ المطلوب من الدول العربية، للتعاطي المجدي مع كلفة تعثُّر التنمية، أن تعيد صياغة توجُّهات ومسار التنمية، بما يساعدها على الاستفادة المتبادلة من الإمكانات والموارد المتوافرة لديها ككتلة إقليمية قادرة على الاستمرار والتواصل، وتطوير التعليم التكنولوجي وتضييق الهوة ما بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل وفقاً للتطور العلمي والتكنولوجي، وهذا يتطلب توفير بيئة سياسية وأمنية مناسبة مستقرة، تحمي الطبقات الفقيرة وتحفظ حقوق الإنسان الأساسية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتحفظ استقلال الوطن وأمنه وتؤمِّن مستقبله ومستقبل أجياله.
1 168 5 دقائق
الحياة العالمية المعاصرة قوامها الإنسان الذي يتعين تحريره من الظلم والاستبداد والخوف، وهدفها ضمان الحرية والمساواة والتضامن والتنمية الشاملة المستدامة، وأداتها إرساء دولة الحق والقانون والتنمية في وطننا العربي تواجهها تحديات عديدة أمام إستدامتها ، قراءة دقيقة وموضوعية للتحديات الذي يتطلب منها إعادة صياغة توجُّهات ومسار التنمية للاستفادة من الإمكانات والموارد المتوافرة لديها .