دخول “داعش” ساحة زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط عبر البوابة الإيرانية، بالذات عبر تبنّيه لتفجيري كرمان في إيران خلال إحياء ذكرى مقتل قاسم سليماني، تطور لافت لأسباب عدة من بينها: إنّ تنظيم “داعش” يسعى لإحباط أي تفاهم أميركي- إيراني أولاً، وهو يجد في أحداث منطقة الشرق الأوسط فرصةً لإثبات وجوده كعنصر ما زال فاعلاً في الاستنزاف ثانياً.
وكعادته، سيسعى تنظيم “داعش” وراء تحجيم المحاور والتنظيمات والحركات الإسلامية الأخرى، لاقتناص فرصة إحياء الاعتبار لأهدافه وغاياته على حساب البلبلة في صفوف المتنافسين على استغلال فلسطين كلٍّ لغاياته. وأخيراً، وليس آخراً، لا نعرف من هو تنظيم “داعش” بحلّته الجديدة، بعدما قيل للعالم إنّ خطره قد زال. لا نعرف أين هي مقرّاته ومَن هي زعاماته. نعرف أنّ حرب غزة وأداء إسرائيل في حرب غزة أعادا إنتاج “داعش”– والأمر ليس بمسألة صغيرة.
المتضرّرون عديدون. إدارة الرئيس جو بايدن ليست أبداً في حاجة للاعب الداعشي، وسط محاولاتها إيقاف حرب غزة كي لا تتحول الى حرب إقليمية، ووسط جهودها للعمل مع إيران نحو تحقيق احتواء خطر توسيع رقعة الحرب.
المشكلة، جزئياً، هي أنّ الاحتواء أداة للمعالجة المرحلية الانتقالية، شأنه شأن الهُدَن التي تنصبّ الجهود عليها، لذلك إنّ الاحتواء سياسة هشّة وتكتيك عابر وليس استراتيجية. أمثال “داعش” يُحسنون استخدام الهشاشة- وهذا جزء من المشكلة. فالاحتواء شيء، والحلول شيء آخر.
للعدل، إنّ فريق بايدن يسعى وراء تحقيق الأمرين: الهُدَن والاحتواء كأهداف آنية انتقالية ضرورية، من جهة. والعمل بالموازاة على الفرص المتاحة في أعقاب حدث بضخامة 7 تشرين الأول (أكتوبر) وما تلاه للتوصل إلى حلّ دائم وسلام مستدام وتسوية إقليمية تدخل في خانة “الصفقة الكبرى”.
عودة “داعش” إلى الساحة ستوفّر ذخيرة لانتقاد سياسات بايدن واتهامه بالفشل في منع إحياء هذا التنظيم في عهده. سيكون هناك من يحمّل إدارة بايدن مسؤولية أوسع نتيجة تهادنها مع إيران، لا سيّما وأنّ عمليات “داعش” في كرمان استهدفت التوافق الذي يُحاك بين الحكومة الإيرانية والإدارة الأميركية. هناك اعوجاج في مثل ذلك المنطق، إنما هذه سنة انتخابية والاعوجاج مفيد للحملات وتوجيه الاتهامات.
فريق الرئيس الأسبق والمرشح الجمهوري المرجّح في الانتخابات الرئاسية، دونالد ترامب، يعارض كمبدأ وكسياسة، التقارب والتفاهم الذي يحصل بين الحكومة الإيرانية وإدارة بايدن، حتى لو كان بهدف احتواء توسّع حرب غزة وتحوّلها الى حرب إقليمية.
فريق ترامب لا يثق بإيران، وهو يعتبر دبلوماسيتها التي تبدو ناعمة حالياً، ليست سوى عملية تجميل عابرة لنظام لن يتخلّى عن عقيدته ولا عن أذرعه التي تضرب المصالح الأميركية والاستقرار في المنطقة. وبالتالي، إنّ أيّ صفقة يتوصل اليها فريق بايدن مع إيران ستكون مادة دسمة في الحملات الجمهورية ضدّ مرشح الديموقراطيين.
من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ الديموقراطيين يراهنون على الإيرانيين لمنع حرب اقليمية ستُجرّ الولايات المتحدة اليها، وانّ إيران تفضّل أن يبقى الديموقراطيون في البيت الأبيض خشية مما في جعبة الجمهوريين وبالذات دونالد ترامب، الذي مزّق الاتفاقية النووية التي أبرمها الرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما مع طهران.
وللتأكيد، ليس ذلك هو السبب الوحيد وراء مواقف طهران التهادنية مع إدارة بايدن والمتعاونة معها لمنع الإنزلاق الى حرب إقليمية قد تسفر عن مواجهة عسكرية مباشرة ليس فقط بين إيران وإسرائيل، وإنما بين الولايات المتحدة وإيران. البرنامج النووي الإيراني على وشك الاكتمال، وقادة إيران لا يريدون المجازفة به، لا سيّما بقرار وبتوقيت من حركة “حماس” التي قامت بعملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر). ثم إنّ قادة الحرس الثوري الإيراني لا يريدون حرباً بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان، ليس فقط لأنّهم لا يريدون التورط في حرب مباشرة- وليس بالنيابة- مع إسرائيل، بل لأنّ “حزب الله” يبقى ورقة ثمينة لدى الحرس الثوري ولا يريد حرقها اليوم.
هناك أسباب عديدة أخرى- ذكرتها في مقالات سابقة- وراء الاستراتيجية الإيرانية الحالية التي تلتقي مع جهود إدارة بايدن، إنما هناك أيضاً منافع لإيران مقابل تعاونها مع إدارة بايدن، من بينها فك الحجز عن مليارات من الدولارات، والعمل الجدّي نحو رفع العقوبات عن إيران، والاستفادة من الانفتاح الحذر على الدول الخليجية العربية.
كل هذا يزيد من شكوك أنصار دونالد ترامب الذين يقولون إنّ عقيدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لم تتغيّر طالما أنّها قائمة على أذرع لها لضرب المصالح الأميركية وزعزعة الاستقرار، كالحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، و”حزب الله” في لبنان، وكتائب الحرس الثوري في سوريا.
أحد أقرب المستشارين لدونالد ترامب قال لي إنّ أميركا لن تخضع لابتزاز إيران، ولن تسمح لطهران بابتزازها عبر التهديد بأنّ قيام إسرائيل بحرب على “حزب الله” في لبنان سيؤدّي الى تدخّل مباشر لإيران في حرب مباشرة مع إسرائيل- وما قد يعنيه ذلك من حرب مباشرة مع الولايات المتحدة.
رأيه أنّ إدارة بايدن تقع فريسة الابتزاز الإيراني ولذلك تعقد الصفقات الخفية مع طهران. رأيه أنّ هذا تماماً ما سيؤدّي الى ضرب المصالح الأميركية وتقوية طهران وأذرعها. رأيه هو أنّ سياسة فريق بايدن هي التي تهدّد باحتمال تورط الولايات المتحدة في حرب مع طهران. رأيه أنّ دونالد ترامب لم ولن يوقع أميركا في الحروب، لأنّه رجل الحزم ورجل الصفقات الاستراتيجية، وليس رجل التفاهمات المرحلية الهشة.
بالطبع، فريق بايدن ينظر إلى ذلك المنطق بازدراء، ويقول أحدهم إنّ ذلك المنطق هو الاعتباطية بعينها، في حين ما يريده بايدن هو الحلول المنطقية- في رأيه.
لبنان مثال على ما يفتخر فريق بايدن بالعمل عليه وبنجاحه، حتى الآن، في منع حرب اسرائيلية- لبنانية تكون مفتاح الحرب الإقليمية. الفضل في ذلك يعود جزئياً الى مواقف طهران التي لجمت “حزب الله” ونصحته بعدم السقوط في فخ الاستفزازات الإسرائيلية. كذلك، يعود الفضل الجزئي الى إصرار فريق بايدن على إسرائيل وتحذيرها بألاّ تقوم بمغامرة عبر الجبهة اللبنانية، وبالتالي استطاع ردعها.
كذلك، استطاع فريق بايدن، الذي كلّف آموس هوكشتاين ملف لبنان أن يعمل نحو تسوية نوعية بين إسرائيل و”حزب الله”، تقود الى نقلة نوعية بين لبنان وإسرائيل. فبعد نجاح آموس هوكشتاين في إنجاز ترسيم الحدود البحرية اللبنانية- الإسرائيلية بموافقة إيران و”حزب الله” وبعمل دؤوب ومساهمة رئيسية من رئيس مجلس النواب نبيه بري، كانت المفاوضات على ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل تتقدّم تقدّماً كبيراً وملحوظاً.
اليوم، وفي أعقاب المناوشات العسكرية بين إسرائيل و”حزب الله”، وبعدما نفّذت إسرائيل عملية اغتيال صالح العاروري، وهو قائد سياسي وعسكري كبير في “حماس”، في الضاحية الجنوبية لبيروت التي تقع حصراً تحت إدارة “حزب الله”، صدرت مواقف لافتة من الضروري التنبّه اليها.
بالطبع كانت نبرة الغضب والتوعّد للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله عالية. بالموازاة، استمرت الجهود الأميركية، بمساهمات أوروبية، بالعمل على معادلة تتعدّى الهدن والاحتواء، وهي معالجة نقاط الخلاف المتبقية أمام ترسيم الحدود البرية وتنفيذ القرار 1701. مرّة أخرى، كان مقر رئيس مجلس النواب في عين التينة عنواناً أساسياً لتحقيق هذا الإنجاز، والذي سيكون اختراقاً مهمّاً، إذا حدث، بل عندما يحدث.
واضح انّ مثل هذا الاختراق لن يتمّ قبل وقف النار في غزة. ولكن، إنّ المؤشرات تفيد بأنّ هذا الاختراق وارد بمعزل عن كيفية الانتهاء من حرب غزة أو ترتيبات اليوم التالي لحرب غزة. فإسرائيل في حاجة لعودة مواطنيها الى الشمال، وهذا لن يحدث ما لم يتمّ ترسيم الحدود اللبنانية- الإسرائيلية والتطبيق الدقيق للقرار 1701 من قِبَل إسرائيل كما من جهة لبنان.
“حزب الله” لن يريد مزايدات، أما الفصائل الفلسطينية المسلحة أو عودة “داعش” الى الساحة، وإنما قيادته تفهم اللغة الاستراتيجية الإيرانية. وهذا ما تأمل إدارة بايدن بأن تحققه لردع اندلاع حرب إقليمية.
مشكلة إدارة بايدن هي أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يكنّ لها كامل الكراهية والنقمة- والشعور بينهما متبادل. فبينما إيران تدلي بصوتها الانتخابي للمرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية، فإنّ إسرائيل تصوّت للمرشح الجمهوري المفترض. إنما دونالد ترامب ليس ضدّ ترسيم الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، وهو لا يريد للبنان الحرب والخراب. هذا القاسم المشترك لعلّه يكون مفتاح أعجوبة خلاص لبنان المرجوّة.
المصدر: النهار العربي