كلّما افتقد السوريون قامة من قاماتهم الوطنية، سواء أكان الفقيد مفكّراً أو فناناً أو أديباً أو سياسياً أو رياضياً إلخ، أعقب ذلك الفقد فيضٌ من الكتابات التي لم تتحرّر بعدُ من حرارة الفجيعة ، وما تزال تكتنز قدراً كبيراً من الدفق العاطفي والتداعيات الوجدانية، ولعل جلّ هذه الكتابات تصدر من أشخاص مقرّبين من الفقيد، أو يدّعون ذلك، وذلك بعيداً عن مستوى هذه القرابة الشخصية أو السياسية أو الفكرية …إلخ، لعلها ظاهرة باتت مألوفة ولا تحمل في طياتها أيّاً من ضروب البدعة، بل ربما هي عرفٌ فيه الكثير من الاستحسان – إنسانياً ودينياً واجتماعياً – إلّا ان اللافت في الأمر أن هذه الظاهرة – في ظل ما تتيحه وسائل التواصل من فضاءات للكتابة وسرعة الانتشار – باتت تجسّد مدخلاً إلى جنسٍ كتابيٍّ فيه الكثير من الزيف والادّعاء بل والتضليل وصولاً إلى الكذب البواح، إلى درجةٍ تجعلك تتخيّل أن نفراً كبيراً ممّن عشيتْ أبصارهم نتيجة مكوثهم الطويل في ردهات الظلام قد وجدوا في الفجيعة مركباً يُقلّهم إلى عالم الأضواء الساطعة، بل ربما خُيّل إليهم أن الهالة الساطعة للفقيد يمكن أن تمنحهم فرصة الظهور، فلمَ لا يتدافعون لحجْز موطىء قدم في ظلالها.
على مدى الأيام القليلة الماضية وانا أتابع ما يُكتب عن المرحوم رياض الترك – أكرم الله نزله – فتستوقفني العديد من الكتابات، سواء ما كان منها مقالاً في صحيفة أو موقع إلكتروني أو منشوراً فيسبوكياً – فأتساءل: هل كان سيتجرأ صاحب هذا المقال أو المنشور على نشر مادّته قبل وفاة رياض الترك؟ وهل موت الأشخاص النبلاء بات فرصةً لتعويم الأفّاكين ومختلقي المفارقات والمتسلّقين على فواجع الكبار؟
أحدهم أو أكثر، ينعي رياض الترك، وسرعان ما يدخل في سرد ذكريات ومواقف له مع المرحوم، ثم لا تلبث أن تجده ينسى نفسه، فيترك رياض الترك جانباً، ويمضي في سرد بطولاته هو، وتبيان أمجاده المغمورة، ولا يذكر الفقيد إلّا حين يستشهد بمديح أو ثناء أو إعجاب كان المرحوم قد أبداه حياله، وبالتالي نجد أن علاقة المادة المكتوبة برياض الترك تكمن بالعنوان والمناسبة فقط، أو كأن المرحوم أصبح مرآةً لا يرى فيها كاتب المقال سوى بقع الضوء التي تشعّ باتجاهه، فهل أصبح فقدُنا لأرواح الطيبين سلالم مُباحةً لطوابير المُتسلّقين؟
كما انك تقف أمام مادة من نمط آخر فتجد في ثناياها العجب العجاب من غرائب المعلومات التي يسوقها الكاتب، موحياً بأنه من القلّة النادرة التي تحوز هكذا معلومات وذلك بحكم علاقته الوطيدة مع الفقيد، علماً ان المرحوم رياض الترك، كما سواه من الشخصيات العامة، ساطع المعالم والطباع لم تكن حياته مجموعة ألغاز، بل كان شديد الوضوح ، فقد كان مناضلاً يُسخّر جهده وطاقاته وفكره لخدمة الشأن الوطني العام، ولم يكن شخصية غرامية كالشخصيات التي تكتنفها الأسرار أو الإشاعات التي تعتاش عليها بعض الصحف والمجلات الفنية، فمن أين يجلب بعض الكَتَبة هذه الغرائب ليحشروها في شخصية رياض الترك؟
ما من شك في أن ملازمة الشخصيات الفكرية والسياسية المبدعة، أو صداقة الطيبين والنافعين في عالم يشوبه القحط والشحوب الإنساني، تبدو زاداً محبوباً بل رأسمالاً نقياً ونفيساً، ومن حق المرء أن يفخر ويعتزّ بمعايشة أصحاب القلوب الثريّة بالخير والجمال والتضحيات، والعقول المُنتجة للفكر والمعرفة، لكن شريطة ألّا تعمينا زهوة الاعتزاز عن الحقائق كما هي، فنمضي في أسْطرة الأشخاص والوقائع ظنّاً منّا أو توهّماً أننا نُحسنُ صنعا، في حين أن أسْطرة الماضي بما ينطوي عليه من أحداث وبشر( باستثناء الأعمال الفنية التي يأخذ فيها مفهوم الأسطرة منحًى آخر) هي نمط من أنماط التفكير البدائي، فضلاً عن كونها تعكس خللاً نفسياً ينمّ عن حالة مرضية لعل المكان الأنسب لمعالجتها هي عيادات ومراكز الطب النفسي وليس التقوّل على الأموات والافتئات عليهم واختلاق مواقف وأقاويل لا تعكس إلّا رغبة صاحبها بحيازة ما لا يمكن حيازته. لعل ما لم يفطن إليه هذا الضرب من الكتّاب هو أن الراحل رياض الترك ليس شخصية من شخصيات رواية يشرع كاتبٌ ما في كتابتها ومن حقه تشكيل هذه الشخصية كيفما يشاء أو بالطريقة التي تخدم فكرته أو تخدم البناء الفني في الرواية، بل من المؤكّد أن المصداقية والدقة والأمانة هي المعيار الأوحد الذي يحكم الكتابة في مثل نعوات الشخصيات الاعتبارية، ولئن كان الهدف هو إنصاف الفقيد فذلك يستدعي – على المستوى الأخلاقي – الحفاظ على جبلّته الإنسانية التي لا تُخرجه من طوره الإنساني – كبشر – إلى أطوار أسطورية ربما تسيء إليه اكثر مما تُحسن، كما ينبغي ألّا ننسى ما جاء في الحديث الشريف: (أذكروا محاسن موتاكم)، فالمطلوب هو ( أذكروا) وليس اختلقوا أو زيّفوا.
ثمة شبه لهذا النمط من الكتابة التي تتيح لصاحبها أن يقول في الأموات ما لا يستطيع قوله في الأحياء، بنمط كتابة السيرة الذاتية لدى البعض وليس العموم، إذ غالباً ما تكون السير الذاتية لبعض الكتّاب هي عبارة عن وقائع واحداث وسير ومواقف كان الكاتب قد عجز عن تحقيقها في حيّزها الواقعي أو في سيرورته الحياتية، ولكنها تحوّلت إلى رغبات كامنة في داخله، ومن ثم وجدت في فضاء الكتابة السبيل إلى تحققّها، ولكن يبقى الفارق النوعي والأهم بين النمطين الكتابيين، هو أن كاتب السيرة إنْ أساء – من خلال ادّعائه بما ليس له أصل – فإنما يسيء لنفسه فحسب، أمّا في النمط الثاني فإن الإساءة لا تقتصر على شخصه فحسب، وإنما تطال الأموات أيضاً.
على أيّة حال لم يكن المرحوم رياض الترك هو الراحل الوحيد الذي أتاح رحيله لموجات متدافعة من الكتابات التي لا تحمل سوى الغثاثة والادّعاء ولهاث المتسلّقين، فقد سبقه ببضعة أشهر المرحوم الروائي خالد خليفة وقبله المرحوم جودت سعيد وكذلك الراحل ميشيل كيلو وسواهم الكثير، وفي كل مرة تتكرّر الظاهرة ذاتها، فبات من الضروري ردع هذا الوباء بغية تحاشي تكريسه من جهة، وكذلك دفاعاً عن نقاء أرواح من افتقدناهم من جهة أخرى.
أجدني مدفوعاً لتسجيل هذه الانطباعات المزعجة، وأعلم أنها ربما بدت في غير سياقها، وبخاصة أن المرحوم رياض الترك لم تمض سوى أيام قليلة على وفاته، ولكن ثمّة ما يجعلني أتجاوز تخوم العرف واللباقة لأجهر بالقول: إن الكتابة عن الكبار والمخلصين والنبلاء ليست بحاجة إلى زاد معرفيٍّ فحسب، بل بحاجة، قبل أي شيء آخر، إلى سويّة أخلاقية عالية توازي إخلاص ونبل وكبرياء من افتقدناهم.
نقد موضوعي ودقيق لحال شعبنا وثورتنا وخاصة بعض الذين يجيدون الطعن بالشخصيات الوطنية الثورية بعد رحيلهم، لم يكن المرحوم رياض الترك هو الراحل الوحيد الذي تعرض لكتابات حاملة للغثاثة والادّعاء ولهاث المتسلّقين، فقد سبقه المرحوم خالد خليفة والمرحوم جودت سعيد والراحل ميشيل كيلو وسواهم الكثير، متى سننصف رجالات ثورتنا ونترفع لسوية إخلاص ونبل وكبرياء من افتقدناهم .