لم تكد المظاهرات تندلع في مدينة السويداء السورية قبل أيام، حتى استجاب لها سوريون كثيرون بكل مشاربهم وأطيافهم، ومن كل مواقعهم الممتدة على مساحة العالم، بكل ما اختزنوه من أمل مخبأ في ثنايا أرواحهم، وبكل ما أجلوه من فرح لم يعرفوا طعمه منذ سنوات، لأنهم كانوا قد بدأوا الوصول إلى مرحلة اليأس نتيجة الانتشار الكبير لفكرة “موت الثورة” أو “فشلها”، والتي كان متبنوها يبرّرونها بتوقف كل مظاهر الثورة (بما فيها العسكرية)، وغياب الشعارات التي رفعها الثوار في السنة الأولى، والتي يحصر هؤلاء تسمية الثورة فيها. إحساس اليأس هذا قاد معظم السوريين إلى الإقرار بـ”هزيمة الثورة”، وبالتالي “انتصار الأسد”، ليدخلوا بذلك، عن قصد أو من دونه، ضمن ثنائية المنتصر والمهزوم.
ربما كان حراك السويداء اليوم، بكل شعاراته التي تعيد شعارات 2011 إلى الواجهة، كما تغيب عنها كل الشعارات الطائفية أو المناطقية، محاولة أخرى للحياة، تضاف إلى كل محاولات السوريين خلال تسع سنوات، محاولة تنفي توقف النبض السوري، وتمنعنا جميعا من نشر أوراق نعوته. وفي هذا تقول الكاتبة المصرية رضوى عاشور: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قرّرنا أننا لن نموت، قبل أن نحاول أن نحيا”.
قبل تسع سنوات، تجمعت في سورية كل أسباب الثورة ودوافعها، وانفجرت دفعة واحدة. ومع كل يوم جديد كانت تلك الأسباب تتضاعف، لتثبت أن لا أحد ممن انتفض كان على خطأ. اليوم، وبعد تسع سنوات من الدم والدمار والإبادة، صار لكل سوري في هذا العالم دافع جديد للثورة على النظام المسعور الذي يحكمه؛ مئات آلاف العائلات فقدت أحد أبنائها أو أقاربها أو جيرانها أو معارفها، ملايين السوريين فقدوا بيوتهم وقراهم ومدنهم، وذاقوا مرارة النزوح أو اللجوء أو التشرّد ثم الجوع والعوز. إذا كان للثورة في 2011 بضعة أسباب واضحة، فلها اليوم ملايين الأسباب المجبولة بالدم والخوف والمعاناة وصعوبة تحصيل لقمة العيش، والتي لا تحتمل النقاش حول مصداقيتها.
كتب عبد الرحمن منيف “الذاكرة بالنسبة للإنسان هي التجربة. وهي التي تمنع الهزيمة”، فكيف إذا كانت ذاكرة قاسية، لكنها حية وطازجة وممهورة بالدم، كذاكرة السوريين! أسوأ ما كان يمكن أن نفعله، نحن السوريين، أن نيأس أو ننسى، فلم يحن وقت النسيان بعد. وها هي اليوم شوارع السويداء ودرعا وإدلب تشعل الذاكرة بجمال التفاصيل وقسوتها في آن، لتؤكد أننا لم نكن مذنبين لأننا ثرنا، ولا مخطئين لأننا تجرأنا على تحدّي العالم الأخرق الذي شحذ سكاكينه عند أول كبوة، وأننا لم ولن نستمرئ دور الضحية، ونستسهل الاعتراف بالهزيمة لنستجرّ عطف العالم المعطوب، فيرمي لنا بالفتات.
لا يملك أحدٌ منا حق التفريط بكل الأثمان التي دفعها ويدفعها ملايين السوريين، كما أننا لا نملك حق التفريط بالدم السوري المسفوح والإذعان لما تمليه بروباغندا النظام وإعلام العالم الأخرس الأعمى بالإقرار بالهزيمة. إن حراكاً كحراك السويداء اليوم يُعلي صوت المطالبة بحقوق السوريين، كل السوريين، بمحاكمة من ظلمهم، كما أنه قادر على إرباك النظام وداعميه بنفيه كل مبرّرات الإجرام والبطش في بقية مناطق سورية، وبنسفه التام ادّعاء نظام الأسد أنه حامي الأقليات الذين يصفهم موالين له.
الأمل المختبئ في شقوق أرواحنا المهشمة، والذي توثب فينا اليوم بعد عودة الصوت إلى الشارع، على الرغم من كل الانكسارات، هو بحد ذاته دليل على أننا لم نُهزم. الخيبة التي أصابتنا مراراً كلما تكشفت إحدى أكاذيب العالم الكثيرة دليل آخر على أننا لا نزال نقاوم. الغضب الذي يعترينا تجاه خيانة الدول والحكومات والمنظمات يبشّر بأننا لا نزال أحياء، وعلى قيد الأمل. الشباب الذي هتف اليوم بأصوات تهزّ السماء في السويداء، وتتردد لتُسقطها فوق رأس الأسد، يقول بوضوح من هو المهزوم فعلاً.
مخطئ من كان يظن تحت ضغط اليأس والتشظّي أن سورية قد تعود يوما إلى ما كانت عليه قبل الثورة. الشعوب إن تحرّك بركانها لا يمكن لأحد أو لقوى في العالم أن يخمده قبل أن يحرق ما أثارها ومن أثارها. الشعوب الثائرة لا تعرف معنى الهزيمة، هي تنتفض من جديد كل مرة، هي تنتصر فقط، ولو بعد حين. حتما لم يستطع كل هذا الرماد الأسود الذي ألقته سنوات الثورة التسع أن يطفئ الجمر الذي اتقد منذ 2011، بل ستذروه الريح مرارا وتكرارا مع كل حنجرةٍ تصدح في أي شارع من شوارع سورية، لتعود الجذوة الأولى إلى الاشتعال.
الأمل هو ما دفعنا بدايةً إلى مواجهة ما كنا ندرك أنه أبشع نظام في العالم. والأمل ذاته، اليوم، يدفع شباب السويداء وشيبها الأحرار ليعيدوا المواجهة، على الرغم من كل تلك التجربة القاسية المستمرة منذ سنوات، كما يدفع درعا وإدلب الجريحتين إلى إعادة رفع الصوت وتقديم الدعم والمساندة. هذا الأمل الذي يحرّك ملايين السوريين اليوم في كل بقاع الأرض هو تماما ما ينفي وقع “الهزيمة”.
المصدر: العربي الجديد