ضجّت منتديات وحسابات السلفيين من تيار “القاعدة” على وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليق على حادثة اعتقال جمال زينية (أبو مالك التلي) من قبل “جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام) الاثنين، باعتباره “مظلمة” تجنيها “الهيئة”.
ليست هذه المرة الأولى التي تقوم فيها “النصرة” باعتقال شخصية سلفية قيادية، بل منذ عام 2016 تاريخ انفصالها عن تنظيم “القاعدة”، نفّذ التنظيم سلسلة اعتقالات طاولت العديد من المنشقين عن الجبهة، وفي مقدمتهم كبار قادتها السابقين، عسكريين وشرعيين وأمنيين، ودائماً كان الدافع واحد بالنسبة لقيادة “النصرة”، وهو تقويض أي تنظيم سلفي يمكن أن ينافسها على المجال السوري، بعد أفول نجم “داعش” وجاذبيته.
سلسلة الاعتقالات هذه كانت قد بدأت مع تحرك ما يعرف بالتيار السلفي الأردني في سورية لتأسيس فرع جديد ل”القاعدة” بعد خروجهم من “جبهة النصرة” المنفصلة عن التنظيم، والذين سينجحون لاحقاً بالفعل في تأسيس هذا الفرع مع إنشاء “حراس الدين” لكن بعد أن تعرضوا لاعتقال جماعي شمل كلاً من الأردنيين سامي العريدي، شرعي “النصرة” العام، وأبو جليبيب، واليها في دمشق والجنوب، الذي قال “حراس الدين” إنه قُتل بظروف غامضة في ما بعد، بالإضافة إلى قائد “الجبهة” العسكري لسنوات، أبو همام الشامي، مع المصري أبو عبد الكريم، الذي قتل لاحقاً أيضاً في عملية للتحالف.
كانت عملية أمنية جريئة بحق، فأن يقدم زعيم “النصرة” أبو محمد الجولاني على خطوة كبيرة أمر يظل متوقعاً باستمرار، ومن رفض الانصياع لسيده السابق والشرس أبو بكر البغدادي في ما يتعلق بتمدد “داعش” إلى سوريا، ومن انفصل عن تنظيم “القاعدة”، قادر على تحجيم الشخصيات السلفية، لكن اعتقال شخصيات بحجم وأهمية العريدي وأبو همام وأبو عبد الكريم المصري، وزجهم في السجن من أجل اخضاعهم، كان مؤشراً مهماً على استعداد الجولاني لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على إمارته التي بشر بها منذ العام 2014 في التسجيل الصوتي الشهير الذي أعلن فيه الحرب على “جبهة ثوار سوريا” في إدلب.
أطلقت “النصرة” بعد أيام المعتقلين الذين لم يكونوا أربعة فقط وقتها، وتحت ضغط كبير واستجابة لمبادرات وخشية انشقاقات بدأت تلوح في الأفق، من قبل من لا زال مؤمناً بالجبهة من السلفيين، ومنهم أبو مالك التلي نفسه، وآخرون من سلفيي “النصرة” السوريين و”المهاجرين”، وغضّ الجولاني وفريقه القيادي النظر عن تأسيس فرع القاعدة الجديد في سوريا.
ربما قدّرت قيادة “النصرة” في ذلك الوقت أن الجماعة الجديدة لا يمكن أن تشكّل من حيث العدد والقدرة والامكانات خطراً عليها، لا من الناحية العسكرية ولا ايديولوجياً حتى، وربما رأت، وهي الضليعة بالعمل الأمني الاستخباراتي، أن وجود مثل هذا التشكيل تحت أنظارها يظل أفضل بكثير من تأسيسه بعيداً عنها، والأهم بالتأكيد أن هناك من أقنع الجولاني، كما يقول عدد من المطلعين، أن وجود فرع ل”القاعدة” بإدلب فيه مصلحة ل”الهيئة” الساعية لكسب شرعية سياسية خارجية، حيث ستظهر مفارقة ل”القاعدة” بالفعل وليس بالشكل، كما رأى الكثيرون حين انفصالها، وستكون حاجة لهذا الخارج من أجل مكافحة “الارهاب” جرياً على عادة الأنظمة في المنطقة.
وعلى عادة هذه الأنظمة أيضاً في سوء تقديرها لمدى قوة ومرونة التشكيلات السلفية، فقد نجح القائمون على”حراس الدين” بتحقيق نمو فاق توقعات الجولاني وقيادة “النصرة”، وتبين أن الاستثمار في اسم “القاعدة” لا زال مربحاً، خاصة بعد أن ارتبط بمظلومية “التنظيم” المزدوجة، مرة بجناية “داعش” عليه، وأخرى بجناية “النصرة”، ما جعل المتعاطفين معه من المنتسبين للجبهة وغيرها من التشكيلات السلفية، أكبر من الملتحقين به عند التأسيس.
لكن هؤلاء المتعاطفين لن يبقوا متعاطفين وحسب، بل سيتسربون تباعاً خارج “جبهة النصرة”، بعضهم سيلتحق ب”حراس الدين” وبعضهم سيتحالف معه، لكن في النهاية كانوا يشكلون بهذا التسرب ضربات متتالية لاستراتيجية الجولاني وفريقه المهيمن على الجبهة منذ رحيل معظم قادتها ووجوهها السلفية البارزة.
لم يكن أمام الجولاني في كل مرة سوى المواجهة بالاعتقال، فألقى القبض على علا الشريف، التي كانت أول كوادر الهيئة من السوريين تمرداً على قيادتها، بعد رفض أبو القحطان المصري تأييد “النصرة” للعمليات التركية في شمال سوريا، وهو الموقف الذي سيتخذه لاحقاً مواطنه أبو شعيب، وزوج علا الشريف، عصام الخطيب، بطبيعة الحال. وفي ما بعد كانت العملية الابرز اعتقال القائد العسكري في الجبهة، أبو العبد أشداء، الذي أثار جدلاً واسعاً بتسجيله المصور الشهير عام 2019 والذي كشف فيه عن فساد في القيادة وانتشار للمحسوبيات في التنظيم وترهل عسكري وفشل على أكثر من صعيد.
آخر حلقات اعتقال المنشقين عن “النصرة” التي سبقت التلّي، كان ضحيتها أبو صلاح الأوزباكي، والأخير من أبرز القادة العسكريين في الجبهة الذين تلاحقهم روسيا بعد اتهامه بتنفيذ هجمات داخلها، ناهيك عن وزنه بين الجناح القوقازي من “المهاجرين”، لكن اعتقال أبو مالك التلي يظل الأكثر خطورة، ويؤكد أن لا اعتبارات يمكن أن يقف عندها الجولاني عندما يقرر.
فالعلاقة الوطيدة بين الرجلين، والفوائد الكبيرة التي حققها جمال زينية ل”جبهة النصرة” منذ كان قائد فرعها في منطقة القلمون بريف دمشق، مادياً وعسكرياً، وغير ذلك الكثير، لم يحل دون قرار اعتقاله، ما زاد من حدة النقمة داخل التيار السلفي ضد “النصرة”.
صمت أبو قتادة الفلسطيني أمام كل هذه التطورات بعد أن كان الداعم الوحيد للجولاني بين رموز التيار ومنظريه، فيما انطلقت أصوات البقية، وخاصة أبو محمد المقدسي، للتهجم على الجولاني وتنظيمه بسبب “المظالم” التي يرتكبها.
لكن اللافت في حديث هؤلاء عن المظالم أن أياً منهم لم يعتبر الهجمات التي كانت تشنها “جبهة النصرة” طيلة السنوات الماضية ضد فصائل “الجيش الحر” والقوى الاسلامية السورية الأخرى من “المظالم”، بل دائماً ما شجعوا هذه العمليات، وكثيرون منهم شاركوا فيها عندما كان جزء من “الجبهة” بمسمياتها المختلفة، ناهيك طبعاً عن عمليات اغتيال أو اختطاف أو اعتقال الناشطين والقياديين المدنيين والعسكريين في صفوف الثورة، الأمر الذي ظل باستمرار يطرح تساؤلات عن معايير هذا التيار في تقرير ما هو “الظلم” وما هي “الجريمة”ّ!
المصدر: المدن