واحة الراهب فنّانة واديبة سورية لها حضورها المتميز، وخاصة انها انتصرت لثورة الشعب السوري التي بدأت في ربيع ٢٠١١م، وانتمت لها.
قرأت لها ثلاث روايات سابقة وكتبت عنها، هي مذكرات روح منحوسة والجنون طليقا وحاجز لكفن. هذه روايتها الرابعة (غرق السلمون)، تغوص في واقع الثورة السورية مجتمعيا وسياسيا معرية النظام المستبد المجرم منذ عقود سابقة وفي سنوات الثورة حتى وقتنا الحاضر، حيث مر على ثورتنا أكثر من عقد من الزمان.
تبدأ الرواية حيث امل الشخصية المحورية في الرواية تصارع أمواج البحر، تسبح لكي لا تغرق بعد أن انقلب البلم الذي كانت تستقله مع الكثيرين الهاربين من موت محقق في بلادنا سوريا على يد النظام المجرم . غرق الكثيرون والبعض مازال يصارع امواج البحر مستغيثا بالله، منتظرا فرجاً ما، أو غرقاً في بحر لا يرحم.
تعود الرواية بعد ذلك في فصول متتابعة تتحدث فيها امل بشكل أساسي، بلغة الراوي، كما يجلس على منصة التحدث والدها واخوتها وحبيبها وزوجها … لتعود أمل الحاضرة في أغلب الأحيان… هكذا حتى تنتهي الرواية.
أمل ابنة ضابط من الساحل السوري من الطائفة العلوية. وحيدة ولها إخوة ثلاثة غيرها. الأكبر ناصر والآخر رند والثالث جهاد…
والدها من أوائل الخريجين العسكريين الذين التحقوا بالكلية الحربية وبحزب البعث منذ بدايات وصول الحزب الى السلطة في ستينيات القرن الماضي. وتثبيته بشكل مطلق منذ عام ١٩٧٠م بيد الأسد الأب وعصبته الطائفية. عين مسؤولا أمنيا صغيرا وتدرج بالسلطة جوار الاسد الاب حتى وصل ليرأس أكبر فرع أمني في منطقته بوقت لاحق. يتصرف بصفته الحاكم الآمر الناهي كممثل لأكبر قوة طاغية تعكس قوة الرئيس وتحمي مجده. تغيرت حياته عبر هذه العقود. توسع بيته في قريته الساحلية ليصبح قصرا ممتدا على ارض كبيرة، مفصولاً عن الآخرين، صانعا مجده الشخصي وعزلته الذاتية.
وعت أمل نفسها على الدنيا كمدللة للعائلة عند أمها، المرأة المضحية الصابرة التي ترى واقع حال زوجها وتغيره وتصبر عليه صاغرة. الأب الذي استباح فتيات القرية القاصرات. تذكر امل أن لها رفيقة دربٍ في طفولتها هي سراب، وقد عاشت معها في بيت عائلتها. سقطت في الوادي المجاور للقرية وماتت، عندما كانت تلعب مع أمل قريبا منه. سراب الطفلة التي كان اباها قد باعها لوالد امل وتحولت لتصبح كأختها مع الزمن. لكن الوادي ابتلعها…
تكبر أمل وسط بيت مليء بالسطوة والجبروت، كما بالخرافات الممزوجة بالاستبصار رغم واقعية الشخصيات. اخاها الاكبر ناصر تقمص شخصية والده الجبارة العنيفة القاسية. وبدأ يحلم ان يكون مثله ضابطا يعمل في الاجهزة الأمنية، وهذا ما تحقق له فعلا بمباركة والده ودعمه الدائم له. بحيث سيصبح ناصر وريث والده الأمني في مستقبل الأيام عندما يتقاعد الوالد ويأتي الرئيس الابن بعد عقود ويصبح ناصر رجل أمن مهم ومقرب من رأس النظام. لا يغيب عن البال تجييش النظام لشباب الطائفة العلوية ليكونوا وقود السلطة أمنيا وعسكريا. ويحرم اهلهم وابنائهم من دورهم ببناء مناطقهم وتطويرها وتحسين شروط حياتهم. بحيث لا يبقى لهم إلا حمل السلاح لحماية النظام وقتل المعارضين وخلق نواة الفتنة الطائفية المجتمعية. فقد أصبح الشباب العلوي أداة النظام في قمع الشعب وثورته التي ستأتي في ربيع ٢٠١١م. وقبلها عندما حصلت انتفاضة حماة في الثمانينات من القرن الماضي وكذلك ايام ربيع دمشق وبداية الالفية الجديدة ووعود الاسد الابن بديمقراطية مأمولة ومطلوبة…
ناصر وقبله والده سيكون النموذج للضابط المخلص للنظام والمستفيد من مكتسباته الكثيرة، ولتحوله الى وحش بشري يقتل ويعتقل ويغتصب ويسرق ويعمل كل الموبقات ولا حساب ولا رقيب…
أما الابن الثاني رند فقد كان نموذجا للشاب العاقل النقدي التفكير، لكنه تائهٌ بين موروثاته من قمع تلك العائلة المستبدة وسبل انتقامه من أذاهم له، بسبب اختلافه مع والده في كل أعماله. لذلك قام الوالد واخوه ناصر بمحاربته وكسر معنوياته وإذلاله. بعثوه للخدمة العسكرية. عاملوه بقسوة، وصلت إلى درجة هروبه من الجيش، والتحاقه بالمقاتلين الذين ذهبوا للعراق لمحاربة الأمريكان الذين كانوا قد احتلوا العراق عام ٢٠٠٣م وقبلها افغانستان بعد ضرب برجي التجارة العالمية في أمريكا بيد تنظيم القاعدة عام ٢٠٠١م.
النظام كان يصنع المتطرفين الإسلاميين في سجونه ويرسلهم وهم مخترقون أمنيا ليقوموا بأدوار مطلوبة في العراق وغيرها. ليعيد النظام هندسة علاقته مع أمريكا و”اسرائيل” كلاعب مهم اساسي في المنطقة، المهم ان هذه الحرب تبتلع رند ، وقد يكون معتقلا عند والده أو أخاه ناصر بعد ذلك.
اما جهاد الاخ الثالث فقد ولد وفيه قصور عقلي جعله يعيش حياته بطفولة مستدامة. شكل احراجا للاب وناصر كعار عليهم. حاولوا اخفاءه وتعذيبه وسجنه واخيرا أخفوه وادعوا أنه نقل للعلاج في روسيا… وهكذا ذهب ولم يعد…
الام عاشت كل ذلك، تحولت لخيال يحمل هم الجميع ويسكت، خاصة بعد أن واجهت زوجها بتعديه على إحدى القاصرات وضربه وإذلاله لها. لقد تحولت لآلة عمل صامت يسكن داخلها الذل والالم والصبر…
امل تكبر وتدخل طور المراهقة، وستجد من تحب خارج مؤسسة العائلة وإرادة الاب والاخ المتسلطين. تحب ربيع ابن بلدتها وتلتقي به لأكثر من مرة. يعلم الوالد ، يمنعها من اللقاء به ويعتقل ربيع ويذله. سرعان ما يجد لأمل عريسا موسرا مغتربا في أمريكا تجمعه مع الأب مصالح متبادلة.. يزوجها له بأسرع وقت. أنه عصام شريك والدها. وهو نموذج للرجل الثري المعتد بذاته وبماكيافيليته. فقد تصرف على أن زواجه هو زواج مصلحة، انعكس على حياة امل بمزيد من الذل والسخرية والاساءة، بحيث مُسِخَت شخصيتها وتحولت حياتها لجحيم سواء ايام عيشها معه في سوريا او في امريكا كانت تذهب معه وتعود. كانت مفجوعة من خسارتها لحبيبها ربيع. وعدم معرفتها هل هو معتقل عند والدها ؟. وهل يعذبوه؟ ام قتلوه؟ كان مصير كلَّ حملٍ لها من زوجها هو الإجهاض. وهذا ما زاد اساءة زوجها لها وسخريته منها. وهي تحتمل وتبحث عن منفذ لها من هذه الحياة المجبرة عليها. وما كان لديها أحد يساندها في العائلة بمواجهة زوجها الظالم رغم رقي تعامله المدعي للتحضُّر…
بعد مجيء الاسد الابن وتغير التوازنات الأمنية التي فرضت إزاحة أبي ناصر الوالد من منصبه. فقد الكثير من سطوته وحضوره، وصار أقرب الى مريض نفسي. وزاد تسلط زوج امل عليها باستضعافه للأب. حتى وصلت لمرحلة طالبت بطلاقها منه. وهذا كان مطلب الزوج ايضا حيث انعدمت المصالح بينهم بعد تسريح والدها، وبعد إجهاضات أمل المتكررة، ولا حب بينهم بل كره ونفور. والأهم، بعد أن اتهمها بالخيانة بسبب لقائها المستجد بربيع. تطلقت امل وحجر عليها بعد وفاة امها. وهكذا قررت الهروب ومغادرة حياتها السابقة بالمطلق. ووجدت نفسها حرة لأول مرة، وبإمكانها البحث مجددا عن ربيع حبيبها الذي لم يغادر ذاتها ابدا.. خاصة بعد ان غاب اخواها رند وجهاد، ولم يبقى سوى أبيها المنهار على موت الأم وفقدان سلطته، واخيها ناصر بسلطته وجبروته وظلمه. الذي أصبح فرعه الامني في دمشق أحد أهم أدوات ومقرات التعذيب والقتل، بعد أن اندلعت ثورة السوريين في الربيع العربي عام ٢٠١١م. وكيف انتقل النظام إلى مرحلة القتل الجماعي بالمعتقلات والسجون والمشافي و الطائرات والصواريخ والمدفعية والسلاح الكيماوي. قتل مئات الآلاف وشرد الملايين وهدم البلدات و المدن. كان ناصر احد اعمدة هذا النظام الذي أصبح نموذج القتل والوحشية والظلم الذي استباح حياة الناس في كل سوريا.
سحبت أمل رصيدها البنكي الذي سجله ابيها باسمها، وجناه من سرقاته لحقوق الناس. غيرت هويتها الشخصية بهوية مزيفة، وهربت إلى حمص لتبحث عن حبيبها ربيع. بحثت كثيرا وتعرفت على اصدقاء مشتركين. ولكن لم تصل الى نتيجة. وبالمقابل كان أخوها ناصر يبحث عنها. خاصة أنه علم بدورها بمساعدة المنكوبين المرضى والجرحى والهاربين من الموت الذي يوزعه النظام على كل الناس. كانت تهرب من مكان لآخر وعندما يئست من الوصول الى حبيبها ربيع وضاقت دائرة بحث أخيها عنها. نصحها بمغادرة سوريا أصدقائها المقربون من الناشطين والثوار الذين تبقوا على الأرض، بعد ان قتل اغلبهم وهرب من تبقى واعتقل الكثير… وساعدوها للهرب باتجاه تركيا ومنها الى أوروبا إنقاذاً لنفسها.
تم القبض على أمل من قبل داعش بعد الاتفاق مع المهرب وذلك قبل الوصول الى الحدود التركية، وما كان وقوعها بيد داعش يعادل صدمتها غير المتوقعة لما اكتشفته فيما بعد.
فحين اعتقلوها وعرضوها على الأمير ليراها والآخرين ويبت بأمرهم. ما كان بإمكانها أن تصدق ولا بأحلامها أن يكون هو لقاؤها القدري بربيع بحب حياتها في احرج لحظات هذه الحياة بعد أن فقدت أثره. كان ربيع هو الأمير. وما كان سعيدا بهذا اللقاء مثلها. ربيع الذي اعتقله أخوها ناصر وعذبه واذله وخصاه وهدده بالموت في المقابر الجماعية، وجعله يتحول الى عبد مأمور له. دربه على القتل والتعذيب في عمليات تصفيات بعد أن كان رمزاً ثورياً.. أصبحت شخصيته مستلبة بالكامل لناصر. ومن ثم أرسله ليكون قائدا ميدانيا في داعش التي كان قد أوجدها ورعاها النظام ليعيد شراء ولاء الغرب، ويحول وجهة العالم كله من مواجهة ظلم النظام الى محاربة إرهاب داعش. لتتم اعادة شرعنة النظام وتثبيته لاعبا في المنطقة يخدم كل دول العالم ويقتل الشعب السوري. وهكذا التقت امل بحبيبها ربيع الذي حدثها عما أصابه بسببها. حملها مسؤولية ذلك. ومن ثم اعاد ارسالها لأخيها ناصر معلمه وسيده، بعد أن كشف لها حقيقة أخوتها لسراب التي اشتراها والدها من أهلها لتجهَّز كخادمة في بيتهم.. نتاج اغتصاب والدها لأم تلك الفتاة.
تتجلى الحقائق تدريجياً أمام أمل حول سراب بعد أن أرسلها ربيع إلى أخيها ناصر ليحقق انتقامه. الذي يستقبل اخته امل جازماً بأنها ليست أخته، كان يعرف ان امل هي التي ماتت في الوادي وهذه سراب التي اشتراها والده وسقطت في الوادي. والتي توافق الاهل منذ صغرها على اعتبارها ابنتهم امل التي فقدوها في الوادي. سراب التي توقدت مشاعر ناصر النفسية والجنسية اتجاهها منذ بداية مراهقتها يجدها الآن بين يديه. استقبلها بالتعذيب ثم اختلى بها واغتصبها انتقاماً من تمردها ولعشقه المحرم. لكن امل التي عاشت الاغتصاب مع كل ما يصاحبه من احساس العار، تمكنت من طعنه بأخوته لمغتصبته، انتقاماً من ادعائه للأخلاق والشرف. لكنها رسخت بذلك لديها مشاعر الكره والنفور الذي ما كانت تعرفها من قبل.
اسقط في يد ناصر وقرر ان ينتهي من قصة امل او سراب، وطلب من عناصره رميها على الحدود في البراري لتأكلها الوحوش.
تمكنت امل من الوصول الى تركيا، ومن هناك إلى البحر متجهة إلى أوروبا، متفقة مع المهربين الذين يضعونهم في القارب (البلم) ويتركونهم لقدرهم…
غرق البلم وغرق أغلب ركابه. بقيت امل تصارع امواج البحر. بجوارها اشياء الغرقى تسبح احذية وشنط، جثث تعوم كذلك تقتات علها الطيور الجارحة. وفي غمرة صراع أمل مع الأمواج تلتقط طفلة من يد أمها التي غرقت. أنقذت الطفلة واسمها حياة واعتبرتها ابنتها التي لم تلدها. استبشرت بها خيرا صار لها قضية. فهذه هي الحياة تهبها طفلة كأنها من رحمها. يقترب منهم مركب لحرس الحدود قرب اليونان يطلق عليهم النار. لم تصب. مازال أمامها حياة يجب أن تحياها. يقترب مركب آخر وتبتعد وهكذا مازالت امل تنتظر منقذا لها و للطفلة من غرق محقق…
لعلنا كلنا نحن السوريين ننتظر النجاة من الغرق المحقق الذي وقعنا كلنا فيه…
تنتهي الرواية هنا…
وفي التعقيب عليها اقول:
اننا امام رواية تتكامل فيها عناصر الإبداع الروائي من سبك لغوي متين، وحضور نفسي عميق، شغف في التعبير عن المعاش، صور تُنقل لنا وكأننا امام فيلم سينمائي كما نحن أمام رواية. المحاورات النفسية الذاتية للشخصيات تجعل العمل ممتلئا بالحياة، ومقنعا على الأقل بالنسبة لأصحابه وشخصياته. لا ممنوعات في كشف عري النظام وعاره، البنية الطائفية، استغلال فقر وعدم وعي جيل الشباب وتحويلهم لأدوات قتل ذاتي ولبقية الشعب السوري.
نعم الطائفية حاضرة بصفتها منتج صنعه النظام ليخدم مصالحه. حتى اقصى التطرف عند الطرف الآخر من الشعب.. متمثلا بالقاعدة وداعش كركائز من صناعة النظام.
التحدث بشفافية عن كل ما عاشته امل يجعلنا نتعايش معها في الزمان والمكان والمستقبل وفي كل الأحداث. اضاءة المعتقدات التي تحاول التغلغل في كل تفاصيل الحياة أيضا حاضرة.
الأهم فضح الشعور النهائي للنظام أنه انتصر على الشعب السوري، والحقيقة أن النظام ومواليه قد وصلوا للهاوية، لأسوأ كارثة لهم في حياتهم عبر الزمان.
نموذج مصائر الأب الذي انتهى منسيا ومريضاً نفسياً، جعله بقمة هرم السلطة الأمنية بعد رأس النظام الاب. وكذلك الأخ الذي قتل أو بعث للعراق ليموت عند الإرهابيين والاخ الذي سجن في روسيا بدل أن يعالج. الحبيب الذي قتلت إنسانيته ليصبح أداة قتل واستلاب إنساني عند داعش و لخدمة النظام. الأم التي ماتت من وطأة إذلالها واضطهاد أبنائها…
مئات الاف العلويين الذين قتلوا في معركة النظام ضد شعبه. المليون سوري الضحايا روحهم سابحة فوق سورية التي أصبحت دولة مستباحة من روسيا وإيران وأمريكا والارهابيين القاعدة وداعش وال ب ك ك وال ب ي د الانفصاليين الأكراد. لقد أصبح السوريين اقل من غبار في بلادهم وهم رمز القهر والتشرد والمظلومية في العالم…
هذه أعطيات النظام للشعب السوري كله مواليه ومعارضيه…عار التاريخ يجلله…
رواية “غرق السلمون” للروائية والفنانة السورية “واحة الراهب” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من قبل الأخ “احمد العربي” الرواية بسرديتها تغوص في واقع الثورة السورية مجتمعيا وسياسيا معرية النظام المستبد المجرم منذ عقود سابقة وفي سنوات الثورة حتى وقتنا الحاضر، حيث مر على ثورتنا أكثر من عقد من الزمان.