غالباً ما تسعى حركات التحرر الوطني والثورات الشعبية العامة إلى النهوض بقضاياها من حيّزها المحلّي الخاص للعبور نحو الفضاء العام، وحينها تصبح المضامين المطلبية للشعوب الثائرة جزءًا من المطالب الإنسانية الكونية، وربما يرى البعض أن شطراً كبيراً من نجاح أي حركة تحرر إنما يكمن في قدرتها على حيازة الحوامل التي تؤهلها لأن تكون إحدى قضايا الرأي العام، ووفقاً لهذا المنظور ربما يرى كثيرون أن جانباً من جوانب إخفاقات الثورة السورية يكمن في عدم قدرتها على الانتظام في نسق القضايا التي تحظى باهتمام كبير على المستوى القومي والعالمي أسوة بقضية فلسطين على سبيل المثال لا الحصر.
فما هي العوامل الكابحة لعبور قضية السوريين إلى اهتمام العرب والمسلمين قبل القول بعبورها إلى حيّز الاهتمام العالمي؟ وكذلك ما العوامل التي تجعل حساسية الآخرين حيال التعاطي مع القضية السورية أقلّ تأثراً بكثير من حساسيتهم حيال القضايا العامة الأخرى؟ علماً أن قسماً كبيراً من الجمهور العام – عربياً وإسلامياً – بات على يقين بأن مطالب السوريين بالتحرر من العبودية والتطلع نحو استرداد الحقوق واستعادة الحريات للعيش بكرامة وسلام لا تختلف في جوهرها عن أي قضية من القضايا العالمية العادلة، كما لم تعد مقولة المحتل الخارجي والمحتل الداخلي تصمد أمام الوعي الجديد لثورات الربيع العربي، والذي بات يؤسس لمفاهيم جديدة عن الحريات العامة والحقوق متماهياً مع سياقات ثقافية إنسانية عامة بعيدة عن سطوة الإيديولوجيا، إلّا أنه في الوقت ذاته لا يمكننا الزعم أن هذا الكشف الثقافي بات شديد التجلّي في المواقف والسلوكيات كما هو حاضر على مستوى التنظير، وربما بدا هذا أمراً مفهوماً قياساً للمسافة الفاصلة دوماً بين التفكير والممارسة السياسية.
لا ينبغي الوقوف مطولاً للحديث عن العوامل التي أتاحت المجال لتحقيق خروقات كبيرة في الثورة السورية، سواء على المستوى الميداني وسيرورة الانتقال من الطور السلمي إلى طور الكفاح المسلح أو من جهة اختراق الجماعات المتطرفة التي سطت على المشهد الثوري وأسست على أنقاضه مشهداً خادماً لعنف السلطة ودمويتها، ولا ينبغي الوقوف مطولاً – كذلك – عند مسألة التنظيم وقيادة الثورة وأزمة الكيانات السياسية والارتهان الخارجي وهيمنة النفوذ الخارجي على مفاصل قوى الثورة وسوى ذلك الكثير والكثير، فهذا كله – على الرغم من أهميته- بات معروفاً لدى الجميع ولم يعد السوريون بحاجة إلى مزيد من التفاصيل التي عايشوها بكل دقائقها، ومن جهة أخرى لم تعد تلك التفاصيل أكثر من تجليات مباشرة لعوائق بنيوية في الوعي لعلها الأجدر بالوقوف عندها، وما نعنيه بتلك العوائق هو أنماط الوعي التي ما تزال تتناسل من رحم الإيديولوجيات التقليدية وخاصة الإيديولوجيا الإسلامية والقومية اللتين قدّمتا فهماً قاصراً لمفاهيم الحريات وحقوق الإنسان على مدى ما يقارب القرن من نشوئهما، ولا يخفى أن نشأة التيارين الإسلامي والعروبي وتحوّلهما إلى تنظيمات حركية ارتبط ارتباطاً وثيقا بقضايا التحرر العربي، كما ساهمت قضايا التحرر من المستعمر في صياغة أهم الأسس والثوابت الفكرية الناظمة لهذين التيارين، فضلاً عن أن وعي الجمهور العام للعرب والمسلمين بقضايا التحرر الوطني كان وما يزال مُستَلهماً مما قدّمته الأدبيات السياسية للقوميين والإسلاميين.
لا جديد في القول إن القوميين قد أبدوا موقفاً خاذلاً للثورة السورية، وحين نشير إلى القوميين لا نعني التعميم بكل تأكيد، بل المقصود بذلك قوى (أحزاب وتيارات وتجمعات وشخصيات) ما تزال تتبنى الفكر القومي بصياغاته التقليدية، وما تزال توجد في العديد من البلدان العربية (الأردن – تونس – الجزائر – مصر – موريتانيا)، ولا يكمن خذلانها لقضية السوريين بانزوائها أو عدم اكتراثها بما يجري في سوريا فحسب، بل بمواقفها الداعمة لنظام الأسد ودفاعها المستميت عن أشد صور حاكم دمشق بشاعة وقذارة، وكذلك في حملات التشويه الهادفة إلى إفراغ الثورة السورية من محتواها القيمي وتصويرها على أنها مؤامرة تستهدف النيل من صمود وتماسك (نظام الإبادة الأسدي) باعتباره إحدى الدول التي ما تزال تتبنى مشروع المواجهة مع الكيان الصهيوني والإمبريالية الأميركية.
وبموازاة ذلك ثمة تجاهل بل تعامٍ كامل عما يمارسه حاكم دمشق بحق السوريين من فظائع، علماً أن ارتهان نظام الأسد كلياً لروسيا وإيران وتحوّل قواته إلى ميليشيا لا تختلف عن الميليشيات الطائفية الأخرى الغازية للأرض السورية، وكذلك افتقاد الأسد لقراره السيادي واستعداده الكامل لرهن جميع مقدرات الدولة السورية لحليفيه الروسي والإيراني بغية حصوله فقط على دعم استمراره في السلطة، لعل جميع هذه الأمور وسواها لا تجد لها موضع اهتمام أو تساؤل من جانب العتاة القوميين، ليس لأنهم لم يروها أو لم يدركوا تجلياتها التي تفقأ العيون، بل لأن استمرار تلك القوى في تماهيها مع الأنظمة الأكثر دموية تجاه شعوبها لا يجسّد حرص تلك القوى على مصالحها المباشرة سواء المادية أو السياسية مع نظام الأسد وسواه فحسب، بل يجسّد أيضاً عدم قدرتها على مفارقة تشوّهات الوعي الإيديولوجي الناظم لتفكيرها، و الذي ترى مغادرتها له انهياراً مباغتاً لذواتها، وبالتالي فإن دفاعها عن قناعاتها هو دفاع الخائب عن خيبته.
في سياق موازٍ للموقف السلبي للجماعات القومية من القضية السورية، لا يبدو أن الإسلاميين قد تجاوزوا أقرانهم القوميين في تقديم موقف من خارج مرجعياتهم التقليدية، إذ غالباً ما تكون مواقف هذا التيار وأنشطته واستراتيجياته محكومة ببعدها العقدي بعيداً عن المعطى الواقعي والحياتي، وبالتالي يبقى مفهوم (الوطنية) بالنسبة إليهم غائباً من الناحية الفعلية، على الرغم من حضوره إعلامياً، ولعلنا لا نحتاج الذهاب بعيداً في هذه المسألة، إذ تكفي الإشارة إلى موقف الإسلاميين السوريين من حراك مدينة السويداء الذي انطلقت شرارته في شهر أيار الماضي، وقد استطاع هذا الحراك الوطني أن يُحدث مفصلاً نوعياً في المشهد السوري، كما بدا يمتد إلى مناطق ومدن أخرى خارج سيطرة قوات الأسد، وفي الوقت الذي كان من المفترض أن يقف الجميع مؤازراً لهذا الحراك ومتضامناً معه سعياً لانطلاقة موجة جديدة للثورة السورية، إلّا ان واقع الحال أثبت أن صمت الإسلاميين (الإخوان المسلمون – المجلس الإسلامي السوري) وعدم إبداء موقف متضامن مع انتفاضة أهلنا في السويداء لا يمكن تفسيره باعتباره تجاهلاً مجانياً أو عدم اكتراث فحسب، بل هو موقف يضمر في طياته الكثير من العلائم الدالة على أن الوطنية التي يبحث عنها السوريون لتكون الجامع لعقدهم والمدخل الأمثل إلى طور الدولة الحديثة ما يزال بعيداً عن تصوراتهم، بل ربما مجافياً لمسعاهم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
نجاح أي حركة تحرر وطني يكمن بحواملها المؤهلة لجعلها إحدى قضايا الرأي العام، وهذا من سبب إخفاق الثورة السورية لجعلها ضمن نسق القضايا التي تحظى باهتمام على المستوى القومي والعالمي أسوة بقضية فلسطين مثلاً ، لذلك رأينا تخاذل قومي للثورة السورية وبذات المقياس كان التيار الإسلامي المحكوم ببعده العقدي بعيداً عن المعطى الواقعي والحياتي ، إن الوطنية يجب أن تكون مفتاح الحوامل للحركات التحررية لتكسب بعدها العام .