تشهد سوريا منذ أسابيع تطوّرات ميدانية في مناطق مختلفة ترافق استمرار انهيار اقتصادها وتراجع حرارة التطبيع العربي مع نظامها.
ففي شرق البلاد، لم تنته بعدُ مفاعيل الصدامات العسكرية التي دارت في شهرَي آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر الماضيين بين القوات الكردية ومقاتلين من عشائر عربية. وعكست الصدامات تكرّس عداواتٍ وانقساماتٍ وتصاعد خطاب مظلوميّة عربية تجاه الهيمنة الكردية على مناطق تتخطّى إطار الحضور الديموغرافي الكردي. وإذ توسّطت القوات الأمريكية المتمركزة هناك لوقف الاشتباكات في منطقة حسّاسة استراتيجياً لوجود عدد من حقول الغاز والنفط فيها من ناحية، ولمتاخمتها لمناطق سيطرة النظام الأسدي وحليفه الإيراني ولحدودِ العراق من ناحية ثانية، إلا أن لا تسوية سياسية ولا تبديل جدياً في الإجراءات الإدارية والأمنية ومسؤوليّاتها اتُّفق عليهما، ممّا يُبقي أسباب الصدام قائمة ولا يعني أكثر من تجميد مرحليّ له في انتظار جولة جديدة.
وفي الشمال الشرقي السوري، صعّدت تركيا في الأيام الأخيرة عملّياتها العسكرية المستهدفة مواقع القوات الكردية، متّهمة إياها بالضلوع في الهجوم الذي استهدف وزارة الداخلية في أنقرة. ويبدو الأتراك ماضين في تصعيدهم، بعد أن فشلوا في إقناع واشنطن بسحب الوحدات الكردية من مناطق حدودية ووقف تسليحها. على أن التصعيد بقي حتى الآن ناريّاً، أي من دون تقدّم تركي برّي، وتخلّله إسقاط الأمريكيين لمسيّرة تركية اقتربت من إحدى قواعدهم العسكرية في «تبادل رسائل» بين أنقرة وواشنطن يتطلّب التعامل مع تداعياته تفاوضاً مباشراً لا تبدو واشنطن مستجيبة كفايةً له حتى الساعة، رغم حرصها على إبقاء العلاقة بأنقرة «مقبولة».
فالتخلّي عن دعم القوات الكردية بالنسبة إلى الأمريكيين قد يُتيح للروس لعب دور أوسع للتوسّط بين القيادة الكردية ونظام الأسد. ومنح تركيا المزيد من النفوذ عبر قضم بعض الحضور الميداني الكردي يعني تمكين أنقرة من توسيع هوامش مناوراتها وقدراتها التفاوضية من دون مقابل واضح، خاصة أنها ما زالت ملتزمة بالتنسيق مع إيران وروسيا، وغير مُفصحة كفايةً عن مراميها تجاه دمشق. وهذا كلّه يعني أن العمليّات التركية ستتواصل قصفاً، من دون تغيير جدّي في خرائط الانتشار العسكري لقوى الصراع في المنطقة المذكورة.
أما في الشمال الغربي، فيبدو أن الأمور باتت مفتوحة على تصعيد خطير قد يؤدّي إلى عمليات برّية واسعة. فقصف النظام والطيران الروسي المتقطّع منذ أسابيع لمناطق في إدلب، والمتصاعد بضراوة منذ الخميس في 5 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، أي مباشرة بعد التفجير الكبير الذي استهدف حفل تخريج ضبّاط من الجيش السوري في كلّية حمص العسكرية، يمكن أن يمهّد لقتال يبدّل رقع السيطرة في مناطق خفض التصعيد وحول طريق «إم 4» السريع، وما يعنيه الأمر من مآسٍ ستحلّ بمدنيّين سبق أن نُكّل بهم في جولات قتال عديدة، وقسمٌ منهم لجأ إلى المنطقة بعد أن هجّرته قوات النظام وحلفاؤها من مناطق سورية أخرى جرى تدميرها واجتياحها.
ويُفيد التوقّف هنا عند تفجير حمص الذي ما زال الغموض يكتنف طبيعته والمسؤولية عن حدوثه. فالرواية المُعلنة من أجهزة النظام عن مسيّرات قدمت من إدلب غير مقنعة، أوّلاً لطول المسافة الفاصلة بين خطوط التماس وموقع الهجوم الذي لا يمكن لمسيّرات مُثقلة بكمّ كبير من المتفجّرات قطعه. وثانياً لأن رصد الرادارات الروسية والسورية والإيرانية لهذه المسيّرات غير السريعة في تحليق طويل مزعوم يُفترض ألا يكون معقّداً وأن يؤدّي بالتالي إلى إسقاطها. وثالثاً، لأن لا قطع من المسيّرات ظهرت في أيّ من الصور والفيديوهات التي وثّقت التفجير ونتائجه.
يُضاف إلى ذلك، أن اتّهامات النظام تلميحاً لتركيا بالوقوف خلف الهجوم، ثم مباشرةً لفرنسا بتزويد «الحزب التركستاني» بتقنيات أتاحت له التنفيذ، ثم الانتقال إلى اتهام أمريكا والقول بمدّها فصائل معارضة بمعدّات مكّنتها من شنّ الهجوم، تُظهر تخبّطاً معطوفاً على غياب التحقيقات التقنية والاستخبارية وغياب كل تبرير لعدم اعتراض المسيّرات قبل وصولها إلى منطقة حسّاسة أمنياً، وفي يوم استثنائي كيوم تجميع عشرات الضباط المتخرّجين من الكلية العسكرية الأبرز في سوريا.
ولا يعني استبعاد رواية النظام حول الهجوم تبنّي روايات بديلة، ذهب بعضها إلى الحديث عن مسؤوليته أو مسؤولية حليفه الإيراني عمّا جرى، تحضيراً وتبريراً لإطلاق عمليات عسكرية بحجّة الرّد، أو تخويفاً للمؤسسة العسكرية ولجزء من قاعدة النظام الاجتماعية، في مناطق الغالبية العلوية، لإبقائها مستَنفرة وموالية له. فهذه بدورها غير مقنعة، ولا إثباتات حولها في أي حال.
يبقى أن حجم التصعيد الميداني المتوقّع في الشمال الغربي وحدوده البرّية ترتبط بدينامية العلاقة المثلّثة الأضلاع بين أنقرة وموسكو وطهران وما فيها من حسابات. والعلاقة المذكورة لم تُمتحن سورياً منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، ومنذ استئناف المفاوضات النووية الأمريكية الإيرانية. وقد يكون لتعرّضها لتحدّيات التصعيد الراهن أن يظهّر مدى تماسكها، أو أقلّه تمسّك الأطراف بها وقدرتهم على احتواء الخسائر والقبول بالتسويات والتنازلات والمعادلات الجديدة المحتملة.
يؤكّد كلّ ما ذُكر آنفاً انتفاء كلّ مظهر من مظاهر السيادة السياسية السورية، ويبيّن عمق الترابط بين التذرّر الترابي السوري وقرارات الأطراف الخارجية المحتلّة له. وليس من المبالغة القول إن ما تبقّى من النظام الأسدي هو البنية المخابراتية-الأمنية-العسكرية المتسلّطة إرهاباً على المجتمع، التي تدير السجون والمحاكم واقتصادهما المافيوي وتشرف على التنكيل اليومي بعشرات آلاف الموقوفين والمعتقلين من جهة، وتضع مقدّراتها البشرية بتصّرف الروس والإيرانيين من جهة ثانية.
تموّل ذلك وتستفيد منه شبكات تصنيع الكبتاغون وتصديره، وصفقات تجارةٍ وتهريب وبيع فوسفات، لم تعد رغم مردودها تكفي، وهو ما يدفع رأس النظام لتوسّل استثمارات صينية بعد توقّف الإيرانيين عن مدّه بالطاقة لتراكم المديونية، وبعد تمنّع الخليجيين عن فكّ أزماته المالية، حتى الآن على الأقل.
يبقى أنه وسط كل هذا الخراب، ووسط انهيارات متتالية في قيمة الليرة السورية الشرائية وفي أحوال الناس المعيشية وفي خدمات ما تبقّى من إدارات الدولة المتهتّكة بفعل ممارسات النظام الممسك بمقدّراتها وسياساته، ووسط مآسي اللاجئين السوريين في لبنان وتركيا، تُبقي السويداء في انتفاضتها المتواصلة وأصوات أهلها وشعاراتهم رمقاً من حياةٍ تستحقّها سوريا. وهذا في ذاته، ولَو بدا كنقطةٍ في بحر، مدعاة أمل ورجاء…
*كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي