غامرت الصحفية الأوروبية غارانس لو كيزن بحياتها وكانت شاهدة على حرب النظام السوري على شعبه، حيث وثّقت مشاهداتها من داخل حلب حيث القصف والتدمير والقتل العشوائي على أحياء حلب المحررة عام ٢٠١٤م، ونشرت ذلك في الصحافة الفرنسية.
كانت قد درست العربية في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي، وزارت سوريا بعد ذلك كثيرا.
علمت بقصة قيصر ذلك المصور في الشرطة العسكرية السورية الذي سرّب ما يزيد عن ٥٥ ألف صورة عن معتقلين مقتولين بصور مختلفة. بحثت عنه وعمّن ساعده والتقت معهم جميعا، بعد عناء وارتياب وخوف من قيصر ومن سانده.
دونت كتابها هذا وثيقة مهمة عن آلة الموت السورية.
- من هو قيصر؟ !.
“قيصر” عسكري خدم في الشرطة العسكرية السورية، قام بتصوير كل ما طلب منه من حوادث ووفيات ويوثقها ضمن عمل روتيني ضمن الشبكة القضائية في مدينة دمشق.
كان ذلك قبل ثورة الشعب السوري ضد النظام المستبد في ربيع عام ٢٠١١م، وبعد ذلك بدأ يكلف قيصر بمهام تصوير جثث متنوعة مقتولة بطرق مختلفة. أدرك قيصر أن هؤلاء من نشطاء الثورة السورية. وأن هؤلاء الضحايا مجهولي الهوية، ويكونون مرفقين بارقام متسلسلة، تدل على الفرع الأمني الذي ارسلهم. كان يصاحب تصوير قيصر لهؤلاء تقارير طبية يدونها طبيب شرعي موثوق من النظام، وتوضع الصور مع التقارير في ارشيف خاص.
لم يستطع قيصر تحمل ما يشاهد ويصور، يعرف أن أي تعاطف مع هؤلاء سيعني بالنسبة له الموت مثلهم. ومع ذلك تحدث قيصر لصديقه سامي الناشط في الثورة السورية عن الصور، واتفقا على أن ينقل الصور تباعا لسامي الذي قرر ارشفتها وتوثيقها. استمر ذلك لسنتين، وبعد ذلك أحس قيصر بأنه في خطر سواء من النظام أو من الثوار الذين يرونه مازال يخدم النظام المجرم. قرر بالاتفاق مع سامي وآخرين من أنصار الثورة السورية أن ينشق ويحمل ما وثّق يطّلع العالم عليه، لعل ذلك يساعد في محاكمة النظام المجرم ويؤمن العدالة للضحايا.
ساعد اصدقاء قيصر في تهريبه من سوريا، وبدؤوا رحلة كشف صور قيصر.
- مسار صور قيصر.
تواصل سامي مع شخصيات وطنية من المعارضة السورية يثق بها هم حسان شلبي وعماد الدين رشيد وآخرين، واطلعهم على بعض ما لديه من صور، وهؤلاء نقلوا الصور الى دولة قطر، حيث اهتمت بالموضوع و تبنته وإحالته لخبراء دوليين: ديفيد كرين وديسموند دي سلفا. للتأكد من الوثائق وصحتها. حيث أكدوا صحتها، وأعطوا اسم قيصر للمصور وأخبروه بأنه في أمان.
بدأت قطر في عام ٢٠١٤م. حملة تعميم للصور على دول أصدقاء سوريا حيث أطلع وزراء خارجية ١١ دولة منهم امريكا وفرنسا وبريطانيا والسعودية وقطر والأردن وتركيا على تقرير وفديو عن الصور، كان ذلك صادما وقررت الدول العمل كل بطريقته للمساءلة والعدالة.
كانت فرنسا أكثر الدول متابعة للملف حيث قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السوري عام ٢٠١٢م. وبدأت حملة مطالبة بالمحاسبة. حيث وصل قيصر وسامي برعاية الرشيد وشلبي إلى أوروبا والتقيا بكثير من المسؤولين في دولها وفي مقر الاتحاد الأوروبي. كان الجميع متضامنين، ويتحركون ليصل الملف لمجلس الأمن ويعملون ليحاسب النظام على جرائمه.
وصل قيصر وصوره الى مجلس الامن واطّلع اغلب الاعضاء على الملف، والتقوا بعضهم بقيصر نفسه، ضمن شروط أمنية مشددة. كما التقت الإدارة الأمريكية ومجلس النواب وتعاطف الجمهوريين بقيادة جون ماكين الذي التقى بقيصر شخصيا ودعمه. لكن الرئيس أوباما لم يكن مهتما بالسوريين وما يحصل معهم. فقد ركّز جهده على الملف النووي الايراني. وتأكد زيف ادعائه محاسبة النظام أن ضرب الكيماوي وتجاوز الخط الأحمر. لم تتصرف امريكا شيئا ضد النظام الذي قتل ما يزيد عن ١٥٠٠ إنسان في قصف الكيماوي عام ٢٠١٣م. ولم يلتق أوباما بقيصر، ولم تعطه الادارة الامريكية الاهتمام المطلوب.
أما في مجلس الأمن فقد عملت فرنسا على استصدار قرار دولي لإدانة النظام ومحاسبته وتحويل ملفها لمحكمة العدالة الدولية. وسقط القرار بفيتو روسي صيني. وهكذا تبين لقيصر ومن معه أن النظام العالمي بقيادة أمريكا غير مهتم جديا بمحاسبة النظام. وترك لحلفائه روسيا وإيران حرية مساندته لتدمير سوريا وقتل شعبها وتهجيره. رغم متابعة لجان العدالة الدولية بالرصد والتوثيق واعلان قرارات اتهام بحق رموز أمنية وعسكرية في النظام. تنتظر محاسبة قد تأتي وقد لا تأتي.
- آلة الموت السورية.
لم تكتف الكاتبة في متابعة ملف قيصر ومافعل ومسار ما حصل معه منذ البداية ووصوله الى احدى الدول الاوربية والعيش فيها متخفيا. لقد التقت معه وأجرت حوارات استمرت لأربعين ساعة. كما التقت بطيف واسع من الناشطين السوريين الذين تحدثوا لها باستفاضة عن النظام المستبد السوري واجرامه. منذ عقود وإلى لحظة لقائها بهم. سامي وأبو الليث و الحمصي وغيرهم كثير، اغلبهم يحمل أسماء مستعارة.
حدثوها عن عشرات آلاف الضحايا في حماة وغيرها ومجازر تدمر في ثمانينات القرن الماضي. سيطرة الخوف والرعب على الناس، العيش في أجواء من الطائفية المخفية وسيطرة عائلة النظام وطائفته على الجيش والأمن وكل مفاصل الدولة. أجواء الاعتقال قبل الثورة حيث استباحة الناس للوصول إلى المعلومات. أما بعد الثورة فقد أصبح هدف النظام قتل الناشطين واهلهم وداعميهم بكل الوسائل. كان الاعتقال بما فيه من تعذيب وتجويع وقطع أعضاء وفقء عيون وقتل بطيء واغتصاب وعيش أجواء لا إنسانية في معتقلات لا مثيل لها حتى في المعتقلات النازية. كذلك القصف والتدمير، كلها إعلان قتل علني يومي بحق السوريين جميعا.
كيف حول النظام المجتمع السوري إلى قطيع يعيش للقمة عيشه ويخاف من غده؟ !. كيف الغى السياسة ونكّل بالمعارضين قتلا وسنين اعتقال مديدة؟ !. كيف اشترى ولاء السوريين لاحتياجهم للعيش والوظيفة والواسطة وعلمهم التقية والانتهازية؟ !. كيف صنع تابعين من مثقفي السلطان طبالين زمارين، ومن فقهاء السلطان، ومن وجهاء عشائريين أو ومن مكونات المجتمع الدينية والطائفية والمذهبية. اشترى ولاء الكل بالمكتسبات أو بالتهديد والوعيد.
لقد أصبحت سورية جمهورية الخوف، لذلك كان من المستحيل أن تقوم بها الثورة، وعندما قامت اعتمد النظام على نظرية قتل كل من ثاروا لينتهي من نزعة الحرية والكرامة الإنسانية التي يخافها.
لقد توسعت الكاتبة كثيرا بتقصي الناشطين من حول قيصر وأكدت ارتباطهم الصميمي بمجتمعهم. وأن ثورتهم والتضحيات التي قدموها تستحق أن تقدم. فهم انتصروا لتحقيق إنسانيتهم. ووقفوا ضد المظلومية التي يعيشونها مع اغلب الشعب السوري. وأنهم طالبوا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية كحق لهم، يعيشون أسوة بكل شعوب الأرض.
واكدوا ان ذلك ليس مستحيلاً…
احمد العربي.
١١/١/٢٠٢٢م.