… عندما قام جمال عبد الناصر ورفاقُهُ الضبّاط الأحرار بثورة 23 تمّوز/ يوليو عام 1952، كانت مشهديّة العالم السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة تتبلوَر نحو محوَرَين اساسيّين عبّرَت عنهما ظروف ما سُمِّيَ بالحرب الباردة بين الشرق والغرب: مِحوَر حلف “شمال الأطلسيّ”، المُكوَّن من أميركا واوروبّا الغربيّة، وحلف “وارسو”، المكوّن من الاتّحاد السوفييتيّ وأوروبّا الشرقيّة، وما بين الحلفين دُوَل تميل إلى هذا أو ذاك..
شقّ جمال عبد الناصر طريقَهُ الاقليميّ بإعلان المشروع القوميّ العربيّ المنادي بوحدة العرب من المحيط إلى الخليج ومواجهة المشروع الصهيونيّ، الذي بدأ باغنصاب فلسطين وتشريد شعبها عام 1948، المُتَبَنَّى من قِبَل الاستعمار الغربيّ بقيادة وتوجيه الولايات المتّحدة الأميركيّة.
لم تكُن الطريق أمامهُ سهلًا، على الإطلاق، إذ كان يواجه عالمًا قويًّا، بحِلفَيه، كان قد اعترف، قبل قيام ثورته، بالكيان الصهيونيّ وأقام معها كل أنواع العلاقات.
لذلك، ارتأى – مع مجموعة من القادة التاريخيّين في ذلك الوقت – إقامة تيّار عالميّ مختلف عن الحلفَين القائمَين يتكوّن من دُوَل العالم الثالث كي يؤسِّس لِنَوع من التوازن العالميّ يُظهِر استقلاليّة الدول الصغيرة، التي تحاول النهوض، ويساعد الشعوب المستعمَرة على مقاومة الاحتلال والسعي إلى نَيل الاستقلال.
شكّل الثلاثيّ عبد الناصر و”تيتو” و”سوكارنو” منظّمة دُوَل عدم الانحياز وأقاموا العلاقات الوُدّيّة مع دول كبرى لا تنتمي إلى الحلفين اللدودَين اللذين يخوضان حروبًا باردة وقودُها الدول الناشئة الصغيرة والفقيرة..
ألمُهِمُّ في الأمر أنّ جمال عبد الناصر، كشخصيّة زعاميّة جامعة وقائدة ومؤثِّرة ومُلهِمة، أسهَمَ بشكلٍ لم يسبق له مثيل، بسبب حبِّ الناس الجارف له. في تأسيس حالة عربيّة واقليميّة ودوليّة، استطاعت أن تأخذَ مكانًا ومكانةً على المسرح العالميّ كلّفت أميركا وحلفاءَها عشرات السنين ومئات المليارات لتفكيكِها وتهميش حضورِها ودَورِها..
من هنا أتت صعوبة ظهور عبد الناصر آخَر على المسرح المحلِّيّ والاقليميّ والدوليّ التي تتلخّص بالآتي:
1 – انسداد الأفُق المحلِّيّ في مصر، أكبر دولة عربيّة محوريّة لها امتدادات وتأثيرات افريقيّة وآسيويّة وعلاقات دوليّة، بسبب سيطرة الأجهزة الغربيّة على مفاصل القوّة فيها وبسبب ايصالها إلى أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة يصعب حلُّها في المدى المنظور .
2 – استفحال الأخطبوط الصهيونيّ في الساحات الرسميّة في معظم دُوَل الوطن العربيّ والعالم الاسلاميّ – ناهيك عن استفحاله التاريخيّ على المستوى العالميّ.
3 – دخول الأنظمة والشعوب العربيّة في حروب أهليّة دمّرت كلّ ما أنجزته في نصف قرن من التنميّة ومحاولات النهوض، كان أحد أسبابِه السعي الدائم والمستمرّ لقوى الاستعمار والصهيونيّة لتحطيم حضور العرب من أجل بقاء واستمراريّة وتثبيت المشروع الصهيونيّ.
4 – الانخفاض المذهِل لحضور القضيّة الفلسطينيّة في الدوائر الرسميّة والشعبيّة العربيّة – التي كانت تشكِّل أحدَ الدروعِ الواقية لاستمراريّة المشروع النهضويّ العربيّ، وفي المحافل الدوليّة.
بعد كلّ هذا، هل نفقد الأمل بظهور جمال عبد الناصر آخر في مصر يعيد صياغة المشروع ويضعُهُ في مسار العصر؟! ألشخص لم يَعُد هو الحلّ في هذا العصر بسبب تغيُّر الظروف بكلّ تفاصيلها – وان كان هو الشرارة التي تعلِن بدء المسيرة – وإنّما الحالة العامّة “الناصريّة” بالمعنى النهضويّ الشامل الذي كان يمَثِّلُهُ ذلك الرجل العظيم.
سيأتي بشر من أبناء جلدَتِنا للقَول: ولماذا لا ندعو إلى مشروع نهضويّ إسلاميّ؟! نقول: لا فرق ، هو ذات المشروع كما رآه جمال عبد الناصر بتحرير الإسلام من الاستغلال وزواريب السلطة والاختراقات الرهيبة التي شهدناها في السنوات الأخيرة. لا فرق بين العروبة والإسلام – بالنسبة للعرب – لأنّهما، ثقافيًّا، نوعًا واحدًا هدفُهُ وحدة الأمّة، بجميع مكوِّناتِها الدينيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وتحقيق حضورِها وحرِّيَّتِها وتقدُّمِها وتطوُّرِها وشأنِها بين الأمم.