سقط الأزرق من السماء هي الرواية الثالثة التي اقرؤها للروائي المتميز منذر بدر حلوم. كنت قد قرأت له سابقا رواية كأن شيئا لا يحدث ورواية قمصان زكريا، وكتبت عنهما…
يعتمد الكاتب في سرد روايته على لسان الراوي الذي يجعل في كثير من الأحيان أبطال روايته يتحدثون عن أنفسهم بلغة المتكلم، بحيث تعطي الرواية حميمية وعمق التواصل بين النص والقارئ . كما قسم الرواية الى فصول معنونة بـ ترويسات توحي بمن سيجلس على منصة البوح أو يتحدث عنه الراوي. بحيث تعطي للكاتب مساحة الحرية في الكتابة الروائية بين شخصيات الرواية مع الأخذ بعين الاعتبار تعدد شخصياتها. وكذلك تنوع المتابعات لعوالم الشخصيات ومن ثم تقاطعاتها وكذلك تنقلاتها في الزمان والمكان سواء في الحدث الروائي او في عقول ووجدان شخصيات الرواية الكثر…
مكان الحدث الروائي لرواية سقط الأزرق من السماء هو قرية في الساحل السوري بداية ثم تتوسع لتشمل سوريا وأبعد من ذلك. والزمان يبدو هو سورية في عصر حكم النظام السوري في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وفق ما نستنتجه من بعض الأحداث العامة…
تبدأ الرواية من درويش واصدقائه كاسر وغريب في الثانوية العامة في مدرستهم واستيائهم من مدرس الفتوة. بحيث يذكره الكاتب في الرواية باسم بدلة الخاكي. تهكما وسخرية واشارة الى الدور التسلطي الذي توحي به. هذا المدرب الذي يمثل سلطة اعتبارية للنظام السوري العسكري المتسلط. وهو لذلك كان قاسيا و متسلطا و مسيئا للطلاب…
درويش شاب ممتلئ ثقة بنفسه يسكنه احساس عميق بالتحدي واحساس الكرامة وكذلك صديقيه كاسر وغريب. يتداول معهم بأمر مدرب الفتوة، ويقرروا أن يجعلوه سخرية المدرسة كلها. ردا على إساءته للطلاب في دروسه التي لا معنى لها. وبالفعل يخططون وينفذون عمليتهم التي حولت المدرب مسخرة ووصل الامر للادارة والأمن ومديرية التربية، وانتهت الحكاية التي كانت أقرب للعب مراهقين عند درويش وزملائه الى فصلهم من كل مدارس سورية…
لم يكن يدرك درويش واصدقاؤه أن المدرب لم يكن يمثل ذاته وعنجهيته أو إساءته لهم. انه يمثل سلطة أصبحت تهيمن على سورية كلها. كثير من أبناء القرية وحتى الساحل ضباط وجنود وامن وموظفين في هذه السلطة التي يعتبرها بعض أهل الساحل انها سلطتهم، وان لم يعلنوا جهارا ذلك. لكن واقع حال سلوكهم يؤكد ذلك…
لم يستسلم درويش واصدقائه للفصل من مدارس سورية تابعوا دراستهم الحرة وحصلوا على شهادة البكالوريا الحرة ودخلوا الجامعة كل في فرع. درويش دخل كلية الفنون واصدقاؤه فروع اخرى لا يهم ما هي فهم بعد تخرجهم لم يتمكنوا من العمل وفق شهاداتهم الجامعية، لأن التوظيف مقتصر على جماعة السلطة من بعثيين ومخبرين ومن عصبة النظام… لذلك انتقل كاسر وغريب أصدقاء درويش لأنواع مختلفة للعمل الحر. وحتى في العمل الحر وجدوا من ينافسهم ويمنعهم من البحث عن لقمة عيشهم لقد عملوا في الصيد البحري وجاء جماعة النظام وحرقوا مركبهم تحت تهديد السلاح…
لدرويش خال في الاتحاد السوفييتي ، درويش ممتلئا املا ان يذهب الى عند خاله ليكمل دراسة الفنون التي يراها قريبة من قلبه وعقله وروحه. كان الاتحاد السوفييتي جنة العمال والفلاحين والفقراء والمضطهدين هكذا ترسبت في ذهن درويش لذلك كان حريصا ان يذهب الى هناك ويكمل دراسته الجامعية. لم يستطع خاله ان يؤمن له تسجيلا هناك. خاب أمله لكنه قال له ادرس في سورية في كلية الفنون ثم احاول اخذك الى هناك لتكمل اختصاصك الجامعي. وهكذا دخل درويش كلية الفنون الجميلة وهناك تكشف له عالما آخر.
تخرج درويش من الجامعة وكرر محاولة الخروج إلى الاتحاد السوفييتي. نجح في هذه المرة. لكن ما رآه في روسيا كان بالنسبة له خيبة حقيقية تلمّس مباشرة دولة الاستبداد القهري في الاتحاد السوفييتي وان لا عدالة ولا حياة أفضل ولا حرية ولا حق بالتعبير عن الرأي وان حلم الشيوعية كما تصوره ظهر خائبا. لذلك كان نقديا تجاه ما شاهده هناك مما جعل سلطة السوفييت وممثلي النظام السوري هناك يرحلونه و يلفقون له قضية امنية وانه رسم صورة رأس النظام السوري وقد اضاف اليها شوارب ستالين مذكرا بملايين قتلهم ستالين أيام حكمه، وأن الأسد مثله في سورية. عاد الى سورية واعتقل وسجن حوالي ثلاث سنوات وعاد ليعيش حياته في سورية التي ستتابعها الرواية…
لم يكن الواقع السياسي السوري في ذلك الوقت بخير. ففي ظل استبداد النظام منذ الستينات وتغوله وقمعه وفساده وتسلطه على الشعب وعلى موارد البلاد. فقد ظهرت حركات سياسية معارضة له . ولم يرحم النظام اي معارض جدي له. كان من معارف درويش الكثير من الشباب والصبايا من الشيوعيين المعارضين. وكان اعتقالهم ظاهرة شبه يومية مع ما يعنيه ذلك من معاناة واحساس بالمظلومية المجتمعية ومزيد من الخوف والاستكانة عند الناس في الساحل وكل سوريا…
اعتمد النظام في تصفيته للمعارضين على شبكة المخبرين الذين كانوا من الطلاب ومن دائرة النظام. واغلبهم متخفين وغير معروفين. كان عزيز منهم ، يعرفه درويش ويعرف انه كان وراء اعتقال الكثير من الطلاب والطالبات. وأنه كان يتردد على درويش ليحصل منه على معلومات كما يرصد درويش لعله واحدا من هؤلاء الناشطين المعارضين. درويش يمقت عزيز وينتظر الفرصة ليحاسبه عن أفعاله الخسيسة بحق كثير من الزملاء والزميلات…
تتوسع دائرة المعلومات عن شبكة النظام الذي تغلغل في في كل مفاصل المجتمع والحياة. فليس عزيز وحده الخسيس والسيء بل هناك الاسوأ. فقد صادر مجموعة من الأمن سيارة ابو ابراهيم لكي يستعملها في النقليات كوسيلة عيش. واخذوها لاستعمالها في عمليات التهريب التي كانت على أشدها في ذلك الوقت. تهريب كل شيء سلاح ومخدرات وبضائع أخرى… لم يستطع فعل شيء وأصبح مع الوقت واحدا من مؤسسة النظام في التهريب وغيره. وقبل ابو ابراهيم استدرج الأمن ابنه إبراهيم ليعمل معهم واستغلوا كونه لوطيا حتى يصوروا له فيلما يهددونه فيها حتى يخدمهم على أحسن وجه. واخوه الاصغر طافش الذي استخرج له المسؤول الأمني شهادة بكالوريا وهو لم ينجح بها اصلا وابتعث الى الاتحاد السوفييتي ليخدم المسؤول الأمني في كل ما يؤدي لتحصيل مكتسبات للمسؤول ومن وراءه. وبالطبع ليتابع دراسته الجامعية هناك التي تُشترى بأبخس الأثمان ليعود وقد اصبح مهندسا او متخصصا سرعان ما يأخذ موقعه الوظيفي في الدولة المستباحة لهؤلاء. صار طافش يحضر للمسؤولين نساء عاهرات من روسيا ليكسب دعم مسؤوليه اكثر…
كان عزيز ومعه المسؤولين بين الطلبة من جماعة النظام والأمن، يشكلون شبكة مطلقة اليد تعتدي على الطلاب وتبتز الطالبات الى درجة إجبارهم على ممارسة الجنس معهم . عزيز استفاد من الطالبة نجوى للحصول على معلومات عن أصدقائها الشيوعيين ليتم اعتقالهم. ادعى انه يحبها. واستدرجها حتى اختلى بها ومارس الجنس معها وفوق ذلك دعا المسؤول الطلابي لممارسة الجنس معها في عملية اغتصاب مدبر. كان ذلك بالنسبة لنجوى قتل لذاتها فبعد أن ادعى عزيز حبها وأنه سيتزوجها ها هو يعاملها كعاهرة …
تجمعت معلومات كثيرة في جعبة درويش وقرر ان يقوم بعملية انتقام ذاتي تطال على الاقل عزيز بما انه عاجز أصلا أن يواجه النظام كله.
نعم علم عزيز بحكاية ربيعة الفتاة التي تم انقاذها من بيت اهلها عن طريق احد اصدقائه الذين كانوا في مداهمة منزل في حماة يتحصن به أحد المقاتلين الاسلاميين. دوهم البيت وقتلت العائلة كلها وانقذت ربيعة وعملوا لإرسالها إلى بيت خالتها في الاردن. شارك بمساعدتها ضابط أصيب ايام أحداث حماة وشلت يده وسرح واخته وصديقه… يمر الكاتب على أحداث حماة والصراع بين النظام والطليعة المقاتلة وما فعله
إبراهيم اليوسف في مدرسة المدفعية في حلب ومجزرة طلاب الضباط واغلبهم من علويين. أراد أن يقول كانت حرب خاطئة ضحيتها السوريين سنة وعلويين وكأنه يشير الى أن هناك فاعل رئيسي وراء هذا الصراع وهو النظام ذاته…
النظام في الرواية لا يظهر بصفته كيانا فاعلا بشكل شمولي يخطط. لكن نتائج أفعاله تظهر في واقع حياة الناس في سورية. اعتقال المعارضين. الصراع بين النظام والمعارضين الإسلاميين والوطنيين. تغلغل النظام في كل مفاصل المجتمع، والدولة والجيش والأمن كلهم ادواته، الفساد والرشوة والنهب والتهريب واستباحة حياة الناس وأعراضهم. هذا غير الاشارة على استغلال النظام لشباب الطائفة العلوية ليكونوا جنوده في سيطرته واستغلاله لكل الشعب السوري. التطوع في الجيش و الأمن و انتشار العلويين في عشوائيات الفقر حول المدن في ضواحي سوريا كلها، هذا غير مساكن الضباط التي تبنيها الدولة في اغلب المدن السورية وحولها. هذا غير التوسع لمسؤولي النظام في شراء الأراضي والعقار وبناء القصور في مزارع شاسعة في ربى وجبال الساحل…
لا يكاد اي حال سوري الا ويذكر في سياق الرواية حيث يظهر جانبا من جوانب النظام المستبد الفاسد المتغول والطائفي في سوريا…
غريب صديق درويش من قرية في الجولان قتل والده في حرب ١٩٦٧م. بعدما تأكد أن النظام انسحب من الجولان قبل مجيء الصهاينة إليها. بقي والده في القنيطرة لأيام حتى جاء الصهاينة وقاتلهم واستشهد جاءت أمه معه الى قرية درويش وأصبح صديقه…
في مسار الرواية يقرر درويش ضمن معادلة وعيه أن وراء كل الأعمال السيئة و الخسيسة حوله كان عزيز لذلك قرر ان ينتقم منه صنع كرسيا كان مجهزا لمسرحية تمثل رواية ١٩٨٤ لجورج أورويل وهي عن الاستبداد السياسي. ومنعت لكن الكرسي كان مقصلة لعزيز…
تطبق عليه أخيرا حتى الموت…
تنتهي الرواية عندما تكتمل حلقة الاعتقلات حيث يعتقل غريب وكاسر ودرويش بوشاية من عزيز قبل ان تطبق عليه مقصلة درويش…
كأن نهاية الرواية تقول لنا كقراء ومتابعين. إن النظام انتصر على كل الناس في سورية. فهو أخذ ابناء الطائفة العلوية وجعلهم ادواته في سرقة خيرات البلاد وفي التسلط والقهر والفساد واستغلال المجتمع وعلى كل المستويات. وان النظام قد اغلق ملف من وقف ضده سياسيا وعسكريا و استأصلهم. وأن لا فاعل في سوريا الخاوية إلا النظام وازلامه…
لا بد ان نقف لنتحدث عن لغة الرواية المتحدية والممتلئة حكمة والغارقة في التفلسف، حول كل شيء. الوجود والله والحياة والرسالة والواجب والحرية والموت والمعنى والجدوى والفن وكل شيء…
يدهشنا أن عالم الحوار الداخلي في ذات شخصيات الرواية والراوي أكثر حضورا وتألقا من الحدث الروائي ذاته…
لذلك اهنئ الروائي على هذا الحضور الحي المتألق المتميز..
كما تظهر الرواية مدى اختزان الناس للمظلومية وان رماد المجتمع يخفي تحته الكثير من الجمر الذي سيظهر ثورة قادمة من هذا الشعب المظلوم بعد ثلاث سنوات على نشر الرواية في ربيع عام ٢٠١١م.
خرج الناس ضد النظام مرددين:
واحد واحد واحد الشعب السوري واحد
لكي يدمروا معنويا على الأقل محاولة النظام تقسيمنا طائفيا وان يحتل طائفة ويجعلها ضد الشعب وضد ذاتها. وما ثورة أهلنا في السويداء الآن والاصوات التي تصدح بالساحل الا بداية جذوة ثورة كل الشعب السوري. المطالب بإسقاط الاستبداد وتحقيق الحرية والعدالة والديمقراطية واسترداد كرامتنا الإنسانية المهدورة…ولكل السوريين…