أي ثورة أو حركة سياسية تكون في أمس الحاجة إلى رموز وطاقة رمزية دافعة تستطيع أن تخلق الإلهام. وتستطيع أن تحرك مشاعر الجماهير وأقدامهم سيرًا إلى الأمام وصعودًا إلى الأعلى في مسيرة الحركة أو الثورة.
وكلما زادت الرموز أو ازدادت الطاقة الدافعة لها تكون أكثر فعلاً وتأثيرًا. وفي هذه الأيام التي تمر فيها ثورة الشعب السوري بحالة ركود وبمناسبة حلول ذكرى استشهاد اثنين من رموزها، فإنها مناسبة لاستعادة الذاكرة والتذكير ببعض الرموز التي كانت وستبقى محطات دفع وإلهام ولنلقي قليلاً من الضوء على كيفية تكون الطاقة الرمزية حول كل منهم وما تمثله وتعبر عنه.
فلو بدأنا من باسل الفتى الدمشقي المسيحي الذي كان يعيش خارج سورية عند بداية الثورة، والذي اتخذ قرارًا شجاعًا بترك العيش الآمن وتأجيل ما يتعلق بمستقبله الدراسي والمهني وعاد ليشارك في الثورة الشعبية في بلده، وليستشهد في حمص في قصف مدفعي على أحد أحيائها قابضًا على كاميرته التي قاتل بها حتى النهاية.
هذه الصورة المحزنة بجمالها كانت تؤرق النظام لأنها تقوض الصورة التي أراد رسمها وتصديرها للعالم الخارجي بأنها ثورة متعصبين إسلاميين متطرفين مسلحين إقصائين.. وكانت صورة باسل ومشهد استشهاده بما نالته من مساحات إعلامية خارجية وداخلية، تقوض رواية النظام من جذورها وهذا ما يفسر كم العنف الذي استخدمه النظام في تفريق وإلغاء القداس الذي كان مفروض أن يقام له في دمشق، وقد جاء لحضوره مسيحيون ومسلمون ومن معظم الطوائف الأخرى جنبًا إلى جنب، وهذه الصورة التي أراد النظام عدم ظهورها للخارج في حين أن الصورة كانت معبرة عن رغبة الثوار والشعب السوري عامة باستمرار السلمية والتلاحم بين الطوائف والأديان في الداخل، والتفاعل بين الشعب السوري في الداخل والخارج. إنها صورة رمزية متعددة المستويات وشكلت طاقة إيجابية هائلة في حينها، وستبقى في المستقبل.
عبد الباسط الساروت كان قبل الثورة شابًا عاديًا غير معروف على نطاق واسع رغم أنه لاعب كرة ولكن نجمه سطع بعد بداية المظاهرات الشعبية الكبيرة في أحياء حمص، ليصبح في أيام من أهم رموز الثورة السورية وأكثرها إشعالًا للحماس رغم أنه لا يمتلك صوتًا شجيًا فقد أصبح مطربًا ورغم أنه لم يكن خطيبًا مفوهًا فقد أصبح أمير المنابر.
وشعبيته الكاسحة جاءت لأنه كان خير ممثل لفئة الشباب السوري غير المنتمي إلى أي اتجاه سياسي أو تيار فكري، وهو فقير بالتعبئة الأيديولوجية، لكنه غني بالتعبئة الوطنية الصادقة البعيدة عن المآرب الأخرى، لذلك أصبح رمزًا ومثلاً وطاقة رمزية فجرت الحماس والوطنية والتلاحم والصمود.. فبكلمات قليلة غير معقدة أوصل الفكرة واستنزف التصفيق وبألحان بسيطة وجمل عادية أطربنا وألهب مشاعرنا.
ورغم أنه في النهاية انزلق في اتجاه الممر الإجباري الوحيد الذي تركه النظام نحو الصراع المسلح، ومن ثم استشهاده في ساحة المعركة، فإنه برأيي يبقى أصدق ممثل لثورة الشعب السوري بعفويتها وصدقها وعظمتها وصمودها ووطنيتها، وكذلك بجموحها واخطائها وتقلباتها.
فهو يشبهنا، ونحن نشبه ثورتنا، وثورتنا تشبه كل الثورات في التاريخ البشري. وكما أن كل الثورات في التاريخ كانت قصصًا وشخصيات وحوادث رمزية، وحدث مفتاحي أيضًا تكون السبب المباشر. فإن حادثة أطفال الحرية في درعا كانت الصاعق الذي فجر براكين الغضب المتراكم لعقود. وإذا كان البعض حاول أن يصوره على أنه خطأ شخصي من عاطف نجيب فإنني أجزم أن ذلك كان سياسة الأجهزة الأمنية باتفاقها مع النخبة الحاكمة في دائرتها الضيقة. ولو كان غير ذلك لوجدتم عاطف نجيب إلى جانب الزعبي وغازي كنعان وقائمة المنتحرين برصاصات في الرأس. ولكني أعتقد أن الخطة التي أجمعت عليها الأجهزة الأمنية هي توجيه ضربة قاسية جدًا -أكثر من المعقول- بحيث تقطع الطريق على أية محاولة للتغير خارج إطار الحدود التي رسمها النظام. ولم يدر في ذهنهم أي خاطر بأن تذهب الأمور إلى ما ذهبت إليه من بعد. وربما أقصى ما كانوا يتخيلونه أنه ممكن استجرار منطقة أو مجموعة لمواجهة مبكرة قبل اكتمال أو نضوج حركات أو أطر تنظيمية تستطيع قيادة أو تنسيق حركة احتجاج واسعة ومن الواضح من أداء النظام في الأيام الأولى الثقة المفرطة لديه على حصر الموضوع وإنهاءه. ولكن كان ما كان وتحول أطفال درعا إلى رمز ذي طاقة هائلة أشعرت قطاعات واسعة من الشعب السوري بالخوف على المستقبل في ظل هذا النظام وهو الذي مكن من نقل الاحتجاج خارج حوران وستبقى الثورة السورية مدينة لكلمات نقشها أطفال الحرية على جدار التاريخ.
بعد جمعة الكرامة وعدة جمع أخرى من الاحتجاجات الغاضبة جاءت حادثة تسليم جثة الطفل حمزة الخطيب لذويه وعليها آثار تعذيب وحشي وتمثيل بجثته ومؤكد أن رسالة النظام وأجهزته الأمنية كانت واضحة: بأن التعذيب والتنكيل سيكون بلا قيود وبلا حدود إذا ما استمرت الحركة الاحتجاجية، وأنها لن تستثني كبيرًا ولا صغيرًا.
لكن سياسة العلاج بالصدمة الذي اتبعته الأجهزة الأمنية جاء بنتائج عكسية تمامًا فالرسالة المعاكسة من الشعب كانت الإصرار وبعد حادثة هاجر الخطيب وسامر الشرعي وغيرهم جاءت جمعة أطفال الحرية التي كانت نقلة نوعية في مسيرة الثورة من حيث التوسع العددي والجغرافي. وأصبح حمزة الخطيب أحد أيقونات الثورة وصوره الأكثر انتشارًا وتأثيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
ودخلت حماة على خط الثورة متأخرة عن المتوقع. واسمها وحده يحمل من الطاقة الرمزية والتأثير في الوجدان السوري ما لا يمكن وصفه. ومع دخولها المشرف الذي تصاعد بسرعة خارقة لتصل لمظاهرات تعد بمئات الآلاف. وأثناءها ظهر شاب يترنم بأهازيج متميزة تناولت مثلث الشر (بشار، ماهر، آصف) بشكل مباشر وبسخرية لاذعة. ولم يكن معروفًا آنذاك. وبعد أيام وجد مقتولًا على ضفة العاصي وقد جزت حنجرته. عندها عرف العالم إبراهيم قاشوش الذي أصبحت أغانيه ملازمة لكل فعاليات الثورة وصار ملهمًا للعديد من الشباب في كل المحافظات. وفي غضون ثلاثة أيام من استشهاده أصبح اسم إبراهيم قاشوش الكلمة الأكثر بحثًا على محرك غوغل على مستوى العالم. مما يؤكد أن مستوى تأثيره ورمزيته قد تجاوزت المستوى المحلي والعربي. لقد دفع حياته ثمنًا ليكون الرمز الأهم والأجمل للثورة السورية.
كانت مدينة داريا في ريف دمشق منذ بداية حركة الاحتجاجات متميزة من حيث التنظيم واللافتات. والأهم هو الإصرار على السلمية والحضارية في الطرح والتعبير رغم القمع العنيف. وكانت مشاهد توزيع المياه والزهور للجيش كافية أن تجعلها رمزًا لسلمية هذه الثورة. ولكن لم تنل هذه المدينة المناضلة نصيبها من الطاقة الرمزية حتى استشهاد البطل غياث مطر. تحت التعذيب في فرع المخابرات الجوية. وبما ناله من اهتمام شعبي وعالمي وصل لدرجة حضور أربع سفراء لعزاء أهله. وحجز مساحات مهمة في الإعلام العالمي وتقارير المنظمات الدولية فأعاد تسليط الأضواء على نضال داريا وريف دمشق وكل مدن سورية الثائرة. وأصبح اسم غياث مطر رمزًا حقيقيًا لسلمية الثورة السورية وحضاريتها. وأعاد فتح ملف التعذيب في أقبية العصابات المسماة بالأجهزة الأمنية على مصراعيه.
زينب الحصني: قصة سيرويها التاريخ. ففي البداية كانت حمص!! تلك المدينة الوادعة التي أبدت خلف رقة ملامحها إصرارًا غير محدود على نيل الحرية لنفسها ولوطنها كله مهما كانت التضحيات. وقدمت ما لا يمكن لأحد أن ينكره. واستطاعت أن تتجاوز كل الأفخاخ التي نصبت لها، وفي رأسها الفتنة الطائفية.
وذات يوم من الأيام تصحو على فاجعة بتسليم جثة فتاة مقطعة ومشوهة لآل الحصني على أنها ابنتهم زينب ودفنت في جنازة حاشدة تحت وابل من الرصاص.
وقد فعل هذا المشهد فعله الرمزي الكبير حيث أصبحت زينب رمزًا لهمجية ووحشية نظام مجرم ورمزًا لمساهمة وتضحيات المرأة السورية في هذه الثورة. ونالت نصيبًا واسعًا في الإعلام واهتمامًا كبيرًا من المنظمات الإنسانية. وكانت قوة دافعة مهمة في مرحلة حساسة من الثورة كان النظام يحاول بكل قوة أن يروج لفكرة أن الثورة قد دخلت مرحلة الأفول.
وبعد أسابيع. عرض التلفزيون السوري مقابلة مع فتاة يدعي أنها زينب الحصني وأنها حية ترزق. وقد حاول تسويقها على أنها ضربة قاصمة لمصداقية كل الأخبار التي أذيعت وبثت عن سورية سابقًا (عبر قنوات ومواقع التحريض حسب وصفه).
لكن زينب وقصتها أخذت منحىً رمزيًا جديدًا أكبر تأثيرًا وعمقًا في دلالاته. ففي المرحلة الأولى كان الرمز والطاقة الرمزية عاطفية في الدرجة الأولى. أما المرحلة الثانية فقد فتحت أبواب الأسئلة الكبرى.
كيف يمكن احتمال أو التعايش مع هذا النظام الذي يستهتر بأرواح ومشاعر المواطنين بهذا الشكل المريع!!؟ وكيف يمكن أن يزور كل شيء بهذه البساطة!!؟ شهادة وفاة.. شهادة حياة.. شهادة جنون.. ومصير مجهول!! همجية.. قسوة.. فساد.. استهتار.. حماقة.. سوء إدارة.. مواصفات حكم بها هذا النظام سورية خمسة عقود لم تعد قابلة للزيادة حتى لأسابيع.
لقد أصبحت زينب الحصني ميتة أو حية رمزًا لحياة شعب قاسى مرارة الاستبداد عقودًا وقد أراد الحياة والحرية ولا بديل عنها.
مشعل تمو أحد قادة الأكراد الذي اغتيل على أيدي مجهولين أثناء المرحلة الأولى من الثورة، وبدفعه حياته نال الشهادة والمجد. وأصبح من رموز الثورة الملهمين، لقد وحد استشهاده قلوب السوريين عربًا وأكراد. وأعاد طرح القضية الكردية في إطار الثورة السورية وهي إحدى أركانها وإحدى مهماتها في آن معًا.
فدوى سليمان الفنانة السورية المنتمية إلى الطائفة العلوية والتي أرادها النظام أن تكون خارج إطار الثورة بكليتها واستخدم في سبيل ذلك أقصى درجات العنف والتنكيل بالأفراد أو المجموعات المنتمية للطائفة التي حاولت الانخراط في ثورة الشعب السوري لأنه بنى روايته الموجهة للداخل بأن الطائفة العلوية مستهدفة بشكل مباشر من الثورة ومن ثم كل الطوائف والأقليات الأخرى. لذلك كانت صورة فدوى المتنقلة في أحياء حمص إلى جانب الساروت صادحة بهتافات وأغاني الثورة مؤرقة للنظام وحاول إيقافها بكل الوسائل لما حازت عليه من رمزية وطنية تقوض روايته، ولعل الاضطرار لإخراجها من سورية حرصًا على سلامتها كان أيضًا انعكاسًا رمزيًا لإخراج الثورة عن مسارها السلمي والوطني الجامع.
مي إسكاف كانت غائبة عن الساحة الفنية لفترة طويلة لأسباب كانت غير معلومة قبل انكشاف الستار. وكانت أول معتقل طوعي في الثورة حيث أصرت على ركوب الحافلة التي اعتقل فيها ثلة من الفنانين والمثقفين في بداية مظاهرة كانوا يعتزمون إقامتها في حي الميدان. وقد حاول الشبيحة الاعتداء عليها أثناء إطلاق سراحها من قصر العدل. ورغم غيابها عن المشهد فإن ذاكرة الثورة لن تنسى هذا الاختراق في ظل محاولة حثيثة من النظام لاستغلال الفنانين في حربه المفتوحة على الشعب. وهو ما ساهم في سحب هذا السلاح من يده عندما أدرك أنه سلاح فاشل وأن كل ما قاله كل الفنانين الشبيحة ليل نهار لم يعادل تأثير كلمات من مي اسكاف أو أغنية لسميح شقير عنوانها حفر في قلوب السوريين (يا حيف.. يا حيف) لتبقى ما دام فينا عرق ينبض. تصرخ وتنادي للحرية الواقفة على الباب.
لقد أدرك النظام من البداية حجم التأثير الكبير للفنانين بالذات في الشارع وتأجيج مشاعره، لذلك فقد وضع من البداية خطًا أحمر ليس فقط على مشاركتهم في الاحتجاجات، ولا على تأييدها، بل لم يترك لهم حتى خيار الحياد، فقد بلغهم بشتى الوسائل المباشرة وغير المباشرة -بالأخص بعد صدور ما عرف ببيان الحليب أوائل أيام الثورة- بأن كل من لا يتبنى رواية النظام وتأييدها بشكل علني ومباشر ستتخذ ضده إجراءات تهدد مستقبله المهني، مع ذلك فقد تجرأ الكثيرون منهم على معارضة النظام والانحياز إلى شعبهم مثل فارس الحلو وخالد تاجا وعبد الحكيم قطيفان و آخرون، ومعظمهم دفعوا ثمنًا باهظًا يؤهلهم لدخول الذاكرة الجمعية للشعب السوري الذي لا يجحد ولا ينسى. كذلك فقد كان في مسيرة هذه الثورة العظيمة الكثير من الرموز والطاقات الرمزية التي يضيق المجال عن ذكرها هنا.
المصدر: اشراق