مرت أشهر عدّة على حضور رئيس النظام السوري بشار الأسد القمة العربية في جدّة بعد سلسلة مصالحات وفّرتها له الرياض، التي أرادت للاجتماع المعقود على أراضيها أن يُظهر استتباباً لأحوال الأنظمة العربية بمعيّتها ورعايتها، على نحو يطوي تبِعات مرحلة الثورات والاضطرابات، ويستعيد بعد «انتصار» الثورات المضادة، استقراراً تعدّه ضرورياً لإطلاق ديناميات اقتصادية جديدة في المنطقة.
على أن الأشهر التي مرّت منذ التقاط الصورة العربية «العائلية» بين الرؤساء والملوك والأمراء، لم تشهد أي تطوّر سياسي أو اقتصادي يوحي بسلوك التطبيع مسالك جدّية تُتيح لنظام الأسد البدء بما يُسمّيه «إعادة الإعمار» وإنهاء العزلة الدولية التي يقبع فيها. وهذا يشبه ما جرى أيضاً قبل خمس سنوات، حين طبّعت الإمارات العربية المتحدة ومعها البحرين مع الأسد، من دون أن ينعكس الأمر تغيّراً ملموساً على أرض الواقع، في ما عدا بعض المساعدات المالية التي استفادت منها آلة حرب النظام في إدلب وشبكات الزبائنية المرتبطة بها.
ولأمر التطبيع البارد هذا، حتى الآن على الأقلّ، عدّة أسباب.
الأول، يرتبط بخشية المطبّعين من آليات العقوبات الدولية، الأمريكية بخاصة، المرتبطة بقانونَي قيصر والكبتاغون، وبجملة عقوباتٍ يمكن أن تطال المتعاملين مع هيئات وشركات وأفراد في سوريا من داخل النظام أو على ارتباط وثيق به.
الثاني، يتعلّق بهشاشة الأوضاع السورية وببقاء المطبّعين، لا سيّما الإمارات والسعودية، في دوّامة الأحاديث المتهافتة عن عدم ترك سوريا لإيران وروسيا وتركيا (بعد إسقاطهما شرط إخراج إيران منها)، من دون القدرة الفعلية على منافسة طهران وموسكو وأنقرة تأثيراً في الأحداث أو في تطوّرات الأمور في الميدان. فضخّ الأموال لشراء دورٍ لا يكفي، والسعوديون والإماراتيون يدركون تماماً أن للنظام السوري القدرة على ابتلاع ما قد يضخّون، من دون تقديم شيء لهم أو توفير ما يطمحون إلى تحقيقه منافسةً لأطراف حاضرة عسكرياً داخل سوريا، ويعود لطرفين من بينها، أي إيران وروسيا، الفضل الأكبر في بقاء الأسد نفسه ونظامه.
السبب الثالث، يتّصل بملف الكبتاغون، الذي تحوّل إلى سلاح يستخدمه نظام دمشق لجذب عروض المقايضات، لكنه بات في الوقت عينه أسيراً له ولموجبات تصنيعه وتصديره الاقتصادية والعلائقية. فإذا كانت دول الخليج، ومعها الأردن، إضافة إلى دول أوروبية، تشكو من دخول حبوب المخدّر المصنّع هذا إلى أسواقها وانتشاره على نحو واسع في بعض البيئات الشابة في مجتمعاتها، فإن مشروطيّتها التطبيعية لناحية وقفه مقابل المساعدات الاقتصادية تصطدم بابتزاز لا يبدو أن الأسد قادر على التراجع عنه. فهو يريد المساعدات قبل وقف التصنيع والتصدير بحجة التعويض على شبكاته وتوفير المبالغ التي يدرّها الكبتاغون على خزينة دولته (وخزائن أركان النظام)، وهذا متعذّر. وهو غير قادر أصلاً على ضبط الكبتاغون من دون المجازفة بخسارة ورقة ضغط يملكها من جهة، وبإثارة القلاقل بين جماعات المصنّعين والمهرّبين الذين يحتاج لولائهم من جهة ثانية، ممّا يُبقي الملف مُعلّقاً ومثله المساعدات، أو جلّها.
السبب الرابع، وهو على علاقة بسابقه، مفاده أن الأسد تراجع عمّا ظنّه بعضُ مُحدّثيه العرب (وبينهم لبنانيون من مريديه) ليونةً في ما يخصّ السماح لأعداد من اللاجئين، لا سيّما المقيمين في لبنان والأردن، بالعودة الجماعية الآمنة إلى سوريا. وكرّر نظامه منذ فترة التذكير أن عودة اللاجئين تستلزم إعماراً، وهذا بدوره يستلزم أموالاً، وبالتالي لا عودة من دون وصول الأموال. وبالطبع، يُعيد الاشتراط المذكور التفاوض حول هذا الملفّ إلى نقطة الصفر. ولا يُخفى على عارف بأحوال سوريا، أن سياسة التهجير التي اعتمدها الأسد منذ العام 2012 كانت ممنهجة، وكانت تستهدف شرائح مجتمعية محدّدة لأسباب مذهبية ومناطقية وطبقية، لإنجاز تبديلات في الديموغرافيا السورية، هنّأ الأسد نفسه رسمياً بأنها أتاحت جعل النسيج الاجتماعي في البلد «أكثر انسجاماً».
والسبب الخامس، أن الأسد أراد من الصورة العربية في قمّة جدّة أن تكون نافذة نحو أوروبا أولاً ثم أمريكا، فتكون عودته إلى الساحة الإقليمية مقدّمة لعودةٍ مظفّرة إلى الساحة الدولية.
التقدّم البطيء في «حقول الألغام»
لكن أن تبقى الأمور عند حدود الرياض أو أبو ظبي أو القاهرة والجزائر، فالمسألة لا تكفي، وهو طالب الخليجيين بوساطة أكثر «جدّية» مع العواصم الغربية لفتح أبواب التطبيع الأهم معها، ولم يُفلح. ذلك أن عدداً من العواصم الغربية (واشنطن وباريس ولندن وبرلين وبروكسيل وأمستردام) ما زالت على مواقفها من ضرورة إيجاد ما تسمّيه «حلاً سياسياً» في سوريا قبل أي تطبيع أو رفع للعقوبات. والعدد الآخر من العواصم (براغ وروما وأثينا وبودابست) غير مؤثّر كفاية للدفع بمشيئته (التطبيعية). وهذا يجمّد المبادرات، ويمنح (ولَو على نحو غير مباشر أو غير مقصود) الدعاوى القضائية المقامة ضد مسؤولين في النظام السوري في برلين وباريس وغيرهما وقتاً وقدرةً على جعل التطبيع إياه أكثر صعوبة.
أما السبب السادس، فيمكن اعتباره مرتبطاً بأحوال دولية أبعد من أوضاع سوريا ذاتها والسياسات العربية تجاهها. فالقوى العالمية الكبرى اليوم، على وقع استمرار الحرب في أوكرانيا، التي باتت أقرب إلى حرب استنزاف لا مؤشرات على قرب انتهائها، وعلى وقع التنافس الاقتصادي المتعاظم، لا تبدو متّجهة للبحث عن حلول جذرية للكثير من الصراعات. بل هي تكتفي بتجميدها وإعادة التموضع تجاهها في انتظار تصفية حسابات أو الاتفاق على تسويات. ولا يمكن للتطبيع مع دمشق بالتالي أن يمضي قدُماً في أي اتجاه قبل رسوّ معالم العلاقات الدولية على ملامح أكثر وضوحاً.
في خلاصة الأمر أن التطبيع مع النظام السوري سيستمرّ بارداً في المرحلة المقبلة.
وحتى لو اعتبر البعض أن زيارة الأسد إلى الصين قد تُفضي إلى خرقٍ سياسي في جدار المراوحة القائم وإلى استثمار اقتصادي في البنية التحتية السورية قد يشجّع أطرافاً متردّدة على الإقدام الاستثماري، فإن في اعتباره أخطاء تشخيص مردّها أن الصين التي يمكنها بالطبع الاستثمار في سوريا، تمنّعت حتى الآن عن ذلك رغم سيطرة حليفيها الروسي والإيراني على جزء كبير من البلد، وهي لن تذهب في أيّ من خطواتها اليوم بعيداً، لأنها تدرك حجم المحاذير، ولأنها تفضّل التقدّم البطيء في «حقول الألغام»، على ما تفعل دائماً. بمعنى آخر، يمكن للصين أن تُظهر انفتاحاً على مطالب الاستثمار السورية، لكنها لن تتورّط بأكثر من وعودٍ ومن بعض عقود تعاونٍ سيتطلّب تطويرها جلاءً للكثير من الملابسات في سوريا ذاتها وفي مناطق نزاع أو تنافس عديدة في المنطقة والعالم.
في الانتظار، يبقى ما يجري في السويداء من انتفاضة شعبية ومن تصلّب إرادة تحدٍّ سياسي للنظام الأسدي، أهمّ ما يمكن رصده ومتابعته في سوريا اليوم. ففي استمراره وتوسّعه ما قد يعدّل من موازين قوى وما قد يؤثّر على مستقبل التطبيع نفسه ومساراته المتعرّجة.
*كاتب وأكاديمي لبناني
المصدر: القدس العربي