تأسست الجاسوسية عند العرب في الجاهلية مع ما سموه “النذير العريان” وتطورت في عهد عمر بن الخطاب وتمأسست في الدولتين الأموية والعباسية
هل كان للعرب قبل الإسلام وبعده وفيه أن يوفروا وجود عالم المعلومات والاستخبارات، ومحاولة معرفة الآخر، لا سيما إذا كان من الأعداء وليس الأصدقاء؟
مؤكد أن شأنهم كان كشأن أي جماعة بشرية، تسعى ضمن سياقات الحياة، في دروب من الصراعات الوجودية، الأمر الذي تطلب عيناً ثالثة تستكشف الأحداث وتتوقع مآلاتها.
غير أن هناك ولا شك فارقاً بين العالم العربي في زمن الجاهلية، عنه بعد النبوة، وبدء عصر الفتوحات الإسلامية، تلك التي واكبتها معارك حربية مع إمبراطوريات كبرى، مثل الفرس والروم بنوع خاص… ماذا عن هذا الفارق؟
يمكن القطع بأن العرب في الجاهلية لم يعرفوا أعمال الجاسوسية بصورتها المنظمة، ذلك لافتقادهم لفكرة الدولة العصرانية أو الدولة المركزية، التي تقوم على التخصص، وتوزيع المهام، كما الحال في حاضرات أيامنا.
لكن، وعلى رغم ذلك لم تخلُ الحياة في الجاهلية من محاولات متفرقة للحصول على معلومات عن ذلك الآخر، فقد كانت لهم عيون منتشرة في سياقاتهم الجغرافية، وغالباً ما كان التجار أو المسافرون على هيئة سرايا صغيرة تقتص آثار العدو وتسأل من تراه من المسافرين، وكذلك عرفوا ما يسمى “النذير العريان”، الذي كان يزودهم بمعلومات سابقة عن الغزاة لديارهم.
ولعل ما جرى بعد بدء النبوة، هو قيام بعض من قبائل العرب مثل ثقيف وقريش وبني حنيفة، بتجنيد جواسيس في محاولة للحصول على معلومات عن النبي محمد، وكذا عن المؤمنين الذين يتبعونه، في محاولة لوأد الدعوة في مهدها.
وفي كل الأحوال، يمكن القطع بأن فكرة التجسس والاستطلاع الاستشرافي لم تكن توجد بقوة وحضور فاعلين في عالم عرب الجاهلية، ذلك لأن التحرك الدائم بحثاً عن العشب والماء، لم يتح المجال لبناء دولة عصرانية.
ولعلنا بالبحث المعمق لا نجد إلا القليل جداً عن الجاسوسية والاستخبارات في الجاهلية، ومنه ما أورده الباحث جواد علي في كتابه: “المفصل عند العرب”، أنه إذا أحس العربي بغارة أو رأى العدو أو رأى قوماً يتقدمون لمفاجأة قومه، سارع إلى إنذارهم وإبلاغهم بذلك حيث يتجرد من ثيابه ويشير بها لقومه من بعيد، دلالة على الخطر، ولهذا أطلق عليه “النذير العريان”.
الجاسوسية في بداية الإسلام
اختلف الأمر كثيراً جداً مع ظهور الإسلام، والحاجة إلى حماية الدعوة، ثم حماية المؤمنين الذين لاقوا أشد العذاب من أهل قريش وما حولها.
من هنا ظهرت الحاجة إلى أعمال التجسس حماية للنفس وللنبوة الجديدة وللدولة الإسلامية الوليدة وقد جاءت كلمة تجسس من قلب اللغة العربية، فالتجسس هو طلب الأمر والبحث عنه، وهو صيغة مبالغة من الجس، الذي يعني اللمس باليد لمعرفة الحال.
وقد أطلق العرب سواء في الجاهلية أو الإسلام على الجاسوس لفظة “العين”، ذلك لأن عمله يقوم على عينيه وما يرصده، ولشدة استغراقه في الرؤية فكأنه صار كله عين.
لم تكن هناك في بدايات الدعوة فكرة منهجية عن التجسس والجاسوسية، كما الحال عند المصريين أو الرومان، وربما الفرس في ذلك الوقت.
غير أن ذلك لم يمنع من وجود شواهد على أهمية هذا العمل في بواكير الإسلام، فقد كانت الحاجة ماسة لتدبير شأن نشر الدعوة في هدوء وبعيداً من أعين المشركين.
نقرأ في كتاب “في السيرة النبوية/ قراءة لجوانب الحذر والحماية”، لمؤلفه الدكتور إبراهيم علي محمد، أن الدعوة مرت بثلاث مراحل، مرحلة سرية الدعوة، ومرحلة الجهر بها، ومرحلة الهجرة إلى المدينة المنورة.
من هنا يمكن القول، إن بداية استراتيجية عالم الاستخبارات في الدولة الإسلامية، نشأت في المرحلة الثالثة حين اتخذت لها عيوناً وأرصاداً خارج المدينة التي هاجر إليها النبي تمده بالمعلومات المتعلقة بقريش ونواياها وإمكاناتها ومواطن الضعف عندها، وكذا مواطن قوتها.
هل وجد في تلك المرحلة من يمكننا اعتبارهم بلغة اليوم الآباء المؤسسين للاستخبارات في الدولة الإسلامية؟
نعم، وفي مقدمهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وحذيفة بن اليمان العيسى في المدينة المنورة والعباس بن عبدالمطلب وبشير بن سفيان العتكي في مكة وعبدالله بن أبي حدرد الأسلمي في القبائل الأخرى، كما اتخذ النبي عيوناً في بلاد فارس وبلاد الروم.
ولعل البحث المعمق في كتب التراث يقودنا إلى فهم أوسع في هذا الشأن، فعلى سبيل المثال، يورد البخاري في شرح الباري وابن حنبل في مسنده، أن “النبي أرسل 10 عيون يتجسسون له في غزوة بدر”، وقد استفاد من الأخبار التي جمعها عن قافلة قريش وتحرك جيشها، فاستعد للمعركة ونجح، فتم الاتفاق مع العباس عم النبي بعد أن استبقاه في مكة، على أن يرسل أخبار قريش وتحركاتها إليه، وبدأت عملية بث العيون في القبائل، وأهمهم يهود المدينة.
تطوير العمل الاستخباري الإسلامي
هل اقتصرت أعمال الاستخبارات في عهد النبي على الرجالات من الصحابة، الذين تم تكليفهم بالحصول على المعلومات وجمعها وترتيبها، ومن ثم الاستفادة منها في المعارك مع الأعداء في الداخل أول الأمر؟
في كتابه “جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلامية”، يحدثنا المؤلف محمد حسين الأعرجي، عن تجاوز النبي لتلك المرحلة، إلى ابتكار وسائل جديدة تعتمد على أناس آخرين هم من سكان المناطق المجاورة للمشركين، فقد قبض المسلحون على رجل يهودي وأمنوه على نفسه مقابل أخبارهم عن بعض الأماكن وممرات الحصون التي كانوا يحاصرونها في غزوة خيبر.
هنا كان للمعلومات المقدمة من جانب هذا اليهودي أثر في اقتحام الحصون والسيطرة عليها لا سيما وأن خيبر فيها أماكن محصنة وممرات تحت الأرض لا يمكن معرفتها إلا من طريق المعلومات الاستخباراتية ولرجالات من أهلها.
كانت المعلومات الاستخباراتية تحلل من قبل الرسول، وتدقق من خلال الفراسة والنباهة التي كان يتمتع بها، فعندما انتقل في معركة بدر من المشاورة واتخاذ القرار إلى التنفيذ أخذ يجمع المعلومات عن قريش وتحركاتها، فبعث بعض أصحابه إلى ماء بدر ليلتمسوا له الأخبار فوجدوا هناك غلامين لقريش يجلبان الماء لقومهما، فألقوا القبض عليهما وبدأوا باستجوابهما فأخبروهم أن قريش قريبة منهم، كما استنتج الرسول من جانبيهما أن عدد مقاتلي قريش بين 900 و1000، وأن بينهم زعماء قبيلة قريش فقال “هذه مكة فقد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها”.
ولعل ما عزز من الحاجة إلى الاستخبارات في صدر الدعوة، أن الجانب الآخر كان له عيون ضد النبي وأتباعه، فنرى على سبيل المثال أبا سفيان يستطلع أخبار المسلمين وتأهبهم منذ الوهلة الأولى وهو يسير بقافلته صوب مكة، وكان يتوقع خروج المسلمين للتعرض له، ولكنه غير طريق سيره بعد اعتماده على معلومة استخباراتية تفيد أن الخطر يكاد يحيق به، وبقافلته، وبذلك فوت فرصة الاستيلاء على القافلة.
كذلك عندما عسكر جيش قريش أرسلوا شخصاً ليستطلع لهم عدد المسلمين وأموالهم فأجال بفرسه حول المعسكر ثم رجع إليهم فقال “300 رجل يزيدون أو ينقصون”.
ويفهم من خلال هذه الروايات أهمية المهام الاستخباراتية في المعارك والغارات في ذلك العهد، التي حاول المسلمون استثمارها لتحقيق الفوز.
لاحقاً، وبعد أن تستتب الأمور للدين الجديد، ويضحى المسلمون دولة قوية، ستشهد العصور التالية بزوغ ما يمكن اعتباره أجهزة استخباراتية مؤسساتية، لا سيما في العصرين الراشدي والأموي.
الاستخبارات في عهود الخلفاء
وجدت دولة الخلافة منذ عهدي أبي بكر وعمر نفسها في مواجهة تحديات وأعباء ثقيلة، لا سيما في ظل الرافضين للدعوة في شبه الجزيرة من جهة، ناهيك عمن حاولوا الارتداد عن الإسلام تالياً، ومن جانب آخر كانت هناك الممالك والدول المحيطة بالدولة الإسلامية البازغة، تقف بالمرصاد.
من هنا يمكن للمرء تفهم اهتمام الخلفاء الراشدين، لا سيما أبو بكر وعمر بن الخطاب، بمسألة الاستخبارات ولهذا لم يدخرا جهداً في التنبيه على قادة الجيوش الإسلامية الماضية في طريق مهام حربية داخلية أو خارجية، بأهمية وضرورة اتخاذ الأدلاء الذين يعرفون دروب الصحراء، والعيون الذين ينقلون لهم الأخبار، وأخذ الحذر والحيطة، وكتمان الأسرار.
كان خالد بن الوليد من أكثر القادة نجاحاً في استخدام طرق التجسس على جيوش الأعداء قبل المعارك.
غير أن تقصي أحوال الداخل، ومعرفة شؤون الدولة الخفية، أمر اهتم به أبو بكر بنوع خاص، ومن هذا ظهر رجال العسس، والكلمة مأخوذة من فعل “عس”، وهو طلب الشيء في الليل، وأصبحت تقال على من يطوف ليلاً لحراسة البيوت والأمن، وتحكي كتب التراث مثل كتاب “الطبقات” لابن سعد، أن أبا بكر كلف عبدالله بن مسعود بهذه المهمة فأمر بالعسس في الليل.
غير أن أول من جعل مهمة العسس مؤسساتية في الدولة الإسلامية، وكوظيفة دائمة لأشخاص محددين، هو الخليفة عمر بن الخطاب، وقد تمت تسميتهم في ذلك الوقت “حراس الليل”.
وتحوي كتب التاريخ كثيراً من الروايات المنسوبة لعمر، التي تقاطعت مع قيامه بنفسه بمهمة العسس في الليل في تلك الأوقات لتفقد أحوال الرعية.
كان نظام العسس في الداخل هو النواة الأولى لأجهزة الشرطة في الدولة الإسلامية، ومن بطونها ستخرج جماعات تضحى مهمتها السعي خارج الحدود العربية، ولتنتقل المهام من عند حراسة وحفظ الأمن ومراقبة الأسواق، إلى جمع المعلومات عن الدول المحاربة والأعداء الخارجيين.
غير أن هذا التطور لم يحدث في عهد الخلفاء الراشدين، بل عرفته الدولة الأموية، ويعزى إلى الخلافات السياسية التي طفت على سطح الأحداث لاحقاً.
الاستخبارات والدولة الأموية
يخبرنا المؤرخ الألماني “وولفغانغ كريغر”، في مؤلفه “تاريخ الاستخبارات/ من الفراعنة حتى وكالة الأمن القومي الأميركي NSA”، كيف أن التنازع بين المسلمين في زمن الدولة الأموية (41-132هجرية، 662-750ميلادية)، قد دفع أول خليفة أموي، معاوية بن أبي سفيان، في طريق إنشاء نظام تجسس واسع، وقادر على موافاته في الوقت المناسب بما يحاك ضده من مؤامرات.
إضافة إلى هذا اختار الخليفة الأموي الأول أربعة آلاف شخص يعتمد عليهم، ليشكلوا حرسه الخاص، ومن بينهم كان عادة ما يتم ترفيع عناصر بعينها لتتشكل منها أجهزة الاستخبارات خارج الحدود الإقليمية للدولة الأموية.
يعن لنا أن نتساءل: هل اقتبس معاوية بن أبي سفيان فكرة النظام البريدي الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية في أعمال التجسس، وقام من ثم بتطبيقه في خلافته الوليدة؟
غالب الظن أن هذا ما جرت به المقادير بالفعل، حيث أفرد ديواناً خاصاً أطلق عليه “ديوان البريد”، ترد إليه الرسائل والكتب من مختلف الأمصار، ثم تعرض على الخليفة للبت فيها وإصدار التوجيهات بصدد ما ينبغي فعله نحوها، وكان لصاحب البريد مقره في قصبات الإقليم.
يمكننا اعتبار صاحب البريد هذا، بمثابة مدير الاستخبارات في الأجهزة المعاصرة، وقد نيط به كذلك إضافة إلى نقل الأخبار، القيام بأعمال الشرطة السرية، وعرف رجاله بالعيون، ورئيسهم باسم “صاحب الخبر أو العين”، هذا فضلاً عن جمع الأخبار المتصلة بالأفراد والفرق المعادية للدولة، وممارسة النشاطات الاستخباراتية.
أصبحت وظيفة قيادة الاستخبارات من وظائف الدولة الرسمية، وكان هذا أمراً طبيعياً نظراً لتوسع رقعة الدولة العربية الإسلامية، فضلاً عن انتقال مركز الدولة إلى دمشق في بلاد الشام.
كان لهذا التغير السياسي أن يوجد اتجاهات سياسية معادية، فضلاً عن دخول عناصر متعددة ومختلفة الأجناس في الدين الإسلامي، تحمل ثقافات واتجاهات وآراء ووجهات نظر مختلفة أصبح لها تأثير في الجوانب السياسية والإدارية، وإزاء هذا التطور السياسي والاجتماعي كان هناك تطور في المهام الاستخباراتية وتحسن نظامها اعتماداً على التطور في المؤسسات الإدارية وتعددها، فضلاً عن التطور الثقافي والحضاري وتضخم الثروات، فكان هذا يتطلب من الدولة الأموية إعداد خططها بناء على معرفتها بمواقف الشعوب المحيطة بها، لا سيما القريبة منها، مثل الفرس والروم وبقية أجناس الفرنجة وغيرهم ربما من الشعوب البعيدة التي ستضحى في مرمى توسعات الدولة الإسلامية تالياً.
هل كانت الاستخبارات في عهد الدولة الأموية ركناً حصينا في بناء الدولة الإسلامية؟
المؤكد أن الخلفاء الأمويين قد حذوا حذو النبي والخلفاء الراشدين من بعده في بث العيون والطلائع والجواسيس، قبل تحرك الجيوش، ليقوموا بجمع الأخبار واستطلاع أحوال الأعداء.
لقد اتسم العهد الأموي بطبيعة وظروف سياسية اختلفت عن العهد الذي سبقه، فقد ظهر عديد من الفرق المعارضة من أمثال حركات العلويين وحركات الخوارج التي انتشرت في هذا العصر، وهذا ما دفع الخلفاء الأمويين إلى العمل جاهدين على تطوير نظام التجسس والاستخبارات وإرسال من يرونه عيناً لهم إلى ولايات الدولة حتى يراقبوا أوضاع الناس وكل من تسول له نفسه القيام بحركات مضادة للحكم الأموي.
العمليات الاستخباراتية في الدولة العباسية
تعد الدولة العباسية أو دولة بني العباس، ثالث خلافة إسلامية في التاريخ، وثاني السلالات الحاكمة الإسلامية.
قدر للعباسيين إزاحة بني أمية من دربهم، وانفردوا بالخلافة عبر سلسلة من الثورات المسلحة التي انطلقت من خراسان، وقد قضوا على بني أمية، ولم ينج منهم إلا من لجأ إلى الأندلس مثل عبدالرحمن بن معاوية، الذي لقب بصقر قريش.
بدءاً من عام 750 ميلادية أسس العباسيون عصرهم الأول في مدينة الكوفة، بعد أن استمالوا إليهم الشيعة للمساعدة على زعزعة كيان الدولة الأموية.
ولأن الدولة العباسية بدورها قامت على أسس من الصراع الدموي، والخلافات السياسية المزعجة، عطفاً على التحالفات التي لا يمكن الوثوق إليها مرة وإلى الأبد، لهذا كان لا بد للعباسيين من جهاز استخبارات لا يقل قوة، إن لم يزد عما عرفه الأمويون في مجد دولتهم التي انحلت أوصالها، وتفككت أطرافها.
استخدم العباسيون في عصرهم الأول بنوع خاص جواسيس على هيئة تجار وموالٍ وعبيد وموظفين في الدولة مهمتهم جمع المعلومات والأخبار للحاكم.
في هذا الإطار، درج الخليفة المنصور (136- 158 هجرية) على أن يشتري الرقيق من الأعراب ثم يزودهم بالمال والزاد ويرسلهم مع بعض مواليه الخاصين جداً على هيئة مسافرين أو تجار، فيتجسسون على العلويين في بلاد الحجاز ومصر والشام، ثم يوافونه بما تم جمعه من معلومات استخباراتية عنهم.
لم يشذ الخلفاء العباسيون الذين جاءوا من بعد المنصور عن هذا السلوك الاستخباري، فنجد على سبيل المثال أن المهدي والهادي والرشيد، خلفاء بني العباس المشهورين، قد واصلوا نفس السياسة التي اتبعها المنصور في إرسال مثل هذه الهيئات على معارضيهم في أقاليم الدولة.
هل من تطور ما أدخله العباسيون في عصرهم الأول على أنظمة التجسس في خلافتهم؟
ربما التطور الذي يمكن أن نلمسه في المهارات الاستخباراتية في عهود خلفاء العصر العباسي الأول أنهم استخدموا الجواري في نظام التجسس، ولقد لعبن دوراً مهماً في التجسس ونقل المعلومات، وربما تعزى نكبة البرامكة إلى دور هذا الطابور الخامس في التجسس الداخلي، ما قادهم إلى مصيرهم المشؤوم المعروف تاريخياً.
وبالإجمال يمكن القول إن الخلفاء العباسيين قد استخدموا فكر التجسس وآلياته، اتقاء لأي نشاط محتمل لبقايا أنصار الأمويين، وفي مراحل تالية كان لا بد من تقصي أخبار الحركات التي نشطت في بغداد والأمصار، كالنزعات الشعبوية والهامشية وفرق المعارضة.
اعتمد العباسيون تاريخياً على نوعين من أعمال التجسس:
النوع العلني: وكان هذا يقوم به عمال البريد، بالضبط كما الحال في عهد الخلافة الأموية.
النوع السري: وهذا وظفوا له شخصيات بعينها قادرة على اختراق الدواخل السرية، من خلال العمال والحرفيين، فعلى سبيل المثال كانوا يكلفون امرأة تقوم بالحجامة في البيوت فتتسقط أخبار شخصيات أو بيوت بعينها، أو بائعاً متجولاً يكون عيناً في تجواله أو متسولاً يطوف في الأسواق وبين البيوت.
استخدم العباسيون منهج الشك في كل من حولهم، وبثوا العيون التي تبصر كل شأن من شؤون الرعية، حتى لا يتكرر معهم ما سبق وفعلوه بالأمويين.
ويعد الخليفة المنصور في واقع الأمر، المثال الواضح جداً على صعيد الشك واستخدام الجاسوسية.
لقد بلغ به الحس الأمني أنه لم يكن يترك لولاته الاستقرار والطمأنينة، حتى يبدلهم خشية نمو قوتهم وتمردهم، وقد أوصى ابنه المهدي بذلك حين قال له: “أسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ”، وقد اهتدى بالوصية، فاشتهر باستخدام الجواري اللاتي يهديهن لوزرائه وموظفيه الكبار لينقلن أخبارهم.
على نفس الطريق سار الرشيد على نهج جده المنصور، في موضوع التجسس والأمن، وكان من أشد الخلفاء بحثاً عن أسرار رعيته وأنداده في الحكم، وكان يتسقط أخبار الهادي، قبل أن يصبح هو خليفة، واستمر في ذلك من طريق عين ثقة.
لاحقاً سار المأمون على نهج الرشيد في تتبع أخبار القضاة والولاة، وقد ذكرت بعض المراجع أنه كانت للمأمون 1700 عجوز تجلب له الأخبار.
لاحقاً ومع الدولة الفاطمية والإخشيدية والطولونية، ومع الصراعات مع الفرنجة، لا سيما في عهد صلاح الدين، والمواجهات التي سبقتها مع التتار وغيرهم، تأسست أعمال الاستخبارات في قلب الدولة الإسلامية، قبل أن تصاب بحالة من حالات الوهن العسكري والحضاري من جراء المماليك، وجاء العثمانيون لينهوا فكرة استقلال الدولة العربية المعاصرة، ولن يقدر لأجهزة الاستخبارات العربية أن يشتد عودها من جديد إلا بعد استقلال الدول العربية بدءاً من النصف الثاني من القرن 20.
المصدر: اندبندنت عربية