“ربما نكون في المراحل التمهيدية لاعتناق أمريكا للقومية الاقتصادية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الغرب يخوض رحلة جامحة، حيث يتم استبدال البديهيات المرتبطة بسنوات ريغان – كلينتون (نهج السوق الحر) بمجموعة أولويات ترامب وبايدن. والنتيجة النهائية لن تكون أمريكا أقل ازدهاراً فحسب، بل وأيضاً عالماً أكثر انقساماً وأكثر فقرأ على المستوى الاقتصادي”.
بهذه الكلمات أنهى الكاتب البريطاني صامويل غريغ SAMUEL GREGG مقاله بعنوان “الحرب التجارية السرية التي يشنها بايدن سوف تشل بريطانيا”، وقد نُشر هذا المقال صحيفة التليغراف البريطانية في 1 سبتمبر 2023.
وأضاف صامويل: “تشمل أسباب هذا التحول الواسع نحو القومية الاقتصادية مخاوف تتعلق بالأمن القومي بشأن الصين، والقلق بشأن تغير المناخ، والرغبة في مساعدة الأمريكيين من الطبقة العاملة الذين يؤكد الشعبويون من اليسار واليمين أنهم كانوا الخاسرين الأساسيين من العولمة…ومن الواضح أن الثقة الأمريكية في قدرة الأسواق على تخصيص الموارد بكفاءة قد تلاشت”.
ويقول غريغ: إن هذا التوجهَ بالذات مدعوم من المشرعين الأمريكيين، الذين يقف بعضهم على طرفي نقيض من القضايا الاجتماعية، بينما يتوافقون تماماً على السياسات الاقتصادية، ومن ذلك على سبيل المثال الاعتقاد بأن “السماح للصين بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية يكلف الأمريكيين الوظائف”.
إذن العالم الخارجي يرى الولايات المتحدة اليوم مجتمعاً شديدَ الاستقطاب من الناحية الاجتماعية، بينما هناك إجماعٌ جديدٌ في ذلك البلد على ما يسمى “القومية الاقتصادية” . ويشير هذا المصطلحّ إلى تدخل الدولة في الاقتصاد وعدم تركه لآليات السوق الحر، تلك الإستراتيجية التي ابتدعها ميلتون فريدمان وسار عليها ريغان، وبوش الأب، وبيل كلينتون، وبوش الابن، وباراك أوباما، وهذا النهج بالذات من شأنه “أن يجعل أمريكا والعالم أكثر فقراً”، بحسب الكاتب.
بالعودة إلى عام 2016، أدرك أغلب الناس أن انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة سوف يتبع تحولاً عن الإجماع على مبدأ التجارة الحرة، الذي اعتنقه أسلافه الرؤساء: ريغان، وبوش الأب، وبيل كلينتون، وبوش الابن، وباراك أوباما. والغريب أن منافسه بايدن استمر على نفس النهج حيث يشير الكاتب إلى قانون بايدن لعام 2022 الخاص بالرقائق الإلكترونية، والذي قدم 280 مليار دولار لتعزيز البحث والتطوير، وبناء قوة عمل أقوى في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتعزيز قدرات أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
ويرى الكاتب أن إدارة بايدن تسعى بشكل متعمد، ودون ميل للاعتذار أو الشعور بالذنب، إلى تخصيص رأس المال والقوة العاملة على قطاعات الاقتصاد عبر الحكومة الفيدرالية، بدلاً من تركها للأسواق.
بالطبع من يقرأ في التاريخ يتذكر أن بريطانيا شنت حرباً اقتصادية ضد ألمانيا النازية في عام 1939، أفضت إلى الحرب العالمية الثانية تحت عنوان ما سماه الخبراء الاقتصاديين في ذلك الوقت سياسة الحماية ” protectionism ” التي تهدف إلى تحقيق ما يطلق عليه قواعد ( beggar-my-neighbor rules قواعد إفقار جارٍ) ، التي نراها اليوم تتكرر وتتجسد فيما أشار إليه الكاتب صامويل غريغ بالقومية الاقتصادية ليصبح بذلك أصدقاء الأمس أعداء اليوم .
مع اتفاق الجمهوريين والديمقراطيين على هذه الإستراتيجية التي يبدو أنها سوف تستمر لسنوات طوال، يبدو العالمُ على حافة كارثة اقتصادية، وجميع سكان الأرض سوف يدفعون الثمن للكميات الهائلة من الدولارات التي طبعت في السنوات الأخيرة، فقد تمت طباعة 80% من إجمالي الدولارات الأمريكية الموجودة في العالم اليوم في الفترة الزمنية : من يناير 2020 4 تريليون دولار إلى 20 تريليون دولار في أكتوبر 2021).
سياسة الإعفاءات الضريبية وإعانات الدعم السخية للمنتجات أمريكية الصنع، تعرض الحكومات في جميع أنحاء العالم، لضغوط باتجاه تقديم إعانات دعم مماثلة ومن بين هذه الدول بريطانيا. وهنا تصبح الحروب هي الوسيلة الوحيدة لتغطية تلك السرقات الخيالية؛ لأن المنطق الوحيد وراء تصرف من يطبعون العملات الورقية الزائفة، هو أنهم المنتصرون عسكرياً، وأنهم هم من يحق لهم ما لا يحق لغيرهم، وهنا تنطبق على هؤلاء سنة كونية ثابتة وهي: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (القصص-4). ونحن اليوم بلا شك نعيش زمن الآيات التسع «وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » «الأعراف: 130». وهنا تنطبق علينا جميعاً السنة التالية “فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ ۖ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (السجدة-14).
هذا التشخيص هو حقائقُ ثابتة تحتاج إلى مراحل عمل متتابعة: وعي -نشر الوعي – إرادة جماعية بالمقاومة – وأخيراً خطة عمل وعودة للقواعد التي ضاعت منذ فترات طويلة، فلم تعدِ الحلولُ ضمن المنظومة تجدي نفعاً، بل سوف تكون الحروب مقدمة لإنشاء منظومةٍ مختلفة تماماً أساسها التالي :
“أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت اللهَ ورسوله فلا طاعة لي عليكم”. وهنا نجد أن الهرمية الاجتماعية والسياسية والدينية تصبح بمثابة هرمٍ مقلوب، عندها لا يمكن لمن يكون في رأس الهرم أن يُفسد الهرم في حال انحرافه، بل يصبح المجتمعُ كلُّه بحاجة أن يفسد حتى تجد قيادات فاسدة، وهذا حالنا اليوم!