.مقدمه لا بد منها..
اولا.ان اي حديث جدي وعلمي عن العمل السياسي الحزبي في هذه المرحلة من الثورة ،والمستقبل يجب أن يبدأ من قراءة نقدية تقويمية .للعمل الحزبي السوري عبر القرن الماضي (إلا قليل)، فأي عمل مستقبلي يجب أن يستفيد من تجارب الماضي ، ويتجاوز الأخطاء والقصور ويبني على الصواب، ويتقدم لما يجب أن يكون.
ثانيا.إننا في هذه الدراسة المركزة والمختصرة نمر على الاساسي والمركزي في موضوعنا، ونعلم أن هناك دراسات تفصيلية وبحثية حول هذا الموضوع، وكتابتنا هنا هي استخلاصات لما نراه الصحيح والذي يجب الأخذ به.
ثالثا.أن المناخ الذي ولدت به التجربة الحزبية السورية بالمعنى الحديث ، كان نتيجة الاحتكاك المباشر مع الغرب في أوروبا، حيث تم اكتشاف التفاوت الكبير بين مجتمعاتنا العربية والغرب في المستوى الاجتماعي والاقتصادي والعلمي، وتبين لنا مقدار تخلفنا في كل شيء قياسا بهم، ولذلك بدأت حركة تنوير وتجديد شاملة تطال وعي كل مجالات الحياة ، فالبعض ركز على ضرورة غرس العلم كرافعة للتقدم ، وان نأخذ بالتجربة الغربية بكل خطواتها ، والبعض الاخر فكر باعادة المشروع الإسلامي، والبعض طرح فكرة التوفيق بين الاثنين.
رابعا. كان عند هؤلاء الرواد مشكلة عقلية ووجدانية ايضا، وهي ادراك واقع التناقض بين الغرب بصفته متقدما ومطروح كنموذج يجب ان يحتذى به، وبين واقع الغرب الرأسمالي الاستعماري في البلاد العربية كلها تقريبا، التي خضعت للاستعمار الغربي، وانعكس ذلك علينا بالتقسيم حسب سايكس وبيكو، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين وتشريد أهلنا هناك، وفتح جرح دامي مستمر للان، ووقوف الغرب مع الكيان الصهيوني كل الوقت، وولادة الانظمة الجديدة في الحقبة الاستعمارية وبعدها، التي ستصبح تابعة بالمطلق للغرب الاستعماري، المعادي بالمباشر للامة العربية وكل مصالحها عبر القرن الماضي، وما قبل، وللان.
خامسا.ان استجابة العرب والسوريون هنا منهم، (حيث سوريا إقليم وليد اتفاقية سايكس بيكو) ، كانت بالاستفادة من المتاح و التجربة الغربية بالتحزب ولو تحت حكم المستعمر، والتي لم تكن جديدة تماما علينا، فكان لدينا سابقا -دائما- مجموعات تحمل أفكارا معينة ترتبط غالبا بالدين الإسلامي وتتحرك لأهداف محددة ، سواء سياسي او مجتمعي أو خلاصي ، مثل الجماعات التابعة الى المذاهب الإسلامية المتنوعة، بدءا من أهل السنة بمذاهبهم المختلفة الى الطوائف الاخرى جميعها، الى المتصوفة ، ولكل موقعه بين ثائر على السلطان أو يسير في ركبه ، أو يأخذ بالتقية (يوافقه بالعلن ويخالفه بالسر) تحايلا عليه، وبكل الأحوال كان السلطان (الحكم) وخاصة في المرحلة العثمانية مهيمنا بالمطلق على مجال السياسة والحياة كاملة ، وكنا تقريبا في حالة ثبات سياسي ، أخرجنا منه الغرب لكنه للأسف بصفته مستعمرا.
سادسا.لم يكن الفضاء السياسي في بداية القرن وبعد سقوط الخلافة العثمانية منفصلا في سوريا عنة في بقية بلاد العرب، وكان التحزب السياسي الذي يحق له العمل هو من يتقبل وجود المستعمر ولو شكلا ليتمكن ان يطرح رؤياه بكيفية انتقالنا كعرب اولا ثم سوريا من التخلف للتقدم، فبعد دخول الفرنسيين واحتلال سوريا ولبنان لمدة تزيد عن الثلاثة عقود، وإظهارها لنفسها وأنها دولة ديمقراطية ترعى مصالح الدول التي تحتلها، وفسحت مجالا لوجود حركات حزبية متنوعة تحت مظلة وجودها، فظهر في الثلاثينيات الحزب الشيوعي السوري ، متمثلا الفكر الشيوعي ومتأثرا بالتجربة السوفييتيه، وظهر بالوقت نفسه تقريبا فرعا لجماعة الإخوان المسلمين التي نشأت في مصر اصلا ، وظهر الحزب القومي السوري الاجتماعي في سوريا ولبنان، وكذلك النموات الجنينية للفكرة القومية العربية، كحركة القوميين العرب وحركة البعث، وكذلك حزب الشعب واحزاب اخرى، كأحزاب ديمقراطيه ليبراليه على الطريقة الغربية ، كانت على ارتباط كامل مع الإدارة الاستعمارية في سوريا، وتمثل اغلب جهازه الإداري، ففي عصر المستعمر الفرنسي كان لسوريا مجلس نيابي ورؤساء جمهوريات، طبعا كلها كانت تحت هيمنة المستعمر وحضوره، المهم ان في هذه العقود من الاستعمار الفرنسي ظهرت إرهاصات الأحزاب السياسية، والأفكار الأساسية من إسلامية وقومية وليبرالية وشيوعية، والتي ستعبر عن نفسها بعد الاستقلال، ولتكون نواة لما سيحصل في سوريا وللان.
سابعا. في سوريا بعد الاستقلال سنتحدث وتحدثنا عن كل حالة حزبية على حدى ، ولكن ضمن المناخ العام، لأنه يصعب الفصل ، واصلا لا يتم الفهم دون ربط لكل حالة حزبية ضمن المناخ العام الداخلي والإقليمي والدولي ، فبعد خروج المستعمر الفرنسي كان لا بد للجهاز الإداري والحالات الحزبية التقليدية أن تستمر بحكم سوريا ، ضمن آلية ديمقراطية ، حسب التقليد السائد(الديمقراطيه الليبراليه) من أيام الفرنسيين، والتي لم تستطع الصمود أمام غليان المجتمع السوري ، حيث يحس اغلب الشعب السوري أن السياسة حكر على بعض الوجوة من زعامات المدن وإثرائها ، واقترن ذلك مع ما ينمو من أحزاب وحالات حزبية جذرية، ترى التغيير بالانقلاب على الحكم وتسييرها حسب وجهة هذا الحزب أو ذاك بحكم شمولي، على طريقة التجربة السوفيتية وحزبها الشيوعي، والحزب الفاشي والنازي في ألمانيا وايطاليا، وحتى الحزب القومي التركي، وإن تزيا بزي الديمقراطية ، ونتج عن ذلك ما حصل داخليا من حركات انقلابات عسكرية حاولت صناعة تجاه حكم، مع دور القوى الدولية والإقليمية في دعم وصناعة هذه الانقلابات، صحيح أنها لم تنجح لكنها أسست لواقع الحكم المستبد الشمولي القادم، لذلك لم تستطع الأحزاب التقليدية كالشعب وغيره أن تستمر في حكم سوريا ، خاصة بعد أن أصبح للمتغير الإقليمي والدولي دورا أساسيا في الحالة السياسية السورية . خروج بريطانيا من فلسطين، وتشكيل دولة الكيان الصهيوني، وحرب الإنقاذ في فلسطين التي شاركت فيها سوريا، وما نتج عنها من مرارة الهزيمة ، وضرورة التفكير والعمل بالحلول المجتمعية الجذرية، والانقلابات المتتالية للضباط الزعيم والحناوي والشيشكلي بعدها في سوريا، وبداية تشكيل حلف بغداد والعدوان الثلاثي على مصر ، جعل الحالة السياسية السورية مرتبطة بالكامل بالبعد الإقليمي والعربي والدولي ، وتوافقت النخبة السياسية على الوحدة مع مصر ، بحصول الوحده اصبحت الخريطة السياسية السورية مختلفة عن ما قبلها، حيث زالت الأحزاب التقليدية تقريبا ولو ان صحوة موتها كانت في الانفصال ، الذي لم يعمر كثيرا، وخرجت من السياسة السورية بالمطلق في حركة ثمانية آذار 1963.
ثامنا.مهم ان نقدم هنا مشروع الإجابة .عن لماذا لم تستمر التجربة الديمقراطية السورية الأولى بعد جلاء المستعمر .؟.
.بداية نرى أن التجربة الديمقراطية وشخوصها وأدواتها الاداريه كانت أغلبها من عهد المستعمر الفرنسي، وكانت أغلبها من طبقة الأثرياء من رأسماليين واقطاع، وتتحرك وفق مصالحها الضيقة، وبالتالي لم يكن الناس على تفاهم معها، واقترن ذلك بالمتغير الإقليمي المؤثر جدا على المنطقة كلها وهو تشكيل الكيان الصهيوني في فلسطين في 1948، وتشريد مئات آلاف الفلسطينيين ، وتداعي دول الجوار ومنهم سوريا المستقلة حديثا ، للرد على ذلك بحرب الإنقاذ، التي هزمت بها كل الدول العربية المشاركة بمواجهة (اسرائيل) الدولة الوليدة حديثا، وصنعت رد فعل شعبي قاسي اتجاه الحكومات والجيوش، وقويت حاجة الناس لحلول جذريه ، كانت تطرح كحل قومي عربي او سوري، او اممي ، شيوعي او اسلامي ، يضاف إلى ذلك تدخليه كبيرة جدا للدول الأوربية (المستعمرة سابقا) بالمباشر، سواء بانقلاب الزعيم الذي استثمر هزيمة النكبة 48 ، وما تلاه من انقلابات للحناوي والشيشكلي وعودة الحكم اخيرا للمدنيين في أواسط الخمسينات، كمرحلة مؤقتة، في أجواء تمر بصراع إقليمي بين عبد الناصر والغرب مع حلفائه من الانظمة التابعة ، ومحاولة صناعة موقف متحرر ومستقل عن الغرب وذلك عبر تأميم قناة السويس، ثم عبر الوحدة المصرية السورية ، التي ألغت الحزبية بسوريا بناء على اتفاق مع الطبقة السياسية السورية وعبد الناصر ، ضمن عمل وحدوي واعد واشتراكي بعد ذلك ، تحرك لحرق المراحل ، وتحقيق الحرية والتحرر من سيطرة الغرب والعدالة ايضا، لكن واقع الحال انتج بعدا عن الديمقراطية، التي وصمت مع المستعمر وخططه ضد الشعب العربي، وسقطت الوحدة وظهر الانفصال وكأنه عودة للخلف ولم ينجح ، وخطط البعث مع الناصريين واسقطوا الانفصال، ومن ثم استحوذ البعث على السلطة والبلاد والعباد في سوريا ، ضمن دولة شمولية استبدادية عصبوية طائفية ضد جميع أبناء الوطن، واستمرت في احتلال الوطن واستعباد الشعب نصف قرن ليتحرك الشعب منتصرا لحريته وكرامته و الدولة الديمقراطية العادلة،
وما زال الصراع مستمرا.
أما عن البعث وكيف هيمن على سوريا فذلك حديث آخر قادم.