١ – حينما دخلت القوات العسكرية السورية إلى لبنان سنة ١٩٧٦ وصارت صاحبة النفوذ الفعلي في كل مجالات الحياة اللبنانية وبتسهيل من قوى النفوذ الأجنبي المتغلغلة في لبنان؛ قامت بتصفية كل من كانت له علاقات بالنظام العراقي وحزب البعث العراقي تصفية جسدية مباشرة من خلال أدوات محلية لها. تم اغتيال معظم قيادات وكوادر البعث العراقي والباقون غادروا لبنان نهائيا ..ثم جرى تفجير السفارة العراقية الذي تسبب بوفاة زوجة الشاعر العربي السوري نزار قباني ؛ ..حيث كان الصراع بين ” البعثين ” في ذروته..
لم يسلم من تلك التصفيات إلا فئة قليلة من البعث العراقي ، لم يتعرض لها النفوذ السوري وأذرعه المحلية بسوء ؛ بل حظيت برعاية تامة من قبله وتسهيلات عملانية من كل نوع حتى باتت من أصحاب الحظوة لديه ..فما لبثت أن أتخذت لذاتها إسما محليا وراحت تعمل بكل حرية .. وما جعل تلك الفئة محمية ومحظية لدى أطراف النفوذ الرسمي السوري ؛ أنها كانت محمية ومحظية أساسا لدى قوى النفوذ الدولي الذي رعى الدخول السوري إلى لبنان آنذاك..
تلك الفئة صاحبة الحظوة لدى الطرفين ؛ شكلت فيما بعد ما سمي ” المؤتمر القومي العربي ” والذي ستناط إليه مهمة وظيفية تتعلق بماهية القومية العربية وكل ما يتعلق بها من نشاط ومواقف ومضامين..
٢ – كان الهدف الأساسي لتأسيس دولة الكيان الصهيوني ، منع العرب من التحرر والوحدة والتقدم..لأنهم إذا ما توحدوا فإنهم يشكلون خطرا جسيما جدا على كل المصالح الإستعمارية في العالم كله..كان مطلب القضاء على الدعوة القومية الوحدوية هدفا مركزيا للقوى الإستعمارية الغربية..تلك الدعوة التي نمت وصعدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستقطبت حولها النخبة الثقافية والفكرية والسياسية العربية..وتهيأت لإستقلال العرب عن الدولة العثمانية ؛ في دولة عربية واحدة..فشكلت رعبا للنفوذ الأجنبي وللنظام العالمي بأسره مما دفع قوى ذلك النظام الإستعماري للتآمر على الدعوة القومية والسعي لتخريب صفوفها وزرع الفتن بين أبنائها..تجلى ذلك في تزكية دعوات قومية غير عربية في مواجهتها..ثم مواجهتها باسم الإسلام لإيجاد شرخ بينها وبينه وهي التي يشكل الإسلام الحضارة والتراث والتاريخ المكون الأساسي في تكوينها وبنائها الفكري والثقافي والوجداني..ثم كان زرع متطفلين منافقين في صفوفها وفي أحزابها لتخريب بناها التنظيمية وزرع الفتنة بين أبنائها والداعين إليها..
حتى باءت هذه الاساليب بالفشل مع ظهور ثورة ٢٣ تموز في مصر وبروز قيادة جمال عبدالناصر للحركة الشعبية القومية العربية مما أعطاها مضمونها التحرري من كل نفوذ أجنبي ؛ والإجتماعي بالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص ثم بخوض عشرات المعارك لتحرير الأرض العربية والانسان العربي وبناء قاعدة اقتصادية وفكرية وأخلاقية تكاملت فشكلت لها مضمونها التحرري التقدمي الإنساني الوحدوي الرائع..الأمر الذي جعلها مصدرا لخطر كبير على كل التواجد الاستعماري والنفوذ الأجنبي في كل البلاد العربية والعالم الثالث برمته..
كل هذا وجه ضربة قاصمة للنفوذ الإستعماري ولجهوده في منع تحرر ووحدة الأمة العربية..وقد أعطت التجربة الناصرية تلك ؛ للحركة القومية الوحدوية زخما هائلا وجعلها حقيقة شعبية عربية راسخة وعميقة الجذور ؛ وفوق هذا أعطتها ذلك المضمون التحرري الإستقلالي التوحيدي الذي يرعب قوى النفوذ الإستعماري جميعا.. وحينما دفعت ببعض القوى القومية وشجعتها للتصادم مع التجربة الناصرية وقيادتها ؛ فإنها لم تفلح في وقف المد القومي شعبيا وثقافيا وسياسيا..الأمر الذي دفعها إلى إستنباط وسائل متجددة لمحاربة القومية العربية :
” إفراغ القومية العربية من مضمونها التحرري ”
بتسخيف مضامينها الحرة الشريفة وإلصاق تهم منفرة بها ما يجعل الناس تنفض عنها وتنفر من حركتها لاكتسابها صفات مزيفة غير حقيقتها ومضمونها الحر الذي جذب ملايين العرب في أول وحدة شعبية عربية بين المحيط والخليج العربيين..
فكانت ” حركة القوميين العرب ” ميدانا لأول تجربة في هذا المجال : تشويه مضامين الدعوة القومية ؛ تلك المضامين التحررية التي اكتسبتها بالتجربة الناصرية ؛ وإعطائها مضامين مختلفة لا تجمع الشارع العربي ولا تشكل محركا نضاليا لجماهيره..فكان أول إنحراف لحركة القوميين العرب بإتجاه تبني الماركسية والتخلي عن الوحدة والدعوة إليها وتبنيها..فانتهى بها الأمر إلى التفكك والتشرذم ثم التلاشي..وذلك بعد أن شكلت تلك الحركة مجالا إستقطابيا وتنظيميا لمئات بل آلاف الشباب العربي القومي المندفع في حركة نضالية دفاعا عن هويته وأمته..
٣ – وعلى الرغم من وفاة جمال عبدالناصر وانقطاع التجربة الناصرية بانحراف أنور السادات وإخراج مصر من دورها العربي الريادي ؛
برزت ظاهرتان هامتان طبعتا الحراك الشعبي العربي :
الأولى : بقيت الحركات الشعبية الناصرية لسنوات طويلة تشكل محركا أساسياً للنضالات الشعبية الوطنية والقومية في معظم البلاد العربية ؛ حتى أن المضمون الناصري للتجربة وما تضمن من مفاهيم تنموية ورعاية اجتماعية وصحية وبناء إقتصادي وركائز تعليمية وعلمية ؛ كان نموذجا ودافعا لكثير من أنظمة البلاد العربية التي كانت تعادي التجربة ؛ فأخذت بشيء مهم من قواعد بنائها الداخلي وإن بقيت تعاديها سياسيا وفكريا..
الثانية : وبعد انكفاء تلك التنظيمات شعبيا وسياسيا لأسباب كثيرة أغلبها موضوعي ؛ بقيت ظاهرة أخرى تمثلت باللجوء إلى جمال عبدالناصر في كل مظاهرة شعبية أو تحرك شعبي ذي طابع نضالي وطني أو قومي ، فترتفع صوره ويهتف الناس بإسمه ؛ تجلى ذلك في كثير من البلدان ولا سيما في أهم موقعين نضاليا : فلسطين ومصر..
كان ظن القوى الإستعمارية أنها تخلصت من جمال عبدالناصر ومن إرثه بما بذلته من جهود خارقة جبارة لتشويه صورته وتجريم تجربته ونشر آلاف الأكاذيب عنه وعن تجربته ؛ وبما دفعته من أموال طائلة وبما جندته من أدوات محلية وعالمية إعلامية وأمنية وتنظيمية وثقافية وفنية ؛ إلا أنها عادت فاكتشفت أنها لم تستطع إقتلاع جمال عبدالناصر من الوجدان العربي كبطل قومي ورمز تحرري وقائد تاريخي..فماذا عساها تفعل ؛ إضافة لكل ما سبق ومعه ؛ غير إفراغ تجربته من معانيها الجميلة واستبدالها بمضامين بشعة مكروهة منفرة..
فراحت تحاول ولا تزال في غرس هذه المعاني البشعة في الوجدان العربي بعد استئصال المعاني الجميلة منه..وهل أفعل من أن يتم هذا الإستبدال بأيدي بعض من ينسبون أنفسهم إلى تجربته ويرفعون شعاراتها ويتحدثون عنها ويلهجون بذكرها ؟؟
فلتكن قومية عربية..ولتكن ناصرية وليبقى ناصركم في الوجدان ..ولكن وفق أي معنى وأي مضمون ؟؟
فلترتبط إذن دعوتكم للقومية العربية بأسوأ معاني الإستبداد والظلم والتبعية والفساد .. كيف يمكن لهذا أن يتحقق ؟؟
٤ – كانت المرحلة التالية في حرب النفوذ الأجنبي وأدواته المحلية على القومية العربية ومضمونها التحرري التقدمي الوحدوي ، تخريب التنظيم الطليعي الذي تأسس أيام جمال عبدالناصر وبقي بعد وفاته سريا لغاية سنة ١٩٨٦ حينما انكشف أمره وكان يضم صفوة من القوميين العرب المخلصين الشرفاء من كل البلاد العربية و الذين كان من المؤمل لتجربتهم التنظيمية أن تبقى وتستمر رغم قهر الظروف وضغط وحصار شديد على كل عربي حر شريف ؛ لتشكل أملا بالمستقبل العربي وإطارا يجمع طاقات نضالية ويوظفها لتعميق الفكر القومي التحرري ويستقطب قيادات وكوادر شبابية متجددة..كان انكشاف هذا التنظيم من قبل أجهزة الدول الإقليمية والأجنبية صدمة للمؤمنين وفرصة للمعادين من أجل تحديث أساليب حربهم ضد الفكرة والتجربة معا وإعطائها زخما إضافيا جديدا بعد أن ظنوا أنه تم القضاء عليهما إلى غير رجعة ..
وقد تولى النظام الإقليمي الذي كان صاحب النفوذ والسلطة الفعلية في لبنان آنذاك ؛ عملية التسلل والتخريب والإفساد ما جعل البعض يضعف أمام إغراءات المال والوجاهة والدور الشخصاني على حساب الإنتماء التنظيمي الجماعي ، فأفشى كثيرا من الأسرار بعد أن استولى بشكل شخصي على ممتلكات وأموال التنظيم ثم راح يوظفها في مصالح شخصية وعائلية بعيدة كل البعد عن متطلبات العمل النضالي الحر..وبات أداة بيد أجهزة أمنية تستغله لغايات خبيثة..وحول كل اموال وممتلكات التنظيم الى ملكية شخصية وعائلية ..وكان القرار المؤسف والخاطىء من قيادة التنظيم من شرفاء ومخلصين بحل التنظيم الأمر الذي ترك فراغا في ساحة العمل القومي والدعوة القومية ؛ فكانت الفرصة السانحة التي جعلت عددا من المرتهنين لأجهزة رسمية إقليمية وعالمية يبادرون إلى تأسيس ما أسموه ” المؤتمر القومي العربي ” في بداية تسعينات القرن العشرين..
وقد انقسمت تجربة المؤتمر الى مرحلتين ..
الاولى : دامت عدة سنوات وكانت تستهدف استكشاف كل الطاقات الشبابية والنضالية المهتمة بالمسألة القومية والمنتمية للفكر القومي أو المتمسكة بالهوية العربية..ثم دعوتها للإنضمام إلى المؤتمر بكل وسائل التشجيع والإغراء حتى صارت المشاركة في عضوية المؤتمر ميزة للكثيرين وأمنية لمن لم يدع اليه بعد..وللحق فقد كان وجود الدكتور خير الدين حسيب كصاحب الكلمة الفصل في المؤتمر ؛ عامل جذب وتشجيع أساسي لكل منتم للفكر القومي..وكان لمركز دراسات الوحدة العربية الذي أسسه بجهود ذاتية مع بعض المخلصين ؛ دور اساسي في استقطاب طاقات فكرية وثقافية عربية يتمحور اهتمامها على الفكر الوحدوي والحث على تبنيه وبيان مميزاته الجاذبة والمفيدة..
في تلك السنوات الأولى من عمر المؤتمر القومي لم تظهر دلائل إنحرافية أو شعوبية على مساره العام رغم مشاركة بعض من يحملون القومية شعارا فيما يرتهنون لقوى شعوبية إقليمية أو يستظلون برعاية وتسهيلات أجهزة محلية ودولية..
في تلك المرحلة دارت حوارات وكتبت أبحاث مهمة ومفيدة لكنها لم تتحول إلى عمل ميداني توحيدي تكاملي يغير في واقع الأمور شيئا ما..فبقيت أبحاثا في أدراج المكاتب أو حوارات ضائعة في أروقة الفنادق الفخمة ..
الثانية : بدأت ملامحها حينما برز إلى السطح الدور التنظيمي والعملاني لمجموعة محلية لبنانية تحظى برعاية تامة من النظام السوري الذي كان صاحب النفوذ الفعلي الكامل على الساحة السياسية اللبنانية..وبدأت تتوضح منذ أواخر تسعينات القرن العشرين مهمات وخلفيات لقيادات في المؤتمر لا تنم عن انتماء قومي عربي بل تشي بتوجهات مصلحية نفعية وارتهانات لمشاريع إقليمية شعوبية..ولا سيما التوافق مع المشروع الإيراني وأطماعه في البلاد العربية..كل ذلك تحت رعاية السلطة السورية في لبنان وبتسهيل تام منها..وبدأ التململ في صفوف الكثيرين من أعضاء المؤتمر ومحاولات تصحيح الخط والعودة الى الخط القومي الحر المستقل ولكن دون جدوى..وفي غضون خمس سنوات كانت كل الشخصيات الحرة الشريفة قد انسحبت من المؤتمر غير آسفة عليه فيما أصبح ولاؤه للمشروع الإيراني جليا واضحا لا لبس فيه..في تلك الفترة وما تلاها كانت السلطة الفعلية في المؤتمر بيد السيد معن بشور الذي تربطه علاقات طيبة جدا بالسلطة السورية ويحظى برعايتها ..استغل بشور مرض د.حسيب وشيخوخته ثم وفاته لتعميق تفرده بالنفوذ بالمؤتمر شكلا ومضمونا حتى صارت عضويته حكرا على الدائرين في فلك النظام السوري والمؤيدين المبخرين للمشروع الإيراني المبررين لتدخلاته التحريضية في البلاد العربية..ومنذ الإحتلال الأمريكي – الإيراني المشترك للعراق سخر المؤتمر كل إمكانياته للتغطية على التعاون الإيراني مع أمريكا في نهب وتخريب وتدمير العراق..ثم كانت ثورة الشعب السوري محطة إضافية تكشف عمق الإرتباط المصلحي الفئوي لقيادة المؤتمر بالمشروع الإيراني وترجمته العملية بالتغطية على تدخلات إيران المذهبية التقسيمية في كل المشرق العربي وبتأييد تام لسلوك النظام السوري القمعي لحركة الشعب السوري المطالبة بالحرية والكرامة والمشاركة في صنع المصير الوطني ودولة القانون والمواطنة..
لم تكتف قيادة المؤتمر المرتهنة باستخدامه لتبرير وتغطية مشاريع إقليمية مذهبية شعوبية معادية للوحدة القومية والفكر القومي العربي ؛ بل راحت تتمادى في تغليف مواقفها بمضامين خطيرة سلبية شوفينية ظلامية من شأنها تفريغ الفكر القومي العربي من أي معنى إيجابي يجعله مطلوبا شعبيا ومقبولا جماهيريا..مضامين لو صح انتسابها للفكر القومي لوجب التخلي عنه بل محاربته لانه سيشكل خطرا على الوجود العربي والهوية العربية والدعوة الوحدوية..وكان هذا هو المطلوب تحديدا :
إفراغ الفكرة القومية من مضمونها الإيجابي الجميل واستبدالها بمضامين قهرية تسلطية إستبدادية لا إنسانية ولا أخلاقية ؛ من شأنها استئصال الفكر الوحدوي القومي من الوجدان العربي.. وهذا بالظبط ما تريده الجهات الإقليمية والدولية الراعية للمؤتمر ؛ وهو ما يؤديه ببراعة وإتقان..
فكانت زيارة المؤتمر وقيادته للعاصمة السورية ولقاؤها برئيس النظام السوري بشار الأسد ذات دلالات خطيرة تؤكد ما نقوله عن إنحراف المؤتمر عن أي إنتماء قومي وتحوله إلى إنتماءات مصلحية فئوية وشعوبية وإقليمية معادية..فهل يحتاج هذا إلى بيان وتفصيل ؟؟
منذ بلورتها خطابا سياسيا وثقافيا يدعو الى الوحدة العربية ؛ شكلت حركة القومية العربية تهديدا جديا للمصالح الاستعمارية في بلادنا.ثم إكتسبت مضمونها الإيجابي العميق بالتجربة الناصرية فزاد خطرها وتهديدها للوجود الاستعماري برمته..وكما كان الإسلام التوحيدي الجامع خطرا على تلك المصالح ؛ شكلت العروبة التوحيدية خطرا مماثلا..فالهدف الاستعماري القديم المتجدد يتمثل في وأد أية دعوة وحدوية ومنع أية وحدة أو حتى تقارب تضامني تكاملي بين العرب انفسهم..
وكما فعلت قوى النفوذ الأجنبي برعاية حركات حزبية سياسية ” إسلامية ” لتعطيها مضمونا اسلاميا في الشكل تقسيميا في المضمون..وتطور الأمر إلى أنها صنعت بأجهزتها المباشرة ميليشيات وتنظيمات عسكرية مسلحة ترفع شعار الاسلام وتلتزم كل ما يناقض قيمه فكانت إرهابية ظلامية وباتت تلعب دورها المطلوب بتفريغ الاسلام من مضمونه الأخلاقي الانساني الجميل وإلصاق صفات التطرف والإرهاب بالإسلام ذاته حتى بات شعار محاربة الإرهاب مساويا لمحاربة الاسلام..وهذا بالضبط ما تفعله قوى النفوذ الأجنبي والإقليمي والمحلي بالحركة القومية العربية..مستخدمة امكانياتها الهائلة وامتيازاتها المالية والاعلامية والسياسية لإلصاق مثل تلك التهم بالفكر القومي ذاته وليس بالأشخاص المعنيين أيا تكن شعاراتهم..
هذه داعش مثلا تدعي الاسلام وهي صنيعة الأجهزة المعادية له..وهذا هو المؤتمر القومي العربي الذي يرفع شعار الفكر القومي ويتخذ من المواقف السياسية ما يبين حقيقة ارتباطات له مصلحية ونفعية بعيدة عن اي مضمون إيجابي تحرري مستقل..
وما تبني المؤتمر للمشروع الإيراني المذهبي الشعوبي الحاقد على وجودنا القومي من أساسه ؛ إلا خير دلالة على انحراف المؤتمر عن أي إنتماء قومي عربي حر أصيل..فكيف يتفق في عقل المؤتمر وفكره إنتماء عربي قومي وتأييد مشروع قومي فارسي يعادي الوجود العربي برمته..والطريف في الأمر أن أرباب المشروع الفارسي لا يخفون حقيقة مواقفهم فيصرحون مرارا أن العراق والمشرق العربي ليسا إلا جزءا من الامبراطورية الفارسية وهم يحررونها ويستردون سيطرتهم عليها..
ورغم كل كلامهم عن المقاومة فإنهم يعطونها مضمونا شعوبيا تقسيميا مذهبيا فلا يعترفون لأية أرض عربية ولا حتى لفلسطين ذاتها بهويتها العربية بل لا ينطقون حتى بكلمة عربي ولو مرة واحدة..
يكفي ارتهان المؤتمر القومي العربي للمشروع الإيراني للدلالة على تخليه التام عن أية مضامين عربية قومية توحيدية انسانية..
وما زيارة المؤتمر الأخيرة لدمشق ولقاء الرئيس السوري والإشادة به وتأييد سياساته ؛ إلا ترجمة عملية لإرتهانه للمشروع الإيراني الذي يمتلك إمكانيات مالية سخية يطال سخاؤها أعضاء المؤتمر ورئيسه الحالي ومن سبقه فيه..
وما تأييد النظام السوري بعد كل هذه السنين المملوءة حقدا ودموية وإجراما وقهرا بحق شعب سورية العربي ؛ إلا إمعان في طعن القومية العربية بتفريغها من أي معنى إنساني إيجابي ؛ عن سابق تصور ومعرفة وتصميم..فالمؤتمر وجميع أعضائه يعرفون ما جري ويجري في سورية من تدمير وتهجير وقهر وتعسف وإعتقال وتعذيب لشعب سورية وشبابها وأهلها بيد أجهزته الأمنية وآلته العسكرية وبأوامر من رئيسه ؛ ثم يباركون له ما يفعل ويسمعونه متحدثا في العروبة وقوميتها ..أليس هذا إستغراق في العداء لكل ما هو قومي عربي تحرري ؟؟
حينما حدث إنفصال سورية عن الوحدة مع مصر رفض جمال عبدالناصر استخدام القوة لمنع الإنفصال حتى لا يراق دم عربي بأيد عربية رغم أن الشعب السوري كان ضد الإنفصال وليس معه..وها هو الرئيس ” القومي العربي ” يقدم الشعب السوري برمته ضحية ذبحا وتهجيرا وتجويعا وتركيعا ليحتفظ هو بكرسي الحكم على أنقاض شعب وأرض ودولة ووطن..
حينما قامت مظاهرات الشباب سنة ١٩٦٨ احتجاجا على وضع البلاد لم يعتقل أحد بل استقبلهم وحاورهم جمال عبدالناصر ثم صاغ خلاصات حواره معهم في بيان ٣٠ مارس ثم أوكل إليهم مناصب تنفيذية عليا لتطبيق ما طلبوه واتفقوا عليه..
وهكذا هو الالتزام القومي العربي : فالدولة والسلطة في خدمة الشعب لتلبية احتياجاته والدفاع عنه..وما التضحية بالشعب وذبحه إلا إختراع غير مسبوق حققه نظام يحكم سورية وينسب ذاته الى القومية العربية زورا وتزويرا..
تكفي سيرة الإعتقالات الإجرامية والقتل المتعمد والتعذيب الوحشي لمئات آلاف المعتقلين من أبناء سورية ؛ لتخرج نظامها من أي إنتماء إنساني ومن أية أعتبارات أخلاقية إنسانية ؛ فكيف به يحدث عن إنتماء قومي وعروبة ومقاومة ومؤامرات ؟؟ وهل أكبر من مؤامرة النظام على شعب سورية وعلى أرض سورية وبيعها رخيصة لقوى الإحتلالات الأجنبية جميعا اميركية وصهيونية وتركية وروسية وإيرانية ؟!!
ثم يأتي المؤتمر المذكور فيشيد ويفتخر بالإنتصار والشعب السوري يعيش أسوأ ظروف حياته وتحديات مصيره ووجوده فيما سورية على أبواب تقسيم إستعماري وتقاسم بين أعدائها التاريخيين ؟؟
أليست تلك شهادة زور تنبىء بوظيفة نفاقية مطلوبة لإضفاء صفات مزيفة على من ينتهكون هوية سورية وإنتماءها كل يوم وساعة !..
هل يحتاج السيد حمدين صباحي إلى مزيد من التاريخ ليعرف ماذا يقول أم أنها أموال وظيفية تغدق وتوجيهات نظامية تأمر ؛ فلا يجد نفسه إلا خادماً أمينا لهذا النظام أو ذاك ؟؟ ألا تعلم سيد حمدين ماذا حل بالعراق على أيدي أصحابك المستجدين ملالي طهران وفارس ؟؟ انه العراق يا سيد العراق الذي تنعمت بأمواله سنين طويلة يوم أن كنت تنافح عن دولته وتضرب بسيف أموالها وهيبتها ؟؟
فإذا كان العمل السياسي والوجاهات الشخصانية تحتاج إلى أموال ؛ فإن القومية العربية تحتاج إلى رجال أحرار شرفاء..فلا يظنن أحد منكم أنكم تستطيعون إخفاء حقيقتها التحررية الشريفة وإلصاقها بالقهر والفساد والإجرام والتبعية..إستشهد جمال عبدالناصر مستميتا للتمسك بحرية قراره واستقلالية إرادته ونهجه عن أي إرتهان أجنبي ؛ وها أنتم اليوم تبيعون مواقفكم لمن ترهنون أنفسكم لرعاياتهم المالية والأمنية..إننا ندرك حجم الضغوط التي مورست على كثيرين منكم ليلتحقوا بقطار ” القومية الشوفينية ” حتى يسهل توظيفها وتوظيفكم للإبقاء على الشكل القومي مفرغا من أي مضمون إيجابي بل تحميله المعاني الكريهة المقيتة من مثل ما تقولون وتفعلون ؟؟!!!
فلم يعد يشفع لأي منكم كل تاريخه وما كان فيه فقد أصبحتم شهود زور في أخطر قضية مصيرية تخص المستقبل العربي..
ألا يكفي مصر تخليها عن دورها العربي الذي يحميها ويحمي العرب ؛ ليأتي أفراد يستظلون سلطتها ليزيدوا في شرخها عن مثل هذا الإنتماء ؟؟
وهل أردتم مواكبة تطبيع أنظمتكم مع نظام دمشق لتواكبوه معها بناء على رغبتها وتوجيهاتها ؟؟
سوف يستغل أعداء الأمة جميعاً من داخلها وخارجها مواقفكم الوظيفية المخزية هذه ليفعلوا وتيرة هجومهم على القومية العربية وتسخيفهم لها وتصويرها غطاء لكل استبداد وقهر وتبعية فيما هي عكس ذلك تماما..
لقد أديتم دوركم بشجاعة فاعلموا أنكم أجبن من الإعتراف بما تمثلون وبأية توجيهات تعملون..
ستبقى قوميتنا العربية حرة مستقلة توحيدية تحررية إنسانية بتكافؤ أساليبها شرفا مع غاياتها كما قال وإلتزم رمزها جمال عبدالناصر..فلا تظنوا أنكم تخدعون أحدا فما تخدعون إلا أنفسكم أيها الفقراء وإن أغدقت عليكم أموال كسرى وقيصر معا.
506 11 دقائق