عن دار جداول اللبنانية صدرت رواية لا تذرني فرداً التي تتحدث عن حياة الأديبة الرائدة مي زيادة. للكاتبة المتميزة المواظبة على ابداعها منهل السراج التي قرأت معظم إنتاجها الروائي وكتبت عنه.
مي زيادة التي ولدت في الناصرة الفلسطينية عام ١٨٨٦م يعني ما قبل حوالي قرن ونصف من الآن. والدها المعلم والكاتب وامها الشاعرة اللذين ينتميان الى مذهبين مسيحيين مختلفين، يتحديان بزواجهما محرمات دينية، ومن أصول حورانية سورية ويعود والدها بأصوله للغساسنة.
عاش الياس والد مي ونزهة والدتها حياة حب وهناء وأمنيات كثيرة أرادوا تحقيقها باولادهم ماري التي لقبت نفسها بعد حين مي، وأخاها الياس الصغير الذي توفي مبكرا.
وضع الياس والد مي كل جهوده في زرع الفرادة والتحدي والتعلم وملاحقة الامنيات داخل ابنته مي. تعلمت القراءة والكتابة منذ سنتها الثالثة، حاولوا تعليمها الموسيقى على القيثارة والبيانو، ومن ثم العود. تبناها خالها بولص الذي رفض الزواج ، أصبحت مي تحت رعاية عائلية كبيرة. أتقنت أربع لغات في سن مبكرة تابعت دراستها في مدرسة اليوسفيات في الناصرة.
انتقلت مي في سن الثانية عشرة من الناصرة الى دير راهبات عينطورة في لبنان لتتابع تعلمها. في لبنان يسكن عمها وولديه نعوم وجوزيف. كانت قد دخلت مي طور المراهقة و البحث عن حبيب تعيش أحلامها وآمالها من خلاله. أحبت ابن عمها جوزيف وهو لم يبادلها الحب. واحبها ابن عمها نعوم وهي لم تستطع أن تستجيب لحبه. ضاعت مشاعرها سدى…
استعاضت مي عن غياب العواطف بأن تكون رفيقا دائما للكتاب والقلم والدفتر. تتعايش مع الحياة والكون والطبيعة والانسانية، تكتب كل ما يجول في خاطرها…
خطبها ابن عمها نعوم، استجابت لهذه الخطبة لأنه لا بد للمرأة من الزواج والأسرة والإنجاب وكان هذا مطلب والدها ووالدتها. حصلت الخطبة واكتشفت بعد ذلك أن الرسائل العاطفية المكتوبة لها من خطيبها نعوم كتبها له أخوه جوزيف. احزنها ذلك وانهت الخطبة …
في عام ١٩٠٧ م انتقلت عائلة مي الى القاهرة عاصمة مصر. التي كانت تمور فيها حركة فكرية ومعرفية نهضوية كبيرة. كان طه حسين وعباس محمود العقاد وقاسم أمين والافغاني واليازجي وغيرهم كثيرين ينيرون سماء مصر والعروبة بعطائهم المعرفي على كل المستويات. وصلت مي الى القاهرة نجمة تنير سماءها أيضا كانت قد نضجت وكبرت واصبح لها صوت في الشعر والمقالة وأصبحت تنشر في الصحف المصرية ويذيع صيتها. والدها افتتح جريدة المحروسة وكتب بها.
افتتحت في منزل اهلها صالونا أدبيا في يوم الثلاثاء من كل اسبوع واصبح المكان الذي يلتقي به مبدعي مصر لتبادل المعرفة ولسماع مي والتقرب منها. معرفيا وانسانيا. هي فتاة أحلام الكل. المشتهى المستحيل الوصول اليه. طه حسين يتذوق صوتها العزب. وعباس العقاد يكتب رواية سارة ويهديها إليها. ليقول لها إن في النفس البشرية سارة النقية وهند الغرائزية وان كل انسان تتنازعه هذه المكونات .. وكأنه يسألها ضمنا من انتصر من قواك النفسية على الآخر ؟…
كانت تدرك شبابها وجمالها وفتنتها، وتفوقها المعرفي وتعرف كيف تعزف على أوتار ذلك وتبقى قريبة من الجميع. كلهم يتوقون لقربها…
كان لها في نيويورك رجل أحلامها انه جبران خليل جبران الذي تبادلت معه الرسائل على مدى عقدين من الزمان حيث وافته المنية هناك ولم يلتقيان مطلقا. كان حبها المعاش الذي لم تستطع أن تبوح به له. تمنت لو يبادلها الحب وتمنت لو تزوجته وأنجبت منه وعاشت معه. لكنه بقي مقتصرا على رسائل الود والدعم النفسي والفكري لعشرين عام. هي يئست من حب مستحيل وهو غادر العالم بالموت، كان أحد مرتكزاتها النفسية الذي تزعزع استقرارها بموته…
بدأت حياة مي تصبح كئيبة عندما أدركت مرض والدها الذي اخفته امها عنها لكنها علمت به. حاولت أن تستمر بحياتها العادية سافرت إلى روما. التقت ببابا الفاتيكان هناك. اهداها وساما. عادت لمصر وليموت والدها. وتصاب بنكبة زادتها وفاة جبران خليل جبران. وتتوج بوفاة والدتها…
احست مي بوفاة احبابها هؤلاء ان الدنيا قد أدارت ظهرها لها. انكفأت على نفسها، وعاشت مع عوالمها النفسية الداخلية. اصوات تلاحقها. وحرب في ذاتها تطالبها بالانتحار. وكأن حياة لا يوجد فيها احبابها لا تستحق أن تُعاش…
بدأت تعيش داخل عوالمها النفسية المتصارعة. انقطعت عن العالم الخارجي . حتى فاطمة الشغالة والسفرجي في بيتها لم تعد تتواصل معهم. ثم طردتهم في لحظة غضب ذاتي.
اصبحت اقرب الى انسان ضائع في متاهة ذاتية. اصوات تطالبها بـ الانتحار وإنهاء عذابها والإسراع للقاء أحبابها في العالم الآخر. لم تتجاسر على ذلك. وعندما وصلت الى لحظة اليأس من نفسها وامكانية استردادها مرة أخرى.
فكرت مي أن حبل ترابطها مع الحياة ومع العقل وعدم الضياع هو حبها الذي لم يتحقق مع جوزيف ابن عمها. بعثت له رسالة تستنجد به. جاءها وكأنه خشبة خلاصها. لكنه كان يفكر بسرقتها و باستثمارها في كل شيء. ابنة عمه الوحيدة وريثة أملاك والدها ووالدتها الثرية، احتضنها اوهمها انه يساعدها. لكنه دفعها للتوقيع على أوراق تؤدي لسرقة كل ما في حوزتها. وفوق ذلك أودعها مشفى المجانين (العصفورية) لكي لا يترك لها فرصة استرداد شيء مما نهبه منها. اودعها مشفى المجانين في مصر وغادر الى لبنان وكأن شيئا لم يكن. ..
كانت مشفى المجانين بالنسبة لمي امتحان آخر، نعم كانت تحارب شياطينها داخل نفسها. والان تحارب اتهامها بالجنون وهي العاقلة المدركة لكل ما حولها. واجهت حياة المشفى بالتحدي. ورفض الطعام والإضراب عنه. ورفض الأوامر. الإدارة اعتمدت مزيد من الشدة عليها. ادوية مهدئة قاسية وغرف سيئة وربط بالسرير احيانا… لقد كادوا أن يصيبوها بالجنون الحقيقي من شدة ضغطهم عليها وكأنهم يعالجوها. التقى بها بعض ملائكة رحمة هناك لكن المحصلة من تجربة مشفى المجانين على مي كان الجحيم. .
نعم الله لا يتخلى عن عباده الطيبين وهكذا جاء امين الصديق القديم لينقذ مي من سجنها في المشفى ويخرجها منها ويحارب لاسترداد حقوقها المنهوبة ويعيد لها الثقة بأن في البشر نبتة خير. ساعدها حتى خرجت من المشفى، رافقها إلى لبنان للنقاهة، وعادت للقاهرة الى بيت صغير تبقى من أملاكها الطائلة، هذا ما تبقى لها، عاشت به وحيدة. خاصة بعد موت امين أيضا.
صار عمر مي بالخمسين واحست ان مجدها وماضيها المتألق قد رحل. وبقي لها طعم اليأس والكهولة. والندم على عدم الزواج. وحتى انها مازالت محافظة على طهارتها. ولم تتذوق الحب والجنس وتشرب من ماء الخلود…
عاشت مي ايامها الاخيرة وهي يائسة من حياة لا عطاء ولا مجد ولا انتاج بها. رغم أن كثير من المفكرين حاولوا رد اعتبارها. عدد من مجلة المقتطف في وقت احتجازها للكثيرين تضامنا معها لكنها لم تغفر لهم تركها ضحية الوحدة ومشفى المجانين كل ذلك الوقت…
طه حسين هاتفها لم تستجب له. وغيره وغيره…
اعتزلت في بيتها امتنعت عن الطعام، بدأت الحياة تغادر جسدها اولا باول. لم يبقى لها صلة مع العالم إلا عبر البقال والبواب…
وجدت ميتة في بيتها بعد ايام من عدم تواصلها مع البواب والبقال…
ماتت مي زيادة نجمة زمانها وازمان قادمة….
كتب العقاد في رثائها: كل هذا صار من التراب.
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
ندين كقرّاء ومتابعين لكتّاب السير الذاتية وسير الآخرين. بتحويل هذه الحياة الفانية إلى التخليد عبر التوثيق….
كانت مي زيادة في زمانها مالئة الدنيا وشاغلة الناس. أما الآن فلا يعرفها ويتذكر ماعاشته الا المهتمين من المثقفين. وهكذا تكون رواية منهل السراج بقعة ضوء تسلط على حياة مي زيادة وتعيد احيائها بعد قرن ونصف من الزمان…
انه بعض وفاء وامتنان وعرفان وافتخار…
الرواية تبتعد عن الخوض في الجانب العام المعاش زمن مي زيادة. حيث فلسطين وبلاد الشام حتى عشرينات القرن الماضي تحت السلطة العثمانية. وبعد ذلك أصبحت تحت الاحتلال الانكليزي و الفرنسي. أما مصر فهي في كل الوقت تحت سلطة أسرة محمد علي ملوك مصر
كذلك غياب الجانب المجتمعي الحياتي للجانب الآخر من المجتمع زمن مي زيادة، لأغلب أهل لبنان وسوريا ومصر، الفقراء المدقعين وماذا عن الجهل والتخلف ؟. رغم أنها اقتربت منه قليلا عبر فاطمة الشغالة والسفرجي…
لعل سبب ذلك هو تركيز منهل السراج على الجانب المهم من حياة مي زيادة في هذا الفضاء العام…
بكل الأحوال نحن أمام رواية مهمة تغطي حياة رائدة نسوية ومبدعة وشاعرة وكاتبة مهمة كبيرة في عالمنا العربي في مطلع عصر النهضة العربية: انها مي زيادة…
شكرا منهل السراج…