قراءة في رواية: يسمعون حسيسها

أحمد العربي

هذه الرواية الثانية التي نقرأها للروائي الأردني ايمن العتوم، وهي رواية على شكل شهادة ذاتية مسرودة من أحد معتقلي سجن تدمر السوري، في الثمانينات من القرن الماضي مهداة للشعب السوري وثورته.

يسمعون حسيسها، رواية اقرب الى شهاده تاريخيه إنسانية تسجيلية عمّا حصل في المعتقلات السورية في الثمانينات، وما حصل في سجن تدمر حتى مطلع الألفية الجديدة، أنها تؤرخ للجانب المظلم والمغيّب والغير معروف، والممنوع أن يُعرف عمّا حصل في ذلك الوقت وفي تلك الأمكنة؛ المعتقلات السورية سيئة الذكر، وسجن تدمر وصمة العار في تاريخ النظام السوري الاستبدادي الوحشي الدموي.
تبدأ الرواية دون مقدمات ومن غير أن تمر على أحداث الصراع المسلح بين النظام السوري و جماعة الطليعة الإسلامية ومن ثم مع حركة الإخوان المسلمين في سوريا في ثمانينات القرن الماضي. تسكت عن هذا الجانب وتتركه للبحث السياسي والاجتماعي والتاريخي، من أخطأ ومن أصاب ..؟!! .
د اياد في المشفى يحسّ ان في الأجواء ما يريب، بعض اصدقائه ومعارفه ملاحق او معتقل، فكر أن يتوارى او يهرب، نظر حوله في المشفى فوجد انه محاصر بقوات عسكرية وآليات وان لا منفذ له، مع ذلك حاول الهرب لكنهم اطلقوا عليه النار واصيب في ساقه وقبض عليه، أخذ الى المعتقل في دمشق الممتلئه بفروع الأمن. في فرع الخطيب وُضع، ومنذ مجيئه وهو تحت تحقيق مستمر، عن انتسابه الى جماعة الطليعة الإسلامية، و من معه، وعن الأسلحة واين يخفيها. اياد يتصرف على انه لا يعرف شيئا، يعرف أن اي اعتراف يعني مزيد من التعذيب، ومزيد من المعلومات ولا يعرف الى ما تصل اليه الامور. في المعتقل ومنذ اللحظة الأولى سيتم الغاء صفة الإنسانية عن المعتقل. ويستباح من أفراد الأمن ومن عناصر التحقيق، والمحققين أنفسهم، الضرب والتعذيب بكل انواعه، الاساءة اللفظية. يتحول المعتقل لمجرد أداة تستخدم للوصول للمعلومة التي يبحث عنها الأمن. المعتقل يدخل في جو نفسي رهيب وفي تعذيب لم يكن يتصور ولم يصدق انه يمكن أن يُعاش. لكل معتقل قضية ما و إحساسه بكرامته وإنسانيته هو بأن لا يفشي بما لديه، لانه يعلم انه بمقدار صبره وتحمله سيستمر محترما لذاته، ومحافظا على حياته. لأن المعتقل عندما يقدم ما لديه من معلومات يصبح زائدا عن الحاجة، قد يقتل، وقد يستخدم اداة ارهاب امام الاخرين الصامدين، قد يشبح ويضرب ويوضع بالدولاب، قد يقتل امام المحقَقْ معهم لمجرد أن يقدم العبرة للآخرين ويدفع المعتقل للانهيار، ليقدم ما لديه من معلومات. يصبر اياد في المعتقل، ويقرر أنه لن يقدّم أي شيء. سيعذب في جسده في الدولاب والكهرباء والشبح وبمشاهدة الآخرين يعذبوا. سيلتقي ببعض من يعرفهم. سيطول اعتقاله إلى سنتين، في كل لحظة قد يأخذونه للتحقيق و يبدؤون معه من الصفر. يمر عليه الكثيرين من المعتقلين، البعض يقتل تحت التعذيب والبعض يصمد، والبعض يسقط عبر لعبة المخبرين. لقد مر عليه الكثير من التعذيب والالم، كان يضع نفسه دائما في جو الصبر يؤدي للفرج، والاعتراف يؤدي لخسارة الاعتبار النفسي وخسارة الروح ايضا. يصبر وعندما يعذب يعود بذهنه لاهله؛ والده القروي الذي تعب كثيرا ليصنع منه طبيبا، وامه الطيبة واخاه المهندس، زوجته التي يحب، ابنته الصغيرة بعامها الأول. كالنور يراهم حماية وضمانة ان لا ينهار ويستسلم ويقدم ما عنده، فيخسر اعتباره لنفسه وقد يخسر حياته. تمر عليه سنتان من التعذيب في فرع الخطيب ولا يقدم شيئا. يعتقد انهم صدقوا انه لا يمتلك أي معلومة ليقدمها لهم. يحوّل اياد ومعه غيره الى مكان مجهول، اعتقد في البداية انه افرج عنه، لأنه لم يعترف لهم على شيء وبالتالي فهو بريئ، لكنهم وبعد سفر طويل و الدخول في أجواء صحراوية في واسطة نقل وهم مطمّشين على أعينهم ومقيدين. ( الطماشه عصابه على العيون تمنع المعتقل من الرؤيه. وتستعمل بالمعتقلات في التحقيق والتنقل، وفي التحقيق يجب ان لا ترى المحقق خصمك، ويجب أن تبقى دوما في العماء، فهي أهم قواعد انتهاك انسانيتك و دفعك للانهيار). وصلوا أخيرا الى سجن تدمر الشهير، استقبلوا به بأسوأ أنواع السلوك اللا انساني والتعذيب. ليعيشوا جحيما امتد بالنسبة له لسبعة عشر عاما. في سجن تدمر كل قادم هو مشروع مقتول بتفويض من السلطة، كل قادم مستباح في كل لحظة، لسان حال النظام يقول يجب أن يعيشوا العذاب كل الوقت. في سجن تدمر السجناء هنا يعذبوا ليس لتقديم معلومات، لا بل انتقاما منهم، لانهم قاموا ضد النظام يوما، فمنذ اللحظة الأولى يُستقبلون بالعصي والكرابيج والأدوات المعدنية ويضربوا، ولا مشكلة إن مات البعض، الاساءة اللفظية في الأعراض والكرامات حاضرة دوما، يوضعون في مهاجع لا تستوعبهم، نومهم واستيقاظهم جحيم، لا أحاديث ابدا وان حصل فهمس، لكل مهجع فوهة او اكثر يطل عليهم الحرس كل الوقت، أي حركة تعني أن هناك سجين معلّم (المعلّم الذي سيعذب كل وقت ولوقت مفتوح وقد يموت من التعذيب) الاكل قليل دائما، ملوث بالحشرات، ويطلب من البلديات (وهم سجناء جنائيين يقومون بأعمال السخرة، وهم أصحاب حظوة وسلطة ومكتسبات في السجن). يطلب من البلديات التبويل أو طرح فضلاتهم في الطعام و أغلب السجناء لا يعلم، السجناء الشجعان الذين يدخلون الطعام الى المهاجع  يتلقون عذابا شديدا من السجانين، ومع ذلك الطعام غير كافي وهناك جوع مستديم، المهاجع تحوي بين مئة وخمسين ومائتين من السجناء، وهي دائما مزدحمة، وامكانية النوم شبه مستحيلة، لكل مهجع رئيس ومعاونين غالبا يُختارون من السجناء. يُنظم الدور للدخول للمرحاض الذي لا يمتلك أي شرط صحي اصلا، يخرج السجناء للتنفس بأوقات متباعدة، والذي يعني عمليا حفلة تعذيب يعود بعدها السجناء لتضميد جراحهم وكسورهم لأيام. السجناء هناك محكومون بالموت دوما، ففي كل أسبوع يخصص يومي السبت والاربعاء للاعدامات الصباحية، هذا غير الذين يموتون تحت التعذيب الذي يكون للتسلية في أغلب الأحيان. كل يوم يخترع آلية جديدة للتعذيب، تارة عبر منع الأكل لدرجة الموت جوعا، وتارة بافاضة المجارير لدرجة العيش في مهجع ممتلئ بالبراز، والتعذيب لاي سبب تافه ديدن يومي، تسلطت عليهم الأمراض السل والكوليرا والجرب هاجمتهم وحصدت الكثير من الأرواح. ولولا الخوف من انتشارها بين السجّانين لما ووجهت. السجناء أنفسهم أصيب بعضهم بالجنون وانفصام الشخصية. والبعض كفر وحمل الله مسؤولية ما يحصل معهم؛ ولماذا لا يتدخل وينقذهم.؟. أحدهم جنّ وادعى أنه نبيّ وقتله السجانين مع غيره في حفلة تعذيب، والبعض انتحر، البعض دخل في دهاليز نفسه ولم يعد. اعتمد السجناء على تكتلهم وتماسكهم النفسي ليحموا وجودهم المستهدف في كل لحظة، فمن لم يعذب ولم يمت للآن فإن العذاب والموت أخطأه حتى هذه اللحظة. سيعرف اياد ان اخاه احمد معتقل و سيحزن عليه وعلى أهله وفجيعة والديه. ومع مرور الأيام يتجرع مرارة إعدام أخيه في احدى الصباحات. ادارة السجن تستثمر السجناء واهلهم بالابتزاز المادي، وسرقة ما يبعث لهم من اهليهم على قلته وندرته، رئيس السجن الأول سيثري ويُراقب ويُحسد ممن حوله ويُحاسب ويُسرّح ويموت في حادث سير للعبره، الآخر يغير اسلوبه لكنه يستمر باستغلال السجناء وبإيقاع التعذيب وشموليته واستمراريته. في السجن اياد وغيره في مهاجع الإسلاميين، بعض المهاجع للشيوعيين الاقل تنكيلا والاكثر حصولا على حاجاتهم. لديهم طعام أفضل وتعذيب اقل ولديهم الكتب وغيرها، مما حرم منها اياد و مهجعه و المهاجع المماثلة بالمطلق. مرت السنون على هذه الحال واياد يستخدم علمه كطبيب لخدمة رفاقه السجناء قدر طاقته، تتوطد علاقته مع رئيس المهجع الضابط السابق وغيره، ستتغير مهاجعهم بعد جائحة مرض السل و الجرب والكوليرا، الذين جاؤوا على فترات. الذي ادى لموت الكثير، سيوثق أعداد القتلى على الحائط خلفه عبر السبعة عشر سنة ليصلوا من مهجعه إلى ما يزيد عن الألف انسان. السجن يحوي ما يزيد عن العشرين ألف سجين . يستحضر اهله وزوجته وابنته الصغيرة، يتصورها وقد كبرت. هذا الاستحضار مع الأمل بان يخرج يوما ويراهم جعله لا يجن أو يدخل في متاهة الضياع العقلي. في السجن ستظهر بينهم أمراض الاختلاف الفكري في فهم الإسلام. حيث يختلفوا على الاحتفال بمولد النبي والصلاة عليه، التي اعتمدت كطريقة تساعد على التحمل. ستواجه من البعض كبدعة، وسيحصل بينهم كراهية وعداء وصدام جسدي، ينهيه السجانون بحفلة تعذيب تجعلهم لاكثر من اسبوع يضمدون جراحهم وكسورهم. ويعيدون رأب الصدع بينهم وليتذكروا عدوهم الأكبر السجن والسجانين والنظام. سيعتمدون على حلقات تحفيظ القرآن وعلى دروس الفقه، سيتميز في السجن أحدهم كمسيحي يحفظ القرآن ويحفّظه أنه يملك  من علوم الإسلام ما يزيد عن الكثيرين، سيكون نعم الاخ والمعيل سيعيش بينهم ويميته المرض ويذهب سره معه. في السجن أيضا سيحضر شيخ وقور ناجح في بلسمة الجراح النفسية، وخلق قدرة التحمل وطرح الإسلام كموحد بين الكل ورابط نفسي وعقدي وايماني يجعل المرء ينقذ نفسه قبل غيره. كريم تأتيه الزيارات وفيها الهدايا الكثيرة، يوزعها بالعدل ويخفف حياة العذاب ولو قليلا عن السجناء. في السنة السابعة عشر من سجن اياد تأتيه نفحة نفسيه يوقن في صباح يوم ومع صوت أذان الصبح الله أكبر من مساجد تدمر أنه سيخرج للحرية. لكنه سيدخل تجربة كادت تودي بعقله وروحه. صديقه في البلديات سيؤمن له كتاب من مهجع الشيوعيين، وسيبدأ بقراءته، وتعلم ادارة السجن، وتأتي إليه ويؤخذ الكتاب ويعذّب بشدّه. ثم يحول الى السيلول (وهو زنزانة انفرادية تحت الارض لا ضوء فيها. وصغيره لا يمكن للسجين النوم فيها مستلقي فقط واقفا او جالسا. لا يرى احد.  الطعام والشراب من تحت الباب يأتي، والمرحاض في زنزانته، الحشرات تنهش به، ووحدته تدفعه للجنون، استمر على هذه الحال سبعة أشهر خرج لا يعرف التكلم والإدراك والتفكير. واخبر ان عفوا من الرئيس قد جاء بحقه وحق بعض السجناء. كاد يجن وأخذ يفكر بغده وعودته لأهله. أُخذ مع بعض المفرج عنهم الى دمشق لم يصدق ان هناك حياة وان هناك بشرا يعيشون الحرية وأنه عائد إليها. من دمشق ذهب إلى بلده، وجد أمه قد ماتت وابوه تزوج ورحل من البلدة، وان ابنته قد اصبحت صبية، وأن زوجته ما زالت صابرة تنتظر عودته وانه قد رزق بطفل بعد اعتقاله فزوجته كانت حاملا. الطفل جاء للدنيا وهو معتقل، اسمه احمد على اسم أخيه، وهو الان مؤذن في المسجد، وهذا صوته يأتيه الله اكبر، يتذكر انه سمعها في احدى صباحات تدمر اتت له ببشرى الحرية.
.هنا تنتهي الرواية.
.وفي تحليلها نقول: لا يغني عن قراءة هذه الرواية (الشهادة) أي تلخيص رغم المعاناة المصاحبة لمعرفة ما كان يحصل،  لكن يجب أن نعرف ماذا فعل هذا النظام المستبد القمعي القاتل بشعبنا. ولنعرف ان ما يحصل الآن في مواجهة الربيع السوري وثورة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل التي قام بها شعبنا هي حق، وأن ما رد به النظام والدعم الدولي والإقليمي ضد الشعب السوري كان متوقعا، وان مئات الاف الشهداء. ومثلهم من المعتقلين، وملايين المشردين داخل سوريا وخارجها، وأن ما يزيد عن نصف سورية وبنيتها التحتية مدمّر. وان سورية مستباحة من النظام وحلفائه وداعش وكلهم أعداء للشعب السوري، وان هذا النظام مستعد ان يفعل اي شيء وكل شيء ليستمر مستعبدا هذا الشعب، ولكن شعبنا كسر قيده الى غير رجعة وهو ماض لتحقيق حقه الإنساني في العيش في الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الافضل. وما زلنا مستمرون.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى