حين صدر كتابي الحِواري مع صديقي كريم مروّة بعنوان “كريم مروة يتذكّر”، أقمنا في عام 2002 حفل توقيع للكتاب في مقر نقابة الصحافة اللبنانية في بيروت. آنذاك، توجهتْ إليّ مندوبة صحيفة النهار البيروتية بالسؤال: مع مَن سيكون حوارك المقبل؟ وكان محسن إبراهيم جالسًا بقربي إلى جانب كريم مروّة، فأشرت إلى أبو خالد على الفور قائلاً: سيكون مع محسن إبراهيم. ابتسم ولم يعلّق. لكنني كنتُ لجوجًا في هذا الأمر، وكثيرًا ما ذكّرتُه برغبتي في إجراء حوار مطول يصدر في كتاب وافٍ عنه، وعن تجربته المديدة في السياسة، ولعل لجاجتي طالت سنوات، إلى أن حسمها مرة بقوله لي: إذا قررتُ أن أنشر مذكراتي بطريقة الحوار، فستكونُ أنتَ، وليس غيرُك، صاحبَ الحوار. و”انطلى” عليّ كلامه، وما عدتُ أطالبه بذلك. ورحتُ أسأل المقرّبين منه، بين الفترة والفترة، هل بدأ محسن إبراهيم بكتابة مذكراته. وكانت الأجوبة حائرة وغير حاسمة؛ يقول بعضهم إنه يكتب، ويقول آخرون إنه يكتب ولكن لا يعرف ماذا يكتب. وحين كنتُ ألتقيه في مناسبات شتى، كنت أقبّله وأتحرّج، في الوقت نفسه، من سؤالي له عما يكتب. وكم كانت الراحة تنهال عليّ، حين يتناهى إلى سمعي أنه يكتب مذكّراته بالفعل، فمحسن إبراهيم ليس مجرّد شخصية من مناضلي لبنان، وليس مجرّد سياسي عربي بين مئات السياسيين اللامعين، وليس مجرّد شخص عرفتُه وأحببتهُ، إنما هو، علاوة على ذلك كله، شخصية نادرة وفريدة، وقليلا ما تتكرّر في العالم العربي.
كان قائدًا حقيقيًا منذ حقبة جمال عبد الناصر. ومعروف أنه كان حين يسافر إلى القاهرة، يلتقي عبد الناصر فورًا، وكثيرًا ما التقاه عفو الخاطر من دون مواعيد مسبقة. هكذا كانت مكانته لدى عبد الناصر. وفضلاً عن دماثته وأريحيته ومُلَحِهِ الدائمة، هو مناضل تاريخي ذو قامة، قلما تمكن كثيرون من الوقوف إلى جانبها غير كمال جنبلاط وياسر عرفات وأمثالهما. وهو، جرّاء تجربته النضالية الممتدة، خزينة أسرار الحياة السياسية اللبنانية، خصوصًا في حقبة الحرب الأهلية ورفقته الزعيم كمال جنبلاط، ومستودع أسرار المفاوضات السرية في أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. إنه طرازٌ فريد من الرجال الذين جمعوا إلى نضاليتهم العريقة الثقافة والوعي والالتزام والتواضع والسعي إلى اكتشاف المتغيرات والانسجام مع قانون التغير.
في عام 1959، وفي إطار حركة القوميين العرب، اقترح محسن إبراهيم تغيير كلمة “الثأر” في شعار الحركة (وحدة تحرر ثأر)، والاستعاضة عنها بعبارة “استعادة فلسطين”. واستطرادًا، كانت عبارة “حديد دم نار” تتمة شعار “وحدة تحرر ثأر”. وفي خمسينيات القرن المنصرم، انطلقت تظاهرة من الجامعة الأميركية إلى السراي الحكومي في بيروت، وارتفع شعار “حديد دم نار” من حناجر بعض الشبان. وعندما استقبل رئيس الحكومة سامي الصلح وفدًا من ممثلي المتظاهرين بادرهم بالقول: شو بابا. هيدا شعار سياسي أو شاورما؟ وكثيرًا ما كان يُلحّ على تغيير اسم “الشباب القومي العربي” إلى حركة القوميين العرب، وهذا ما كان. ومحسن إبراهيم مهجوس بعدم البقاء في المكان نفسه، بل بالتغير. وأقصد بالتغير هنا المعنى الذي ظل ماركس يردّده دائمًا بقوله إن الأمر الوحيد الذي لا يتغير هو قانون التغير. ومنذ عام 1990، كان محسن إبراهيم يشدّد على ضرورة إعادة النظر في المفاهيم والأفكار التي اعتنقتها منظمة العمل الشيوعي، ولا سيما الماركسية. وفي المؤتمر الرابع في عام 2018، تخلت المنظمة عن الماركسية، وأبقت على اشتراكيتها، فرأت، كما رأى محسن إبراهيم “أن التاريخ لم يحكم للماركسية، كمشروع للتغيير الاجتماعي، بالنجاح، بل حكم عليها بالفشل. لذا، لا محل اليوم لتقييد اشتراكيتنا بقيد الالتزام الكلي بالماركسية”.
.. ولد المناضل الكبير محسن إبراهيم في إحدى قرى لبنان الجنوبي في 1935. درس الحقوق، ونشط في الميدان الطالبي، وكان من أوائل الملتحقين بتنظيم الشباب القومي العربي الذي أسسه في 1951 كل من جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وحامد الجبوري وأحمد الخطيب وصالح شبل. وفي هذا الإطار، لمع محسن إبراهيم مناضلا وقائدا ومبتدع أفكار وذا إمكانات عالية في التنظيم والتواصل مع الفروع الخارجية. وبرزت قدراته في المرحلة الناصرية بعد ثورة 23 يوليو 1952، وامتد نشاطه إلى اليمن والجزائر، فضلاً عن لبنان. وبهذه الصفات حضر المؤتمر الأول لحركة القوميين العرب في عمّان في 25/12/1956، وانتخب في قيادة الحركة إلى جانب جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي وأحمد الخطيب وثابت المهايني ومصطفى بيضون وعدنان فرج والحكم دروزة وصبحي غوشة وصالح شبل. ومع أن محسن إبراهيم ارتبط بالناصرية ارتباطًا وثيقًا، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر في 1956، وبعد تحول مصر إلى مقر لحركات التحرّر الوطني في الجزائر وتونس والمغرب والكونغو واليمن، وإلى بلد يكافح الاستعمار مباشرة، ويناوئ تعبيراته السياسية كحلف بغداد والحلف الإسلامي، إلا أن محسن إبراهيم الذي هاله ما وقع في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وكتب في مجلة الحرية “لا لم يُهزم عبد الناصر”، عاد إلى مراجعة التجربة الناصرية في ضوء الهزيمة، ودشّن مع رفيقه محمد كشلي موسم نقد الناصرية والأحزاب القومية العربية، والتحول إلى الشيوعية، وسار معه في هذا الطريق نايف حواتمة وعبد الفتاح إسماعيل. وفي لبنان، أسس مع نفر من اليساريين الذين غادروا أحزابهم القومية في فترات مختلفة منظمة العمل الشيوعي التي تشكلت من منظمتين: حركة لبنان الاشتراكي التي ضمت بعثيين تركوا حزب البعث بعد الانفكاك عن الوحدة السورية – المصرية في 1961، أمثال وضاح شرارة وأحمد بيضون وفواز طرابلسي ومحمود سويد وكريستيان غازي ووداد شختورة، ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين التي أسسها في 1969 مع بعض رفاقه في حركة القوميين العرب وآخرين. وقد التقت المنظمتان في معمعان النضال المطلبي في لبنان، وفي سياق الدفاع عن المقاومة الفلسطينية، وشكلا في البداية “إدارة التنظيم الموحد”، ثم اتحدا معًا في 1970. وهكذا خرج اليسار الثوري الجديد في لبنان، لا من داخل الأحزاب الشيوعية القديمة، بل من رحم الأحزاب القومية، وبالتحديد البعث والقوميين العرب. ونشطت منظمة العمل الشيوعي بقيادة محسن إبراهيم في الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان، والاحتجاج على سياسة الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني في محاصرة العمل الفدائي في الجنوب.
.. تبلورت تجربته السياسية أكثر في نطاق الحركة الوطنية اللبنانية إلى جانب كمال جنبلاط وجورج حاوي، وتولى موقع الأمين العام التنفيذي للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية. وكان في تلك الأثناء المرشد السياسي لياسر عرفات إلى دهاليز السياسة اللبنانية وكهوفها الطائفية. ومع أن محسن إبراهيم كان الأقرب فكريًا إلى نايف حواتمة في بدايات التحول نحو الماركسية، وسارا معاً أشواطًا في السياسة والعمل العسكري، إلا أنه وجد في عرفات “اليميني” الحليف الثابت والدائم. وقيل مرة لياسر عرفات: أنت متهم بأنك يميني، فأجاب: كيف أكون يمينيًا وأنا أتلقى الأموال من دول الخليج العربي، وأشتري بها السلاح من ألمانيا الشرقية، وأدفع موازنات أحزاب الحركة الوطنية اليسارية؟
أعلن مع جورج حاوي في 16/9/1982 انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمّول)، وكان موقفه في أثناء الاجتياح الإسرائيلي مشرّفًا، ففي اجتماع البكاء في مقر منظمة العمل الشيوعي بعد اليوم الجهنمي الاسرائيلي في 12/8/1982، طلب القادة اللبنانيون “البيارتة” من ياسر عرفات الموافقة على الخروج من بيروت، فبكى بعض قادة الحركة الوطنية اللبنانية عندما سمعوا هذا الكلام، وانبرى محسن إبراهيم، ومعه جورج حاوي، ليقول لياسر عرفات: اتخذْ أنتَ الموقف الذي تراه ملائمًا، ونحن سنقاتل إلى جانبك، وإذا قررتَ الخروج من بيروت سنتحمل نحن تغطية ذلك بالقول إنه تم بناء على طلبنا.
دشّن محسن إبراهيم نقد الناصرية مبكرًا، أي بعد الانفصال في عام 1961، مع أنه ظل ناصريًا. لكنه استكمل عملية النقد بعد هزيمة 1967. ولم يتورّع عن نقد تجربة اليسار اللبناني أيضًا مع أنه كان أبرز قادة اليسار في طوره الجديد. ووصف الحرب الأهلية اللبنانية في شوطها الأخير بـِ “العبثية” التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من تفكيك لبنان وتدمير أركانه، وكان في جميع مواقفه شجاعًا ونزيهًا حتى النهاية. والنزاهة والعفة كانتا تسعيان إليه كأنه راهب نذر لنفسه هاتين الصفتين، فعاش طوال عمره وادعًا وديعًا قانعًا متواضعًا شريفًا بلا بهارج وزخارف من التي شاعت لدى بعض قادة اليسار اللبناني.
اتسعت أحلامه كثيرًا حتى طاولت العالم العربي بأسره. وشملت تطلعاته الوحدة العربية وطرد الاستعمار من الأرض العربية كلها، وتحرير فلسطين، وإقامة مجتمع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، اشتراكيًا أَكان ذلك المجتمع أم شيوعيًا. غير أن الأحلام الكبيرة تقلصت جرّاء المشروعات السياسية المجهضة. ومن علائم تلك الأحلام أن محسن إبراهيم كان واحدًا من أعضاء خلية التفاوض المصغرة والسرية في تونس إبّان مفاوضات أوسلو. وعندما جرى التوصل إلى الصيغة النهائية لاتفاق أوسلو في أغسطس/ آب 1993، عمّ الحبور وجوه ياسر عرفات ومحمود عباس وياسر عبد ربه وآخرين، فيما التفت محسن إبراهيم إلى عرفات قائلاً: الآن أصبحتم على طريق الدولة الفلسطينية. أما أنا فسأعود إلى لبنان لنبني دولة.
بعد سبعة وعشرين عامًا على “أوسلو” لم تنشأ دولة مستقلة في فلسطين. أما في لبنان الذي كان على هيئة دولة في حقبة ما، ها هي بقايا الدولة تكاد تتهاوى وتندثر. ولعل محسن إبراهيم أراد الرحيل قبل أن ترى عيناه الفصل الأخير في صراع الطوائف اللبنانية، بعدما ناضل في سبيل القضايا الكبرى سبعين سنة. فيا أيها الكبير الحبيب، يا أبا خالد، حبذا لو لم تخلف وعدك لي، ومنحتني قبسًا من تاريخك البهي في صورة حوار في كتاب، لأضع اسمي عليه إلى جانب اسمك الخالد.
المصدر: العربي الجديد